لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

"السستم واقف": السلطة التعسفية لبلاغات الهروب الكيدية

في 8 سبتمبر 2016

يُعتبر الإبلاغ عن هروب العمال واحداً من أخبث أسلحة نظام الكفالة الذي يُسمح للكفلاء بل ويُشجعون على استخدامه ضد العمال الموظفين لديهم. ففي اللحظة التي يُبلغ بها عن هروب أو تغيب عامل ما عن العمل يُعتبر "غير شرعي" تلقائياً، ومخالفاً لقوانين الإقامة. ويُدفع قسراً للتحوّل إلى مطارد معرض للسجن والترحيل، أو للبقاء بلا عمل وممنوعاً من السفر في حالات أخرى.

ورغم أن بإمكان العمال المهاجرين التقدم بشكوى ضد بلاغات الهروب "الكيدية"، إلا أن شكاواهم نادراً ما تجدي. حيث يجيد الكفلاء استخدام هذه البلاغات لحرمان العمال من تحصيل أي حق من حقوقهم، حتى في قضايا مثل عدم دفع رواتبهم أو تأخيرها والاختلاف على بنود التعاقد، وصولاً إلى مصادرة ممتلكاتكم وحساباتهم المصرفية أو تجميدها.

فخلال الأشهر الأخيرة الماضية، وقعت عدة حوادث كان ضحاياها موظفين مهنيين يتمتعون بمستوى جيد من التحصيل العلمي، إلى جانب الحوادث المتعلقة بالعمال الأكثر ضعفاً من ذوي المهن اليدوية. وقد سلطت وسائل الإعلام المصرية الضوء مؤخراً على قصص عدد من العمال المصريين ممن يتعرضون للانتهاكات في المملكة العربية السعودية ويستنجدون لإنقاذهم من تعسف الكفلاء، وكل عامل منهم لديه وثائق ومستندات تدعم ادعاءه.

هذا ما حدث مع المدرس المصري سمير أبوزيد الذي طرد من عمله بمدارس "سفراء الغد الأهلية" في منطقة حفر الباطن، بدون مبررات تُذكَر. مما دفعه لمقاضاة كفيله وحصل بالنتيجة على حكم يقضي باسترداد كافة مستحقاته. لكنه سرعان ما أدرك أن الحكم القضائي لا يمكنه أن يصمد أمام سلطة كفيله الذي قام من جهته بالإبلاغ عن "هروبه" وتغيبه عن العمل. وقررت الشرطة السعودية إيداعه في السجن متجاهلة مطالباته المتكررة بتنفيذ الحكم القضائي الصادر لصالحه. ولم يُخلَ سبيله إلا بكفالة أحد أصدقائه لمدة أربعة أيام فقط. وعندما طُلب منه دفع قيمة الكفالة وجد أن الشرطة كانت قد صادرت سيارته التي كان يعتزم بيعها منذ الإبلاغ عنه. ولم تحصد زوجته أيضاً من الشكاوى العديدة التي تقدمت بها إلى السلطات السعودية والسفارة المصرية سوى الوعود الخائبة.

في المقطع المصور أدناه، يروي سمير أبوزيد قصته من داخل السجن:

وتناقلت وسائل الإعلام أيضاً حادثة أخرى تعرضت لها الطبيبة المصرية أسماء عبد الفتاح كامل التي نشرت عبر "الفيسبوك" مقطعاً مصوراً تناشد فيه السلطات السعودية إنقاذها من كفيلها. وكانت أسماء قد استُقدِمت للعمل في السعودية باختصاصها كطبيبة عامة في أحد مشافي منطقة "راس تنورة" القريبة من الدمام. لكن كفيلها طلب منها العمل كطبيبة أطفال! وعندما رفضت قام بمنعها من دخول المشفى وسحب منها ترخيص عملها وأودى بها في السجن. ولم يكفّ عن تهديدها طيلة الوقت، حتى في الوقت الذي رفعت فيه دعوى قضائية ضده في محكمة الدمام.

أسماء عبدالفتاح كامل في حوار تلفزيوني

أسماء عبدالفتاح كامل في حوار تلفزيوني

وفي سياق الوقائع، امتنعت الشرطة في البداية عن تسجيل شكوى الطبيبة "بسبب سفر الكفيل"، وقامت بدل ذلك باستدعاء زوجها للتحقيق، وأصدرت وزارة الداخلية قراراً بترحيلها من المملكة دون تحمل الدولة تكاليف سفرها. كما ذكرت أسماء أن الكفيل اعتدى بالضرب على طبيب آخر متهماً إياه بالسرقة قبل طرده من سكن الأطباء.

