لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

قصص من سجون الإبعاد في الإمارات

في 18 فبراير 2015

في الثلاثين من أبريل ٢٠١٤، استدعى مركز الهجرة في إمارة عجمان المدون الفلسطيني إياد البغدادي. قاد إياد سيارته إلى المركز دون أن يعي بأنها ستكون رحلته الأخيرة في البلاد التي أعتبرها وطناً عاشت عائلته فيه لأكثر من أربعين عام. شهرة هذا المدون جاءت خلال الثورات العربية في عام ٢٠١١ حيث اشتهر بآرائه السياسية النقدية التي تشاركها مع مدونين عرب آخرين من خلال شبكة تويتر. هذه الشهرة جذبت عيون السلطات الإماراتية تجاهه. تابعوه عن قرب بانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليه واستخدام آرائه لحبسه في السجن.

بعد وصوله إلى النرويج، كتب إياد عبر تويتر "أنا منفي، لا تعتبروني مبعداً.” سبقه في رحلة النفي هذي المدون "البدون" أحمد عبدالخالق الذي اعتقل لأشهر قبل أن يتم نفيه إلى تايلاند. وقبل شهور، قامت السلطات بنفي شخص آخر هو الصحافي الأوغندي ياسين كاكاندي والذي عمل في الصحافة الاماراتية لعشر سنوات قبل نشره كتاباً يتناول فيه أوضاع الهجرة والإتجار بالبشر في الإمارات وهي مواضيع محرم الحديث فيها هناك. يذكرنا إياد أن هذه القرارات لا يمكن اعتبارها "ترحيلات" كما تصفها السلطات، بل أنها اجراءات قمعية تستهدف النقد والمعارضة. الدولة البوليسية تستغل الضعف القانوني للمهاجرين لتقوم بالتخلص منهم بسهولة ودون تقديم أية أسباب.

يوم الاعتقال

كنت أعلم أنهم سيلاحقونني يوماً ما لكنني لم أعرف متى سيأتي هذا اليوم. في ٢٠١٣، أظهرت احصائيات أن حسابي على تويتر من أكثر الحسابات فعالية وتأثيراً من الإمارات.” هذا الظهور الاعلامي وضع إياد وآرائه تحت مراقبة دقيقة لكن اللحظة الحاسمة جاءت بعد الانقلاب العسكري في مصر المدعوم من السعودية والإمارات. لم يتراجع إياد عن الاعتراض على الانقلاب ومجزرة رابعة العدوية مما جعله مستهدفاً من قبل موالي الأنظمة في مصر والإمارات.

تعرضت لحملة مفاجئة من قبل حسابات مجهولة على تويتر تطالب بطردي من الإمارات. أحياناً يبعثون بتغريدات إلى المسؤولين ليقوموا بمراقبة ما أكتب.” الكابوس بدأ مع موت صديق إياد، المدون المصري باسم صبري.

توجه إياد إلى مكتب الهجرة في الصباح التالي حيث كان ينتظره مسؤول إماراتي. دون تقديم أي شروحات، أخطره المسؤول بقرار الإبعاد الذي أصدر بحقه.

إلى أين سترسلوني؟ أنا لاجئ فلسطيني عشت هنا طوال حياتي ولن تأخذني أي بلد.”

فلسطين ستأخذك”

لكن أنا لاجئ، من يافا، لا يمكنني دخول فلسطين”

مصر ستأخذك”

لكن مصر تمنع دخولي”

هذه ليست مسؤوليتي. سيتكفل أحدهم بالأمر"

ما هي الأسباب؟"

لا أملك السلطة للسؤال عن الأسباب. عليك أن تتذكر ماذا قلت أو فعلت لتتسبب فيما يحصل"

هل هنالك تهمة؟"

لا لو كنت معتقلاً لأسباب أمنية لقمنا باعتقالك في بيتك بدلاً من استدعائك إلى هنا بهدوء"

هل الأمر متعلق بتأشيرة العمل؟"

الأمر لا يتعلق بأوراق الهجرة، بل أوامر عليا يجب تنفيذها بغض النظر عن وضعك القانوني.”

بعد هذه المحادثة المبهمة، قام أحد الحراس بتقييد يدين ورجلين إياد. طوال الوقت، لم يفكر إياد سوى بزوجته في البيت والتي كانت حبلى في الشهر السابع حينها. لطالما خشت الزوجة عواقب آراء زوجها السياسية.

