لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الصحة النفسية عند العمال المهاجرين في الخليج

في 5 أبريل 2016

 

Screen Shot 2016-03-25 at 12.59.08 PM

وسط شارع مزدحم يجلس رجل بينما تمر السيارات على المسار المحاذي بلا اكتراث، اللهم إلا بعض الحرص على النأي عنه مسافة تكفي لعدم التورط بصدمه! بينما يرمق الرجل الكاميرا بنظرة تخلو من الألم مترقباً صدمه.

إنها ليست مجرد صورة اعتيادية تلك التي أخذت تبرز في العديد من أفلام الفيديو على شبكة الانترنت ويظهر فيها عمال مهاجرون أثناء محاولتهم الانتحار في الخليج. إنما هي حكاية عنف ممنهج وممارس ضد أكثر فئات البشر تعرضاً للاستغلال وسوء المعاملة في العالم. وبدل أن تقوم هذه الأفلام ببث مشاعر التعاطف معهم، يجري تداولها غالباً بين مواطني الخليج العربي باعتبارها مَشاهد تدل على خَبَل واعتلال "الآخرين" نفسياً. وما همّ حامل آلة التصوير غير أن يهزأ من رجل بلغ قمة اليأس، فيستنكر عرقلته السير بهذه الطريقة متسائلاً باستغراب عن الأسباب التي تدفعه للقيام بذلك!

في حادثة سابقة، عَزَت شركةٌ كانت قد أوقفت صرف رواتب عامل فيليبيني لمدة أربعة أشهر سبب انتحاره إلى إصابته "بمرض خطير" عوضاً عن الإقرار بدورها في زعزعة ضرورويات الحياة لهذا الرجل.

وإذا كانت هذه المقاطع تعبر عن شيء فإنما تعبر عن نظرة الكثير من أهل الخليج للعمال المهاجرين الذين يشيدون لهم الأبنية وينظفون منازلهم ويخدمونهم باعتبارهم واهنين غير متزنين يستحقون الاحتقار وبالتالي من الجائز استغلالهم والانتفاع من جهدهم دون أدنى تقدير!

ولكن ما الظروف المريعة التي تدفع الناس إلى هذا الفعل اليائس؟

خلال الشهرين الفائتين فقط أقدم تسعة عمال على الانتحار في قطر. ودائماً تُوصف حوادث الانتحار بأنها صادمة أو متهورة أو يجري التملّص منها على أساس ربطها بنزاعات في العمل. والأسوأ أن بعضها يجري تأطيره كناتج عن اضطراب فطري كامن في العمال المهاجرين أنفسهم. بينما هم يعانون في دول الخليج من أسوأ ظروف عمل عرفها العالم، وإساءات ممنهجة تدفعهم نحو الانتحار كخيار وحيد للخلاص. وليسوا منفردين في هذا النوع من السلوك بين الشعوب. وأي أحد يُوضع تحت ضغط نفس الظروف ليواجه نفس مستوى الإساءات سيجد نفسه مكافحاً لإيجاد مخرج. حيث يعاني العمال المهاجرون من الاستغلالَ منذ لحظة تشغيلهم حتى لحظة عودتهم إلى بلادهم. وكثيراً ما يتم خداعهم بشأن شروط عقود عملهم وتُصادر أوراقهم الرسمية منذ وصولهم إلى بلد العمل. إضافة إلى عدم صرف رواتبهم أو تأخير قبضها، وإبعادهم عن شبكات الدعم والمساندة، وعيشهم في بيئات قاسية، عدا عن معاناتهم الدائمة من تشغيلهم لساعات عمل طويلة في ظروف بالغة السوء والقسوة.

وليس الانتحار خطراً وحيداً يتهدد العمال، فالعمال يتعرضون للموت في مواقع البناء أو في حرائق المعامل. فخلال عام واحد لقي 285 عامل مهاجر حتفهم في المملكة العربية السعودية بسبب عدم اتخاذ تدابير كافية لحفظ سلامة العمال. كثيراً ما تحدّ أو تمنع الدولة محاولة طلب المساعدة القانونية، وبشكل عام لا يُمنح العمال إجازات كافية ولا يتم توفير المعلومات اللازمة لهم للتقدم بشكوى أو تظلُّم على رب العمل، هذا إذا لم يلجأ الأخير إلى تضليلهم عما هو متاح لهم من خيارات.

