لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

[قصص من المنشأ] الصيادون الهنود: بين الشيطان وأعماق البحار

في 7 أغسطس 2016

"هذه القرية مليئة بعديمي الأسنان وعديمي النفع"، بشيء من المزاح يقول "الأب تشرتشل"  قاصداً كبار السن والأطفال في قرية "موتون". وبالفعل لا تشبه قرية "موتون" الساحلية الفاتنة قرى الصيد الأخرى في "كاناياكوماري"، أقصى ولايات الهند الجنوبية. فلا أكواخ على شاطئها ولا صفوف مراكب، ولا حتى تنتشرُ فيها رائحة السمك. كل ما هنالك هبّاتُ هواء مالح تتغلغل في نهارات الصيف الرطبة.

البيوت هنا إسمنتيّة ذات ألوان برّاقة، ومداخل صغيرة، وشوارع ضيّقة، ونوافذ واسعة مفتوحة على المحيط الهندي. والضيافة غامرة؛ حيث يُستقبل الضيوف بالكعك والشاي المحلّى. وهي تتنافس فيما بينها على التباهي بظفر غزوات رجالها في مياه الخليج العربيّ والفارسي. أولئك الصيّادون في البحار العميقة، المعتادون على قضاء الأسابيع بعيداً عن برّ الشطآن، لا يدرون ولا تدري عائلاتهم ما إذا كانت آلهة البحر ستعيدهم سالمين.

يتعاون رئيس "اتحاد الصيادين" في جنوب آسيا، "الأب تشرتشل" وزملاؤه، على العمل الاجتماعيّ في تلك المقاطعة لمساعدة المحتاجين وتمكين مَن تبقّى.

اعتنق معظم أهالي هذه المناطق المسيحية، إلا أن الدين الجديد امتزج مع خرافاتهم وتعاليم معتقداتهم السابقة. فالآلهة التي تحميهم وتقرر مصيرهم في عرض البحر تتجسّد في هيئةٍ يسوعية مرتدية الساري الهندي الابيض.

بلا مبالاة تقول "ريتامال": " لا نخشى البحر، الحياة أو الموت، قدرنا محكوم بملح المحيط".

وهذا البحر امتدادٌ متسع بلا حدود بالنسبة لأبنائها الأربعة في منطقة الخليج أو بالنسبة لبقية عائلات أهالي الساحل. إذ لا يعرف الرجال شكل حياة أخرى، ولا ينشدون حياة سواها، رغم القلق والحنق اللّذيْن يعتريان النساء أثناء تواجد رجالهنّ في عرض المحيط الهندي أو بحر العرب.

من الصعوبة بمكان أن تجد رجالاً متيني البنية وقادرين على العمل، يتجوّلون في طرقات القرى الصغيرة أقصى الجنوب الهندي. ومَن تصادفه هو إما رجل يقضي إجازته أو رجل ينتظر فرصة للهجرة.

لكنّك ترى النساء، والأطفال (عديمي النفع)، وكبار السن (عديمي الأسنان) الذين يرحبون بك بلهفة المتشوقين لمن يشاركونه قصص وصور أحبائهم، أو لإلقاء نظرة خاطفة على التحويلات المالية الوفيرة الواردة من أقربائهم في المهجر.

 

نادراً ما تقع عينك على رجل قادر على العمل هنا. والقلة الّذين تصادفهم إمّا يقضون إجازاتهم في الوطن أو ينتظرون فرصة هجرة من البلد.

 

ثراء مضلل

وهكذا فإنك ترى شوارعاً ذات بيوت يغلب على مظهرها طابع الترف والثراء بما لا يتناسب والإمكانيات الماديّة لغالبية قاطنيها. يعود الرجال من جديد إلى موانيء دول مجلس التعاون الخليجي مثقلين بالديون والقروض العقارية، وآخر ما يُقلقهم أنواء البحر وتقلباته. بدلاً من ذلك، يقلقهم الوقوع في قبضة خفر السواحل الإيرانيّ وخفر سواحل دول الخليج العربي. فخلال العقد الأخير تم احتجاز آلاف الصيادين وإجبارهم على دفع غرامات مالية باهظة، ورغم ذلك لم يتوقفوا عن الهجرة.

