لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

بانتظار العدالة.. العمال المهاجرون يتشردون في قطر

في 26 يناير 2016

 

خارج أسوار السفارة الهندية في الدوحة بقَطر توجد مساحة مفتوحة يسميها بعض الناس "حديقة"، تحولت إلى بيت يأوي في كافة الأوقات عمالاً مهاجرين يحاولون شق طريقهم الوعر إلى المطار بهدف العودة إلى أوطانهم، إثر وقوعهم تحت رحمة رب عمل أو كفيل يحتجز جوازات سفرهم ويتحكم بمغادرتهم.

كان هناك نصف دزينة من العمال مستقرين في الحديقة أثناء جولتنا في المنطقة. ينامون على ألواح كرتونية ويستخدمون منافع السفارة والجامع المجاور. ولحسن حظ العمال المنسيين في غربتهم أننا في فصل الشتاء مما يجنّبهم شدة حر الصيف القطري التي لا تطاق.

قد تختلف تفاصيل قصص العمال عن بعضها لكنها من حيث الأساس متشابهة، فجميعهم قرروا ترك أرباب عملهم إما لسوء المعاملة أو لعدم تلقيهم أجورهم، ثم اتجهوا صوب السفارة التي تزودهم برسالة نموذجية تتضمن طلباً بترحيل حاملها من البلد وموجهة لمدير قسم البحث والمتابعة التابع لوزارة الداخلية والذي يسميه العمال قسم التحقيقات الجنائية.

الحديقة الواقعة مقابل السفارة الهندية في منطقة هلال، بالدوحة. مأوى العمال المصادرة جوازات سفرهم

الحديقة الواقعة مقابل السفارة الهندية في منطقة هلال، بالدوحة. مأوى العمال المصادرة جوازات سفرهم

إحدى تلك الرسائل الصادرة في أواسط شهر أكتوبر أمضى صاحبها فترة تزيد عن الشهر قاطعاً المسافة التي تفوق العشرين كيلومتراً بين حيّ هلال حيث تقع السفارة وسط المدينة، وحيّ الريّان حيث يقع قسم البحث والمتابعة، بشكل يومي، ونظراً لعدم وجود خط مباشر للحافلات بين الحيين يدفع مبلغ أربعين ريال قطري (11$ تقريباً) أجرة رحلة ذهاب وإياب إذا اشترك مع راكب ثانٍ باستئجار سيارة عمومية. وبما أنه لم يكن قد تلقى راتبه منذ شهرين، علاوة على أن ما قبضه عن عمله لمدة ثلاثة أشهر كان أقل مما وُعد به، فقد كان يستدين ريالات الرحلة الأربعين أو يحصل عليها كتبرع، ويقضي بعض أيامه جائعاً بلا طعام.

"لقد وعدوني براتب قدره 2500 ريال، لكنهم دفعوا لي 1100 ريال عن الشهر الأول من العمل و1000 ريال عن الثاني ثم 700 فقط عن الشهر الثالث. وكان الاتفاق على أن أعمل سائقاً لكنني وجدت نفسي أعمل خادماً لأسرة كاملة مكونة من خمسة أفراد. لم يقدموا لي أي طعام فكنت أدفع ثمن الطعام من راتبي. ولم أعد أستطيع الاحتمال أكثر فقررت تركهم".

وعندما قصد السفارة طلباً للمساعدة، أدرجت التفاصيل المتعلقة بقصته ضمن الرسالة النموذجية وحوّلته إلى قسم التحقيقات الجنائية. يُصنَّف السائق عموماُ ضمن فئة العمالة المنزلية ولا يشمله قانون العمل بأي نوع من الحماية، والجهة الوحيدة التي يمكن أن تعينه هي وزارة الداخلية التي تشرف على نظام الكفالة وتطبيقه. لكن الوزارة رفضت الاستماع إليه مراراً أو حتى النظر في شكواه. وبما أنه لا يتحدث اللغة العربية يستطيع تدبر التفاهم مع الآخرين باللغة الإنكليزية التي لا يبادله الحديث بها موظفو الوزارة، وكل ما فهمه منهم أنهم لن يدعوه يدخل مبنى الوزارة وبذلك لن يستطيع وعائلته العودة إلى الهند.

وهكذا صار مشرداً ومُعدماً، جلّ ما يريده حالياً أن يوضع في مركز الاحتجاز إلى أن يتم ترحيله، وفقاً للطلب الوارد في رسالة السفارة. فعلى الأقل سيجد هناك سقفاً يظلله وطعاماً يملأ معدته بقية فترة وجوده في قطر.

نذكر أنه بعد نشرنا تقريراً عن أولئك العمال المحوَّلين إلى مشردين في أغنى بلد بالعالم، قامت وزارة الداخلية بإجلائهم وإرغام أرباب العمل على تحمل مسؤولياتهم، وكأن التشرد في قطر مجرد حادثة عابرة!

الشكوى والعاقبة!

النظام مصمم في قطر على أساس أن يتم تجريد العامل من سكنه ورواتبه المعلقة وتعويض نهاية الخدمة بمجرد تقديمه شكوى ضد رب عمله أو محاولته ترك العمل. وليس بمقدور العامل، مادياً، أن يبقى ويتابع دعوى قضائية إذا ربحها سيحصل في نهاية الأمر على مُستحقاته المتضمنة أصلاً في عقد عمله فقط.