في عام 2014، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً صادماً عن ممارسات خداع أدت إلى إضعاف حال العاملات والعمال المنزليين وتسهيل وضعهم تحت مطرقة استغلال أشد. إذ جمع الباحثون شهادات تثبت حالات عنف جسدي واضطهاد جنسي، حيث تعرضت النساء بشكل خاص للكذب فيما يتعلق بالأجور "الجيدة" وظروف العمل "اللائقة".

وإلى جانب اضطهادهم من قِبل أرباب عملهم، يجد العمال والعاملات أنفسهم يعملون لساعات طويلة وبأقل قدر من النوم أو الانفراد بوقت خاص بعيداً عن أنظار وسيطرة أرباب العمل، فدولة قطر، على سبيل المثال، لا تحدد ساعات عمل العاملات المنزليات ولا تمنحهن الحق بيوم عطلة أسبوعية. لذلك لا تملك العاملات المنزليات إلا الهرب عند تعرضهن للإساءة نظراً لتحكم رب العمل بهن من خلال الكفالة، وغالباً ما تتعرضن للترحيل من البلد بسبب حرمانهن من المساعدة القانونية في دول الخليج.

وبالتالي، لا يأتي اضطهاد ملايين الناس من فراغ. فوسائل إعلام الخليج تتولى رسم صورة كاريكاتيرية للعمال المهاجرين عنصرية ومهينة، مظهرة إياهم عنيفين وغير جديرين بالثقة مضطربين ذهنياً ومريضين نفسياً! في نوع من التكريس لصورة نمطية يستمد جذوره من نزعة عنصرية أشمل في بقعة يسودها رُهاب الأجانب، ويساهم في تغطية الاضطهاد الدائم الذي يتعرض له العمال المهاجرون.

في هذا السياق لا بد من التذكير بأنه ليس سهلاً على أحد من سكان الخليج العربي التطرق لمسائل السلامة النفسية، مهاجراً كان أو مواطناً، بسبب الوصمة الشنيعة المرتبطة بها. ولكن عندما يواظب مواطنو دول الخليج على إنتاج واستهلاك هذا الشكل العنصري من تنميط العمال المهاجرين ونزع الصفات الإنسانية عنهم (لاأنسنتهم) يغدو عسيراً الدفاع عن حقوقهم وتلبية احتياجاتهم في الخليج قبل أن يُدفعوا نحو الانتحار! علاوة على أنه في خضم النقاشات الأعم حول حقوق العمال المهاجرين غالباً ما يُنسى أنهم "مهاجرون" منقطعون عن عائلاتهم، ويحملون معهم ذكريات عن وطنٍ تتقاذفه النزاعات.

فقد روت إحدى النساء الفيليبينيات للصحافة قصة قريب لها نجا من الحرب ليعمل "بكدٍّ حتى طار صوابه" وأقدم على الانتحار بعد ستة أشهر من العمل الشاق، وأضافت "على الأقل كنا خلال الحرب نعيش في بلدنا، نستنشق هواءنا ونشرب من مياهنا". هذه الصراعات وحدها كفيلة بترك آثار عميقة على سلامة الفرد النفسية والروحية، لتساهم بعدها بيئة الأعمال القاسية وتعسف أرباب العمل بتضخيمها وتعزيز نوازعها السلبية.

وعدا عن وقوع تسعة حوادث انتحار في قطر خلال هذا العام وحده، هناك أسباب خلف كون 66% من حالات الانتحار المرتكبة في السعودية أصحابها ليسوا سعوديين، و56% من حالات الانتحار في الكويت أقدمت عليها عاملات منزليات. ولا يمكن إعادة الأسباب بسذاجة إلى أن الهنود والنيباليين وغيرهم من الشعوب التي ترسل أبناءها للعمل في دول الخليج هم أكثر قابلية للإصابة بالأمراض النفسية! كما لا يمكن أيضاً إعادتها إلى أسباب ذاتية محضة أو حتى عائلية. بل إن ما يجعل حوادث الانتحار ظاهرةً مُلحّة تستوجب التوقف عندها ملياً هو أن أسبابها نابعة من وجود عنف بنيوي ممنهج. ففي كافة دول الخليج، يُقدِم العمال المهاجرون على وضع حدٍّ لحياتهم لأنهم مجبرون على العمل وسط مجتمعات تنكر عليهم حق الشروع بامتلاك حياة.