أخذوني في مركبة نقل مع حارسين. قادوا السيارة إلى أبو ظبي لمدة ساعتين قبل أن نصل إلى مركز الشرطة حيث قاموا بتقييدي إلى رجل باكستاني بعد وصولي.”

كنت في غرفة لست ساعات مع الكثير من المهاجرين، أغلبهم من العمال. الكثير منهم مخالفون للإقامة رغم أن الكثير منهم أقاموا في الإمارات لفترات طويلة أو طوال حياتهم. كما كان أغلب المعتقلين من الجنوب-آسيويين أعتقلوا في نقاط تفتيش. كان هاتفي النقال معي وقتها قبل مصادرته فاتصلت بعائلتي. نقلت بعد ذلك إلى سجن الصدر في الظفرة وهو أحد السجون شديدة الحراسة.”

كان الحراس يضربون المساجين ويلكمونهم ويبصقون عليهم. أحدهم بملابس مدنية وقف بجانب الصف ليعطي تعليماته بالعربية وحينما يجد أن أحدهم لم يفهمه، يقوم بصفعه بقوة.

الهرمية العرقية في السجن

الأسوأ في سجون الإبعاد أن تكون من دول جنوب آسيا ولكن الأسوأ عن البقية أن تكون بنغلاديشي.” يتم تقسيم السجن إلى وحدات حسب الجنسيات. في وحدة إياد، لم يكن هنالك سوى العرب، بعضهم من عاش في الإمارات طوال حياته وآخرون "مخالفين للإقامة" أو علقوا في مشاكل مع كفلائهم. قضى إياد خمسة أيام في هذا السجن قبل ترحيله. يضيف إياد: “إن كان في كل زنزانة ١٠ رجال، ستجدين أن زنزانة للبنغلاديشيين فيها ٥٠ شخص في قطعة واحدة.”

سبق وأن وثُقت أوضاع السجون في الإمارات، على الرغم من محاولات الإعلام المحلي في الإمارات تحريف الحقيقة وتهميش تقارير المنظمات الدولية. ولأن المهاجرين يقعون تحت الرقابة الشديدة والتجريم المستمر فإنهم يتعرضون لظروف سيئة خلال الاعتقال ليتم حرمانهم من الدعم القانوني والمترجمين مع اجبارهم على التوقيع على اعترافات مجهزة وتركهم في السجون لفترات غير محددة أو ترحيلهم من دون إعطائهم الفرصة لحل مشاكلهم عبر القضاء. في تقرير لمركز الإمارات لحقوق الإنسان، قال شخص بانتظار عقوبة الإعدام في أحد سجون دبي: “وجه الشرطي مسدساً إلى رأسي وقال بأنه سيقتلني إن لم أعترف بأنني أبيع المخدرات.”

يقول إياد عن الرجال الذين التقاهم في سجن الصدر: “استمعت للكثير من القصص المؤلمة لفلسطينيين وسوريين. هؤلاء خاصة لا تعرف السلطات إلى أين ترحلهم لذا يبقون في السجون لفترات غير محددة.”

أحدهم عمل في محل للحلويات إلا أن المبنى الذي كان يعمل فيه احترق. بالنتيجة، لم يستطع الرجل تجديد رخصة المحل وأصبح مخالفاً في البلاد.” أغلب من التقاهم إياد كانوا شباباً وبعضهم في الأربعين. ذكر إياد رجلاً مصرياً عمل كقاضي في الإمارات لـ ١٥ عام وكان قد قضى عاماً في السجن قبل ترحيله بسبب استدعائه وزير الداخلية الإماراتي ليقدم شهادته في قضية فساد عرضت عليه في المحكمة.

الفساد داخل السجن قصة كبيرة أخرى. يقوم الحراس باستخدام المساجين لينظموا رفاقهم في الإجراءات اليومية مثل الأكل مقابل السماح لهم بالقيام بمكالمة أو خدمات صغيرة من هذا القبيل. كما يتكفل السجناء بتنظيف الزنازين وهي فرصتهم الوحيدة للقيام بعمل جسدي. خلال الأيام التي قضاها إياد، اكتشف أن المساجين ممنوعين من الخروج إلا من أجل الوجبات اليومية. يجلس السجناء على أرضية باحة السجن الحارقة تحت شمس أبريل في أوقات الأكل:

كانت الأرضية قذرة مليئة بالبصاق والمجاري. كنا مطالبين بالجلوس على هذه الأرضية خلال الوجبات. وكان الأكل أسوأ من أكل الكلاب.”