 

 

وفي عسير، جنوب غرب المملكة العربية السعودية، وقع مهندسان مصريان في ورطة البقاء بلا عمل وبلا مصدر دخل لمدة ثلاثة أشهر بعد أن قرر الكفيل إنهاء عقدي عملهما دون سابق إنذار. فقاما بالتنازل عن تراخيص العمل وتسليم كل ما بعهدتهما من ممتلكات تتعلق بالعمل، واستعادا بالمقابل جوازات السفر التي كانت مصادرة. ثم تعين عليهما حجز تذكرتي الطائرة إلى مصر ودفع ثمنها من حسابهما الخاص، رغم أن القانون يلزم الكفيل بتحمّل تكاليف إعادة أي عامل يتم إنهاء عقد عمله في وقت أبكر من المتفق عليه.

ولكنهما اكتشفا في المطار أن الكفيل لم يستخرج إذن الخروج لمغادرتهما المملكة وعندما اتصلا به هاتفياً أخبرهما أن "يعودا من حيث جاءا". فتوجها مباشرة إلى مكتب العمل لتقديم شكوى لكن الموظف المسؤول في هيئة تسوية الخلافات صرفهما قائلاً لهما "السستم واقف. عودوا بعد نهاية العطلة الأسبوعية"! وفي هذه الأثناء كان الكفيل قد قدم بلاغاً بهربهما متهماً إياهما بسرقة ممتلكات من موقع العمل تبلغ قيمتها 4300 ريال.

وذكر المهندسان أن الشرطة لم تستمع إليهما، وتم تحويل قضيتهما إلى المحكمة التي تغيب فيها الكفيل عن حضور جلستين وبالمحصلة لم يستطيعا إثبات تهمة "البلاغ الكيدي" ضده نظراً لتسجيله بلاغ هروبهما بتاريخ أسبق من تاريخ تقديم شكواهما.

وعندما سعى الإثنان إلى تسوية الخلاف ودياً خارج المحاكم اشترط عليهما الكفيل التوقيع على أوراق جديدة من ضمنها عقود عمل غير مؤرخة. وبعد أن سحبا شكواهما وجدا نفسيهما يواجهان تهماً بالسرقة وعدم إتمام عملهما حتى نهاية مدة العقد (الذي كان الكفيل قد أنهاه سابقاً). ولم يعد بالإمكان حتى ترحيلهما لأن توجيه التهم الجنائية ضدهما يعني منع سفرهما. وكل ما يطلبانه الآن مغادرة البلد فقط متنازلين عن أجورهم وتعويضاتهم.

جدير بالذكر أن وقوع مثل هذه الحوادث أمر شائع في كافة دول مجلس التعاون الخليجي. ففي حادثة جرت مؤخراً في قطر، وقع عامل مهاجر ضحية استبدال عقد عمله في مطعمٍ تعود ملكيته لأحد مواطني السعودية بمشروع لؤلؤة قطر شمال الدوحة، ولم يجد من يعينه لدى كل الجهات التي لجأ إليها في وزارة العمل واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان وسفارة بلده، أوكرانيا.

وافق كفيله على تزويده بتأشيرة خروج من قطر مقابل 6 آلاف ريال قطري. إنما كل ما جرى معه لاحقاً شكّل سلسلة من القرارات السيئة النابعة عن عدم معرفة بالإجراءات المتبعة وكأنه لم يجد أحداً يرشده للتصرف السليم. وعند حلول موعد تسليم المبلغ تراجع الكفيل عن الاتفاق. مما اضطر العامل إلى "الهرب" واللجوء إلى الشرطة التي قامت بإعلام الكفيل، ثم اعتمدت بلاغه عن "هروب" العامل، رغم أن العامل هو من كان قد بادر بالشكوى أولاً.

ولأن الكفيل كان يدرك أن تهمة الهروب ضعيفة، من حيث الأساس، قام بتلفيق تهمة سرقة ضد العامل رغم أن عمل الأخير في المطعم لا يتضمن أي تعامل مباشر بالمال. ولم يُسمح له بمغادرة قطر إلا بعد إسقاط القضية أخيراً وقضائه عدة أسابيع في السجن.

تمثل هذه الحوادث عيّنات من فيض القضايا التي لا تظهر إلى العلن. وتُظهر تجارب هؤلاء العمال المتورطين كيف يتمتع الكفلاء باستخدام السلطات الاعتباطية والاستبدادية التي تخوّلهم تجريد العمال من حرياتهم وحقهم بالتنقل ومن أموالهم. حيث يسهل نظام السعودية القانوني الاستغلال بل ويمكن اعتباره شريكاً في هذه الانتهاكات والإساءات المرتكبة بحق العمال طالما أن موظفي الوزارة يرفضون بشكل روتيني تلقي الشكاوى "لأن السستم واقف" وأقسام الشرطة تتجاهل الأحكام القضائية الصادرة لصالح العمال. بلى لابد أن السستم واقف بالفعل عندما يفشل في حماية الحقوق الأساسية للعمال المهاجرين.