لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

عن مصر؛ البلد العنصريّ الذي نحبّه

في 25 مارس 2014

بعد ستّ محاولات فاشلة انتهت جميعها بالعودة إلى غزّة، دخلت مصر في المرّة السابعة وقد سحب جهاز "أمن الدولة" جواز سفري وأعطاني عوضًا عنه ورقة صفراء وضعتها مع شهادة الثانوية العامّة وبعض الصور العائليّة  في حقيبة الكتف الوحيدة التي كانت معي. بعد الخروج من بوابة المعبر الأخيرة ابتعت شريحة "فودافون" من شاب سيناويّ غضب منّي حين اعتبرته، بعفوية وطيب نية، مصريًا. نظر في عينيّ نظرة ربّما لم يكن يتقصّد أن تكون عميقة كما كانت وقال لي: أنا لست مصريًا. أنا بدويّ.

بعد ثلاث سنوات، خرجت من القاهرة إلى لندن وقد سقط مبارك وانتهى حكم المجلس العسكري وفاز محمّد مرسي في الانتخابات قبل أن يزيحه السيسي الذي وضعنا صورته على باب شقّتنا الأخيرة في وسط البلد لأسباب تراوحت بين المزاح ودرء الشبهات بعد أن اكتشفنا، متأخرين، أنّ خطّتنا لإيهام الجميع بأننا من الأردن، لا من فلسطين، قد باءت بالفشل.

كان معي وقت المغادرة حقيبة سفر بنيّة اللون، متوسطة الحجم، وضعت فيها من المقتنيات والذكريات والأسئلة ما وزنه أكثر بكثير من العشرين كيلوجرام التي ظهرت على ميزان مكتب خطوط الطيران البريطانيّة. في التاكسي الذي أخذني واثنين من الأصدقاء إلى المطار استمعنا إلى أغنيتين تمثلان مصر بتناقضاتها المتعددة: "بلاد طيبة" لمحمّد منير وأنوشكا، و"تسلم الأيادي".

في المطار، أمسك الشرطيّ الواقف على بوابة "البوردينج" جواز سفري الجديد الذي تحصّلت عليه بطلوع الرّوح بعد الثورة (الجواز الذي سحبه أمن الدولة ضاع. لم أجده في أيِّ من مقرات أمن الدولة في العاصمة) وسألني عن  وجهتي. كان يتعجّب من أنّ فلسطينيًا من غزّة ذاهبٌ إلى لندن. نظرّ إليّ من تحت لفوق وسألني: "مفيش حاجة علينا؟". مددت يدي إلى جيبي وأعطيته عشرة جنيهات. إنّ التعبير الشهير "ختامها مسك" لا ينطبق على مصر. في مصر التي أعرفها يصير التعبير: ختامها رشوة.

لم يمض وقت طويل على إقامتي في مصر حتّى بدأت أكوّن وعيًا بمسألتين لطالما تعاركتا في حصّة مصر من قلبي: لقد وقعت في غرام هذا البلد لكنني وقعت أيضًا في فخّ رداءته العظمى وقراره المدعوم من جهات سيادة بأن لا يبادلني الحبّ ولا حتّى الاحترام. في أحد مشاويري من الزمالك إلى وسط البلد قال لي سائق التاكسي بعدما دردشنا قليلاً وعرف أنني فلسطيني: "إحنا عندنا مثل بيقول لو صباعك فلسطيني اقطعه". رددت عليه بصوت محايد وقلت له: "ليه يا عم كده؟" قلت له ذلك وأنا أتمنى في داخلي أن أضع دبلوماسيتي على الرّف وأدحش، بكلّ لباقة، اصبعي في عينه.

هذه الرغبات بأن أدحش اصبعي في عين السّائق، أو أن أبصق في وجه صاحب العقار الذي "لا يؤجر فلسطينيين" في ستّة أكتوبر، أو أن أعكف على اغتيال دكتور الجامعة الذي يتّهم الفلسطينيين بالمسؤولية عن كل سرقات السيارات في الجمهورية، هذه الرغبات لم تصمد معي طويلاً. مع مرور الوقت وازدياد فهمي لتعقيد الوضع المصري ولتراكم الخراء الرسمي في عقول وصدور قطاع واسع من الشّعب بدأت أستوعب أن ثمّة ما هو أكبر منّا جميعًا. إنها الدولة.