وحتى مَن يبقى من العمال في قطر ويتابع قضيته يتعرض للمضايقة والملاحقة الجنائية لعدم حيازته وثائق شخصية، الأمر الذي لا يستطيع العمال التحكم به إذ أن إصدار أو تجديد تراخيص العمل أمر منوط بالكفيل.

فمؤخراً ألقي القبض على 37 عاملاً نيبالياً كانوا قد رفعوا قضية قضائية ضد رب عملهم وسُحبوا في منتصف الليل من مساكن العمال. وبعد بضعة أيام، إثر تدخل السفارة، أُخلي سبيل الـ 17 عاملاً ممن أرادوا متابعة القضية المرفوعة، بينما فضّل الآخرون البقاء في مركز الاحتجاز بانتظار ترحيلهم إلى بلدهم، حسبما ذكرت وسائل إعلامية أخرى. وعلى أية حال لم يتلقَّ العمال أجورهم لمدة 15 شهراً.

يعتمد العمال المهاجرون على مساعدة أبناء بلدهم وكثيراً ما يتكدسون في مساكن بعضهم، وعلى الإحسان. فليس لدى قطر نظام مساعدات مشروع ولا مراكز إيواء. أما السفارات فتسمح بمبيت العمال المشردين في بعض غرفٍ أو مساحات فارغة تتبع لها، كإجراء غير رسمي قاصر عن استيعاب كل الباحثين عن مأوى.

ما تزال سبل تحقيق العدالة في قطر قضية عسيرة عجزت الدولة عن معالجتها على الدوام. وفي حالة العمال المهاجرين لا يتعلق الأمر بمجرد الاستماع لقضاياهم المعروضة في المحاكم بل بتأمين وسائل عيشهم من المسكن إلى الغذاء ليتمكنوا من البقاء والصمود حتى تحصيل حقوقهم. وما تزال البيئة العامة عدائية تجاه منظمات المجتمع المدني ويأخذ أولئك الذين يتقدمون لمساعدة العمال الكثير من المخاطر على عاتقهم الشخصي.

آخر "التحسينات"

نشرت قطر طيلة أسابيع مضت الكثير من البيانات والبلاغات عن تحسين ظروف عمل العمال المهاجرين حتى أعلنت أخيراً عن صدور نظام حماية الأجور بعد طول تأجيل مع قليل من العثرات، بل يمكننا القول أنه بدل تغيير النظام الجائر جوهرياً أتت التعديلات شكلية على نظام الكفالة لا تتعدى وضع تسمية جديدة لذات الممارسات القديمة.

وقبل فترة قصيرة افتتحت المدينة العمالية ذات سعة المائة ألف إنسان بالتزامن مع حملة دعائية واسعة، واعتُبِر المجمّع النموذجي بمثابة خطوة باتجاه تجاوز خلل وعيوب سوق العمل. لكن بعض القلق ما زال يرافق الناشطين الحقوقيين كالباحث في منظمة العفو الدولية "أمنستي" مصطفى قدري الذي حذر من أن شدة الإجراءات الأمنية المتخذة قد تنتهك خصوصية قاطني المدينة في تصريحه لوكالة دوحة نيوز المحلية: ".. مثل هذه الإجراءات الرقابية تجعل من الصعب جداً على العاملين في مجال حقوق الإنسان زيارة بيوت العمال والتحدث إلى الوافدين... وهذه البيئة تضع المزيد من العراقيل بوجه جهود التحقيقات والتواصل مع العمال لمعرفة أوضاعهم بدقة". فالمدينة العمالية تشدد العزلة والفصل بين العمال المهاجرين أيضاً.

ودون أدنى شك فقد تم بذل كل جهد ممكن لجعل المدينة العمالية تبدو كمشروعِ إسكان نموذجي، ولكن ليس بلا ثمن. فالمشرف النيبالي ذكر لمراسلتنا أن أجر السكن في المدينة للشخص الواحد يبلغ 750 ريالاً مما يجعله غير متاح لغالبية العمال الذين تتراوح أجورهم بين الـ 700 و1200 ريال شهرياً. وليس هناك من يتحمل مثل هذه الرسوم العالية سوى الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات.

مع العلم أن الكثير من حالات الإساءة وشدة الاستغلال تحدث أثناء التعامل مع المقاولين والوكلاء الأصغر الذين يعرفون أو لا يستطيعون دفع أجور السكن الباهظة.

وكما أظهرنا في إحدى قصص التشرد في قطر فكل تكاليف تحسين ظروف العمال يتم إلقاؤها على كاهل العمال. إذ "حالما شدد مفتشو الحكومة إجراءات مراقبة معسكرات العمال أُجبرت الشركات على إجراء حزمة تعديلات في المعسكرات ولكن على حساب العمال، عبر اقتطاع مبالغ إضافية من رواتبهم، علاوة على تخفيض الشركات لعدد الأسِرّة في الغرف وتشغيل ورشات تنظيف للمطابخ والحمامات مما يعني خصماً آخر من رواتب العمال".

إنما إذا كانت قطر جادة في تحسين ظروف ما يزيد عن مليون عامل مهاجر على أراضيها فيتعين عليها أن تضع في سلم أولوياتها تأمين السكن اللائق لكافة شرائح العمال بأسعار معقولة، والمأوى المناسب -لا مراكز الاحتجاز- للعمال المعوزين الواقعين في محنة.