لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الكويت وسؤال الانتماء: شهادة من الجيل الثاني

في 16 مايو 2014

يزن السعدي *

انتقل والداي إلى الكويت من سوريا في سبعينات القرن الماضي ضمن موجة هجرات إلى بلد وعدتهم بثروة وفرص عمل. بدأوا حياة هناك مقدمين دمائهم وعرقهم ودموعهم لبناء البلد. كانوا مهندسين اشتركوا في تصميم وتشييد الكثير من الطرق العامة والمعالم التي أصبحت جزءاً من الهوية الوطنية الكويتية. الدم، العرق، والدموع كانت ومازالت تراق في هذا العمل مكلفة إياهم الكثير، وأكثر مما يمكن شرحه.

ولدت في الكويت في بدايات الثمانينات. كنا نعيش في شقة في منطقة "الرقعي" التي كانت قبل الغزو العراقي منطقة جذابة وتحت التطوير. كانت وجهة للمهاجرين الشباب الموظفين. بالنسبة لوالدّي، تلك السنين كانت سنيناً جيدة يتذكرونها بحنين; اللقاءات الطريفة في البيت ورحلات العطلة الأسبوعية إلى البصرة، وبدايات بيت لعائلتنا الصغيرة، والدّي وأختي وأنا.

خلال طفولتي، لم أشعر بالفروقات بيني وبين الآخرين. كان لدي أصدقاء من عائلات مختلفة، بعضهم كويتيين، والبعض الآخر عرب بالإضافة إلى شخص أو اثنين من الغربيين في المدرسة. بعض هؤلاء مازال أقرب الأصدقاء لي حتى الآن. كان لي أصدقاء من جنوب آسيا وكنا نلعب الكريكت في الساحات الترابية بشكل مستمر ونحتفل كل عام بعيد الربيع بالألوان والعبث.

حينما تكون طفلاً، لا يمكنك ملاحظة إشكاليات ومشاكل المجتمع الذي تعيش فيه. لوقت طويل، لم أكن أعي اختلافي كغير كويتي. في ذلك الوقت، لم أشعر بأنني ملزم بالرضوخ للثقافة المهيمنة. ربما لأنني كنت في مدرسة خاصة أجنبية تروج لثقافتها الإمبريالية التي بدورها تخلق اضطرابات أخرى في فهمنا لهوياتنا.

لم أعي الواقع من حولي حتى تركت الكويت من أجل التعليم الجامعي وعدت بعد التخرج. كـ "ذكر بالغ"، أصبح تجديد إقامتي هم كبير. للأسف، لولا الجواز الأجنبي الذي أملكه بجانب الجواز السوري، لما استطعت العودة والإقامة في البلد الذي ولدت فيه. تخيلوا. لو كنت بجواز سوري فقط، أين سينتهي الأمر بي الآن؟ بالتأكيد ليس في الكويت التي لطالما تشددت مع العمالة السورية، وخاصة بعد الثورة.

عودتي إلى الكويت بوعي جديد ونضج أظهرت لي الجانب الآخر من الكويت. أحب البلد وذكرياتها والأصدقاء والفرص التي قدمتها لنا إلا أن هذا الحب، مثل أي حب، له حدود.

كنت واعياً بوجود العنصرية قبل رحيلي; سمعت ورأيت تصرفات كويتيين (وحتى عرب من غير الكويتيين) تجاه الجنوب-آسيويين. يلقون البيض عليهم. حتى الدعابات التي قد تبدو غير مؤذية كانت علامة من علامات مرض مستمر. المعاملة السيئة للعمالة المنزلية في الأماكن العامة والبيوت والإعلام. كل هذه المظاهر كانت موجودة إلا أنني لم أنتبه لها. كلها ظهرت بشكل جلي لي حين صرت أنظر للبلد بعيون جديدة-قديمة.

قد سيارتك إلى منطقة "بيان" لتشاهد الشوارع النظيفة الواسعة. البيوت الضخمة. البنية التحتية القوية. ثم اذهب إلى جليب الشيوخ لترى عالماً آخر. الناس، المجاري على جوانب الشارع.