يمكن العثور بسهولة على نزعات عنصرية عند الكثير من المصريين تجاه الفلسطينيين خصوصًا، وتجاه كل ما هو ليس مصريًا-سنيًا-ذكرًا بشكل عام. لكنّ ما لدى المصريين كشعب، كفضاء عام، ليس سوى المُنتج الذي يسهل تسويقه في ظلّ بنية اجتماعيّة مضروبة، وبنية اقتصاديّة مثيرة للشفقة وعمليات إعادة إنتاج لأساطير وخزعبلات مصريّة "أصيلة". أمّا المصنع، السفينة الأم، فهي ليست قلوب المصريين ولا عقولهم، بل ماكينة نظامهم الإعلاميّة وقدرة دولتهم "العميقة" على التشويه والتضليل والتزييف وقوننة الظلم والتمييز.

إنّ التعامل الأمني مع الفلسطيني واعتبار كلّ الفلسطينيين المتواجدين على الأرض المصريّة خطرًا أمنيًا محتملاً ليست سياسة وليدة اليوم، ولا الأمس. إنّها لازمة ثابتة على مدار عقود مضت. صار لهذه اللازمة سقفها السياسيّ وبعدها القوميّ بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. عن هذه اللازمة، ومنها، تحدث الشاعر الفلسطينيّ راشد حسين الذي هبط في مطار العاصمة المصريّة عام 1972 ظانًا أنها ستحتضنه وترحّب به فلطعه رجال الأمن فيها ساعات وساعات حتى ارتجل وكتب: واقفٌ كلّي مذلة/ في مطار القاهرة./ ليتني كنتُ حبيسًا/ في سجون النّاصرة.

يُضاف إلى التعامل الأمني من منع من دخول البلاد، وسحب الجوازات، والمراجعات الدوريّة لأمن الدولة والمخابرات، ومنع الفلسطيني لأمّ مصرية من الحصول على الجنسية، ثمّة كومة هائلة من التشويه الإعلاميّ الذي يزيد ويخفّ، لكنّه أبدًا لا ينقطع. لا زلت أتذكر بصفاء عدد جريدة "المصري اليوم" الذي "انفردت" فيه بنشر مكالمة بين قادة من الإخوان وآخرين من حماس حيث يقول فيها الحمساويون: "إحنا ورا المتحف ومعانا المقلاع". عندما يتصدر تخريف كهذا الصفحة الأولى لأهم جريدة مصريّة خاصّة يكون السؤال: هل ثمّة جدرانٌ تكفي لنضرب بها رأسنا؟

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. قال بعض النشطاء المصريين المعروفون (هُنا يتنقل البؤس والتشويه إلى مستوى "شباب الثورة") إنّ فلسطينيين كانوا يحرسون مقرّ جماعة الإخوان المسلمين في المقطم. ما هي حجّتهم؟ أنّ المسلحين من حرّاس المقر كانوا يطلقون النار، ويصيبون! كيف لمصريّ أن يطلق النار ويصيب؟ ما دام حامل البندقية ماهرًا فلابدّ أن يكون فلسطينيًا، أليس كذلك؟ يُضاف إلى ذلك خطة فلسطينيي غزّة للاستيلاء على سيناء بعد أن "باعوا أرضهم"، ناهيك عن قيام كتائب القسّام بفتح كافة السجون أثناء الثورة، وانقطاع الكهرباء والبنزين في القاهرة علشان "كلّه راح غزّة".

أتذكّر جيدًا نقاشاتي مع أصدقاء أردنيين، قبل الثورة وبعدها، حيث كانوا يبدُون امتعاضهم بشكل دائم من بؤس المعاملات الإداريّة المصرية وعدم أمانة سائقي الأجرة وكيف أنّ مصر بلد "مش مضبوطة". هذا، طبعًا، على الرغم من أن جواز سفرهم الأردني يقيهم برد العنصريّة المصريّة. كان هؤلاء قد أصيبوا بشيء ما من خدش اليقين وفقدان الإحساس بالتفوّق بعد انتقالهم من الأردن أو إحدى دول الخليج التي يكون فيها المصريّون أقليّة تخضع عادة للتمييز إلى مصر؛ البلد التي كلُّها مصريون!