لم يحصل إياد على ملابس لتغيير البدلة التي كان يرتديها وقت اعتقاله. أخبره الحراس أن على عائلته جلب ملابس له أو شراء ملابس من عربة البقالة في باحة السجن. “الأكل والثياب التي تبيعها هذه العربة سيئة جداً وتباع بأضعاف سعرها الحقيقي.”

المسؤولون في السجن إماراتيين إلا أن أغلب الحراس من العمانيين تم توظيفهم من خلال شركات خاصة، كما تواجد بعض السودانيون والنيباليون.

غالباً ما يتلقى البنغلاديشيون والباكستانيون معاملة سيئة من الحراس. المهاجر الهندي يحصل على معاملة أفضل لأن السفارة الهندية ترسل أحداً بشكل منتظم ليتابع أحوالهم. والمثل بالنسبة للفلبينيين.”

خلال ساعات الزيارة، لاحظت وجود معتقل سياسي إماراتي وكيف يقوم الحراس بمعاملته باحترام. كان اسمه الدكتور علي الحمادي وهو أحد المعتقلين السياسيين السبعة الذين اعتقلوا لمطالبتهم بإصلاحات، كما قامت السلطات بتجريده من جنسيته. بشكل عام، تتم معاملة المساجين بشكل أفضل من أولئك المعتقلين بهدف الإبعاد.”

ويشرح إياد فرق المعاملة بين الاثنين بالقول أن المبعدين يتم اعتبارهم قانونياً "خارج البلاد". بمعنى أنهم بلا سجلات ولا يمكن إيجادهم بسهولة مما يؤدي إلى فترات اعتقال أطول لمن لا يحصل على مساعدة من سفارته. الأسوأ أن سجون الإبعاد تعتبر "مؤقتة" وهو ما يستخدم كحجة لمنع المنظمات الدولية من زيارتها.

أشكال التعذيب

في الزنازين المزدحمة، لا يعرف الكثير من المهاجرين ما التهم التي جاءت بهم إلى السجن. التقى إياد بمساجين اضطروا لتوقيع أوراق عند اعتقالهم دون معرفة محتواها لأن كل الأوراق الرسمية مكتوبة بالعربية. الكثير منهم اعتقلوا بسبب قيام كفلائهم بالتبليغ عنهم كمتغيبين وهي استراتيجية معتادة من قبل أرباب العمل في الخليج لمعاقبة العمال في حالة تقديمهم شكاوى قانونية أو للتخلص من مسؤولياتهم ككفلاء أو للحصول على المزيد من العمال والتكسب منهم.

خلال الأيام التي قضاها في سجن الصدر، شهد إياد حالة شخص مضطرب عقلياً كان ينادي على الحراس كل ليلة دون رد وحين يقوم بتوجيه الشتائم لهم، يجرونه إلى باحة السجن لينهالوا عليه ضرباً. رجل آخر من سيرلانكا كان يعاني من الهلوسات فيأخذه الحراس لضربه وتخديره قبل إعادته إلى الزنزانة.

حينما مر إياد بنوبة من الربو، أخذه الحراس لعيادة السجن بعد ٤ ساعات من طلبه المساعدة.

رجل آخر جاء من السعودية من أجل رحلة سياحية ولكنه تاه عن مجموعته. اعتقلته السلطات بقولهم أنه "أكثر سواداً من أن يكون سعودياً" ورغم تفسيراته ورجائه، لم يصدقوه.

الخروج غير مجاني

عملية الخروج من السجن إلى الإبعاد تقتضي يوماً كاملاً حيث يمر الجميع بمسح إلكتروني شامل للتأكد من عدم دخولهم البلاد مرة أخرى. البعض يحاول تفادي هذه المرحلة إلا أن إياد مر بها مع عدد كبير من المهاجرين. البعض يحاول البقاء في السجن من خلال تلفيق قضايا ضد أنفسهم بمساعدة أصدقاء لهم خارج السجن، مثل خلق ديون عليهم تمنع ترحيلهم.

يستذكر إياد ذاك اليوم: “كان الحراس يضربون المساجين ويلكمونهم ويبصقون عليهم. أحدهم بملابس مدنية وقف بجانب الصف ليعطي تعليماته بالعربية وحينما يجد أن أحدهم لم يفهمه، يقوم بصفعه بقوة. أغلب هؤلاء من الباكستانيين والبنغلاديشيين. من الجانب الآخر من الغرفة، سمعت رجال الشرطة يهتفون لزميلهم بعد كل صفعة رنانة يوجهها لأحد المرحلين.”