منطقة يسيطر عليها الكويتيون وأخرى لعمال مهاجرين فقراء. الفرق بينهما ٣٠ دقيقة فقط، إلا أن قصر الوقت لا يعكس الاختلافات الشاسعة بين الاثنين.

نادراً ما يزور أصحاب الامتياز المناطق الفقيرة.

ونادراً ما يذهبون إلى مناطق مثل الجهراء حيث يعيش "البدون". هنالك قصص رعب تقال عن تلك الأماكن، وكأنها الـ "wild west" للكويت، أو قارة مظلمة وغريبة. لا تذهب إلى هناك، يقولون لك، أشياء سيئة قد تحدث!

ترى لوحة "الجهراء" في الشارع ودون وعي تشعر بأنفاسك ودقات قلبك تتسارع.

حين أفكر بكل ذلك الآن، أضحك. ذهبت إلى المكانين، الجليب والجهراء. هنالك فقر ولا شيء آخر مرعب فيهما. ما أشعر به هو الحزن والعجز تجاه بلد غني لا يعتني بمن يعيشون فيه. بالتأكيد، كلنا نعرف لماذا لا تقوم السلطات بالاعتناء بهذه المناطق. بإمكانهم صرف الملايين على الألعاب النارية ليذهلوا العامة والعالم لدقائق قليلة، ولكنهم لن يصرفوا الملايين على نظام مجاري جيد في هذه المناطق.. الأمور معقدة، هكذا يدعون!

ليس كل كويتي عنصري وطبقي. الكثير ممن أعرفهم يقرفون من شعور الوفقية لدى أقرانهم أو الظاهر في الإعلام أو المعبّر عنه في الأحاديث العائلية في البيوت. والكثير منهم يحاربون، بطرقهم الصغيرة من أجل تغييرات تدريجية في مساحاتهم الخاصة. هنالك لطف وإمكانية في هذه المحاولات مدفوعة بمشاعر العجز تجاه الفساد و"الواسطة" والمماطلة الناتجة عن نظام ثري.

ولكن هل بإمكاني حقاً أن أشارك في نقاشات عن مستقبل الكويت؟ سؤال يرادوني كل مرة يتناقش أصدقائي في الديوانية. بعضهم يقول لي أنني مشارك معهم، ولو بشكل شرفي. ولكن الفرق سيكون دائماً موجود، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

هل لدي الحق في المشاركة كأجنبي بما أن الوثائق الرسمية لا تصنفني ككويتي؟ كيف يتم تعريف الكويتي؟ ربما هذه أسئلة للفلاسفة والسياسيين والمحامين. إلا أنها أيضاً أسئلة من المهم أن يتشارك الجميع في مناقشتها بدلاً من تجاهلها.

كلما عرفت المزيد عن تاريخ الكويت وناسها، أعيش حالة تنازع بين الإعجاب والإحباط. يتمتعون بحس استقلالي قوي ضد السلطة بإمكانه أن يؤدي إلى تغييرات رائعة في منطقة الخليج التي تسيطر عليها أنظمة ملكية قمعية.

أفكر أحياناً: كيف سيشعرون لو عرفوا كيف أنظر إليهم؟ هل سيشعرون بتشجيع للاستمرار في نضالهم؟ هل سيشعرون بالعار أم الإطراء؟ هل سيعتقدون بأنني أراهم مثلما يرون أنفسهم؟

هل الكويت وطني؟ أحب أن أعتقد ذلك. على الأقل وطن من بين عدة أوطان خلقتها في حياتي القصيرة. إنها مكان تشكلت فيه أحلامي وذكرياتي. الكويت وطني مثل سوريا وأماكن غيرها. وطن بعيوبه وجروحه وجمالياته. وبإمكانه أن يكون أكثر من ذلك بكثير.

* يزن السعدي كاتب وباحث وصحافي مقيم في لبنان.