كانوا يخلُصون بعد انتهاء وصلة الشكاوى إلى أنّهم ينتظرون بفارغ الصبر تلك اللحظة التي ينتهون فيها من تعليمهم ليغادروا هذا البلد التعبان ويتوجهوا بجواز سفرهم إلى مطار القاهرة. بعضهم كان يشطح ويقول بأنه عازمٌ تمام العزم على أنّ يفكّ حزامه وينزل لباسه الداخليّ و"يطرطر" على أمّ الدنيا حتى يشفي غليله قبل أن تغادر الطائرة الأجواء المصريّة. كانوا يضحكون، وكنت أضحك.

أنا لم أرغب بأن "أطرطر" على مصر عندما ركبت طائرة الخطوط البريطانيّة المتوجهة إلى لندن. كنت أشعر بالحزن وكان ثمّة غصّة حقيقيّة في صدري سببها حقيقة أنني لم أكن أسافر من مصر، هكذا، بشكل عادي، بل كنت أهرب منها. أهرب من شرطتها الفاسدة وجيشها المتغوّل وقوانينها العوجاء. أهرب من زحمتها وجرائدها وتحرّشها الجنسي وجسورها وشمسها ولونها الأصفر وفشلها المتوارث في صنع فنجان قهوة سليم.

كنت أهرب من العنصريّة الثابتة والمثبتة بحقّ الفلسطينيين في مقرات الأجهزة الأمنية والمؤسسات الرسميّة والمطارات والمنافذ الحدوديّة ووسائل الإعلام والبنوك، بل وحتى في عقول لفيف لا يُستهان به من الكتّاب والتقدميين واليساريين ونشطاء الثورة والتغيير. كما أنني كنت أهرب، بنفس القوّة، من يد البعض الحانية التي لا تزال تفهم فلسطين كما فهمها جمال عبد النّاصر أو حسن البنّا. هذه القلّة التي ترتدي الكوفيّة صباح مساء وتسأل غير مرّة عن قوّة الجبهة الشعبيّة وانبعاث اليسار الفلسطيني، أو تحفظ نشيد "في سبيل الله نمضي" وتصرّح أن أمنية حياتها أن تصلّي في الأقصى الذي يعيث فيه "اليهود" فسادًا.

ولكن لماذا، بعد كلّ هذا الهرب، لا زلت أبادر من أعرف من لهجته أنّه مصري بالكلام وكأنّي عثرت على كنز ضائع؟ لماذا حزنت حين دمّرت غانا المنتخب المصريّ؟ لماذا أظلّ أختبر نفسي بشكل دائم حول أسماء الشوارع في الزمالك والمهندسين ووسط البلد وجاردن سيتي؟ ولماذا أشتم لندن الهادئة الرماديّة وأتمنى لو أستطيع الجلوس على قهوة الندوة الثقافيّة لأعلك الهواء وأدخّن أكثر من نصف علبة سجائر قبل أن أتوجه كي "أضرب كبدة" من عند الكحلاوي وأختم يومي بشرب البيرة في الحريّة؟

ربّما لأنني أحبُّ مصر. لكنّ قلبي الذي يحبُّها يظلّ يحرّضني، في نفس الوقت، على نسيانها. يخرُج لي لسانه ويقول: أتحبُّها يا مغفّل؟ إنها لا تبادلك الحب. إنها حتّى لا تتذكرك ولن تتذكرك إلا إذا عتّبت بابها ثانية لا لشيء إلا لترميك في متاهاتها من جديد. يكاد هذا القلب الملعون أن يدخّن غليونًا، يضع رجلاً فوق الأخرى ويقول لي إذا ما حاججته بكل الفرح الذي عشته في أم الدنيا: " وكم ذا بمصرَ من المُضحكات .. ولكنّه ضحكٌ كالبكا".

- محمود عمر، كاتب فلسطيني صاحب مدونة "سيرة لاجئ"