في ركن من أرض واسعة يعكس منزل "ريتامال" المكوّن من عمارة إسمنتيّة بثلاثة طوابق مزينة ومزودة بوسائل رفاهيّة تفوق التصور، آثار هجرة أبنائها إلى السعودية خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية.

"يُعتبر القراصنة وحرس الشواطيء بالنسبة لنا مشكلة واحدة"، هذا ما تكرّره "ريتامال" مؤكّدة أقوال آخرين التقيناهم وتحدثوا إلينا عن الموظفين الحكوميين واللصوص باعتبارهما واحداً. "من الممكن أن يتم توقيفنا وزجنا بالسجن وحتى قتلنا بيد أي منهم دون أن يتعرض أحد لأية مساءلة"!

"إدوارد"، كان يعمل لدى الكفيل نفسه في المملكة العربية السعودية طيلة السنوات العشر الأخيرة. تقول زوجته "ليزي": "الكفيل رجل طيب، إلا أن المخاطر كبيرة في البحر. يأتي القراصنة ويستولون على كل ما تقع أيديهم عليه في القارب، ويتعرضون للرجال بالضرب أحياناً، إلا أنه لم يعتقل"، وبعد صمت برهة تضيف مستدركة "ليس بَعد".

أما أصغر أبنائها العائد من السعودية المصرّ على عدم ذكر اسمه أو تصويره متمتماً بأن "عليَّ العودة إلى الظهران، ولا أريد أن أسبب الإزعاج لكفيلي"، فيضيف "نحن نتسلم أجورنا كل شهرين، ويعطينا الكفيل حصة مما نصطاده، وهي ليست كبيرة مقارنة ببعض الكفلاء الذين يرفعون تلك الحصة إلى 60%، لكنّ المخزون السمكي يتضاءل وتجارة الأسماك تنهار بشدة".

إذاً هل من الأفضل عدم مغادرة الهند؟

تقدم والدته الإجابة، عوضاً عن أبنائها وعن كافّة عمّال قطاع الصناعات السمكية المهاجرين: "ملح البحر حياتنا. وليس بمقدورنا العمل على الشاطئ".

وبالفعل يعاني مخزون سواحل الهند السمكي من التضاؤل منذ عقود، ولا توظف الدولة ما يكفي لحماية التجارة والعاملين في القطاع عموماً (المزيد عن هذا الموضوع في الجزء 2).

 

وكما أشار "الأب تشرشل"، لا توجد مرافيء كافية ولا يوجد سوى ميناء خاصّ وحيد في "موتوم"، حيث يجلب الصيّادون في مراكب آلية صيدهم وتجارتهم.

ولأنه يكاد لا يخلو بيت في الشارع الذي تقيم به "ريتامال" من فردٍ يعمل في الخليج، من الشائع سماع القصص التي تتحدث عن صعوبات العمل في البحار الغريبة.

فعلى سبيل المثال، تقول "بونسلي" زوجة "فينوي" الذي عمل في السعودية لمدة خمس عشرة سنة، "يأتيه الناس طلباً للنصيحة مع أنهم على دراية تامة بالمشاكل هناك. غير أنّ الأمل يحدوهم دائماً في أن الأمور سوف تتحسَّن. ومتى قرر المرء الانطلاق لن يستطيع التوقف".

وفقاً للنساء اللّواتي التقيناهن، مَن لا يستطيع كسب عيشه بعيداً عن الشواطيء الهندية يحاول كسبه داخلها. إلا أنه ليس بالعمل المحبّب لهم أداءه. فـ"عمل الشاطئ" تعبير فضفاض واسع لا يمت إلى العمل البحري بأية صلة.