في يوم ترحيله، التقى إياد ببعض الإماراتيين والخليجيين ممن كانوا ينتظرون الإبعاد. أحدهم متهم بالتجسس لأن والدته قطرية وكان يعمل في قطر. بقي هذا الرجل محبوساً لتسعة شهور قبل ترحيله. شاب آخر قامت عائلته بالتبرأ منه فقررت السلطات ترحيله إلى الهند لأن والدته هندية.

رجل آخر جاء من السعودية من أجل رحلة سياحية ولكنه تاه عن مجموعته. اعتقلته السلطات بقولهم أنه "أكثر سواداً من أن يكون سعودياً" ورغم تفسيراته ورجائه، لم يصدقوه. حينما حاول السجناء إزعاجه في هذا الموضوع، اضطر لتبرير نفسه "أنا سعودي، والدي وجدي ولدا في السعودية. لربما أجدادي جاءوا من أفريقيا لا أعلم، لكن ذلك ليس ذنبي.” قصته تذكرنا بقصة سعودي أسود اعتقل لعشرة أيام قبل أن يتم ترحيله إلى نيجيريا بعدما ظن رجال الشرطة بأنه "مهاجر أفريقي مخالف.”

المعاملة التمييزية لا تنتهي مع الخروج من السجن فقبل الذهاب إلى المطار، عرف إياد بأن من يرغب بالسفر عبر مطار مدني ودون أن يتم تقييده، عليه شراء تذكرته. أما أولئك الغير قادرين على التكفل بتذاكر سفرهم فأنهم يبقون مقيدين حتى على متن الطائرة ويتم ترحيلهم من خلال مطارات عسكرية. أغلب الطيارات العسكرية ذاهبة إلى بنغلاديش وباكستان.

وبينما ينتظر إياد في المطار، التقى برجل نيجيري كان في طريقه لترك الإمارات بعد انتهاء مدة تأشيرته. وحينما حاول هذا الرجل دفع الغرامة المالية لبقائه أكثر من المدة المسموحة، اعتقلته شرطة المطار بقولهم أنه عليهم اعتقاله أولاً ثم ترحيله بشكل نهائي بسبب مخالفته فترة الإقامة.

اليوم، يعيش إياد لاجئاً مرة أخرى بانتظار الموافقة على طلبه للجوء في النرويج قبل أن يجتمع بزوجته وطفله مرة أخرى.

لاجئ مرة أخرى

المساجين مثل إياد لا يملكون حتى حق اختيار وجهة سفرهم حيث اختارت السلطات منفاه الذي يجب عليه القبول به أو البقاء في السجن. في ٢٠١١، تم نفي أحمد عبدالخالق إلى تايلاند قبل أن يحصل على اللجوء في كندا. أما إياد فتم ارساله إلى ماليزيا.

ما يميز ماليزيا وتايلاند أنها تبدو كوجهات سياحية اعتيادية إلا أن دولها تتعاون عن قرب مع الأنظمة الخليجية. سبق وأن قامت ماليزيا بملاحقة المدون السوداني أمير محمد نصر بعد منع كتابه ليضطر بعد ذلك للجوء إلى كندا. في ٢٠١٢، قامت السلطات الماليزية بترحيل المدون السعودي حمزة كاشغري إلى السعودية التي هرب منها بعد صدور قرار باعتقاله.

وصل إياد إلى ماليزيا في ١٣ من مايو ٢٠١٤ وظل عالقاً في المطار لثلاث أسابيع. استطاع إياد الخروج من المطار بعدما أصدرت السلطات الفلسطينية وثيقة وطنية له.

قصة إياد مع النزوح بدأت في ١٩٤٨ حينما كان والده رضيعاً وهربت عائلته من يافا بعد تأسيس دولة اسرائيل. مثل الآلاف من الفلسطينيين، أصبحت عائلته من بين اللاجئين من حملة "الوثيقة المصرية" ومن ثم انتقل والده إلى الإمارات في عام ١٩٧٤. ولد إياد في الكويت لكنه تربى وتعلم في الشارقة وعجمان. حتى صيف ٢٠١٤، كانت الإمارات وطنه وبيته.

اليوم، يعيش إياد لاجئاً مرة أخرى بانتظار الموافقة على طلبه للجوء في النرويج قبل أن يجتمع بزوجته وطفله مرة أخرى. ابن إياد يمثل الجيل الرابع في عائلة من اللاجئين لكننا نأمل أن تكون هذه التجربة الأخيرة.