 

الاعتقال والاحتجاز

بينما رحنا نبتعد عن منزل "ريتامال "تخبرني "هيلينا" التي كانت دليلتي خلال هذا اليوم أنّ الصيّادين يذهبون حيث يوجد السمك. فعليّاً، هم لا يعترفون بالحدود "جميعهم يقعون تحت ضغط ضرورة الحصول على صيد وفير آملين أن تعينهم آلهة البحر على النجاة هذه المرّة".

"روبين"، زوج "هيلينا"، سافر إلى عجمان في شهر مايو 2015، بعدما ساعده "كابتن" من القرية بتأمين تأشيرة السفر. الكابتن عادة هو الذي يختار ويوظف طاقمه المؤلف غالباً من أفراد عائلته وأصدقائه، ويتقاضى بالمقابل "رسم توظيف".

"حاول الصيد هنا. لكنها عملية مضنية في ظل عدم وجود منشآت للصيد بالشبك أو مَرَاسٍ للسفن. لقد كان يصارع، البقاء بلا عمل لمدة ستة أشهر هنا كافية لإغراقنا في الديون. بينما في بقيّة العام قد نجني ربحاً يعادل خمسمائة ريال سعودي في الأسبوع، ويصل أحيانا إلى ما يعادل ألفيّ روبيّة. ليس هناك ضمان".

"روبين" هو واحد من 49 صياداً أُلقي القبضُ عليهم أثناء عبورهم المياه الإقليمية بين الإمارات العربية المتحدة وإيران. كما أنّ ثمانية منهم ينحدرون من بلدة "موتوم" وحدها.

استقبلتنا "سوبيدا" وبيدها مجموعة من الأوراق، وثائق قرض المنزل ونسخة من جواز سفر زوجها "سيلان" وكشف علامات ابنتها. ويوم التقيناها كان قد تم إطلاق سراح "سيلان" ورفاقه بعد احتجازهم في قطر لمدة ثلاثة أشهر.

يعمل "سيلان" في قطر منذ 19 عاماً، وهذه ليست المرة الأولى التي يُحتَجَز فيها. "لكنّ الأمر كان مختلفاً في هذه المرة؛ إذ لم يعبروا الحدود. أخبرهم حرس السواحل بأن لديهم بعض الأسئلة لهم طالبين منهم العبور، ثم قاموا باحتجازهم". وتخمّن "سوبيدا": "أظن أن الحرس يتلقى ترقية مقابل القبض عليهم".

"دفع الكفيل غرامة خمسة آلاف ريال سعودي عن كل فرد منهم، ويترتب عليهم الآن تسديدها قبل عودتهم. ولا عودة لهم دون ذلك".

إنّ ثلاثة أشهر من الاحتجاز في قطر وفوقها أشهر عديدة لسداد قيمة الغرامة تعني مزيداً من إغراق العائلة بالديون.

"ابنتي طالبة مجدة، ترتاد معهداً متوسطاً لتعليم اللغة الإنجليزية، وهذا أوان تسديد رسوم المدرسة وقسط قرض المنزل أيضاً. من الصعب جداً تدبّر أمرنا، إلا أنه سيتمّ منحنا قرضاً مصرفياً بضمانة عمل والدها في الخارج؛ حتى ولو لم نكسب ما يكفي لتسديد الدين المترتب علينا بشكلٍ مريح".

هكذا تحدثت بينما صوتها ذو النبرة القوية يعاند الدموع المنهمرة على خدَّيها.

يبدو أنه في هذه القرية وحدها، وفي أية لحظة، توجد عائلة على الأقل تنتظر ورود خبر عن إلقاء القبض على أحد أفرادها.

 

تصوير: باتابي رامان

 

(الجزء الثاني: الحياة بعد السجن)