لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الصفقة الحقيقية وراء الفصل العنصري للرعاية الصحية في الكويت

في 30 أكتوبر 2016

أعلنت السلطات الكويتية في عام 2013 عن قيامها بأول "تجربة" لسياسة الفصل في المشافي بين المواطنين و"الوافدين" بغية "تخفيف الضغط عن المنشآت الصحية" حسب زعمها. وطيلة السنوات الثلاث التالية ثابرت وزارة الصحة على تعزيز هذا الزعم بحملات ترويج دعائي للمشروع، تساندها في ذلك وسائل الإعلام التي سعت شبكاتها والعديد من صحفها خلال العام الماضي إلى نشر إحصاءاتٍ تُبرز المشروع كتجربة ديمقراطية يدعمها معظم الكويتيين! وتخلل كل ذلك إلقاء اللوم على الوافدين الذين يشكلون ثلثي سكان البلد وتحميلهم مسؤولية طوابير الانتظار الطويلة في المستشفيات والعيادات.

ولم تكف يوماً وسائل الإعلام عن صبّ اللوم على المهاجرين مع أن البرلمان والسياسيين الكويتيين كانوا يوجهون الانتقادات باستمرار إلى الحكومة لعجزها عن إصلاح أو توسيع نطاق الخدمات الصحية منذ السبعينات باستثناء تشييد مستشفى جابر، الموضوع قيد الإنشاء حالياً والمخطط له أن يكون "للكويتيين فقط"!

وزير الصحة الكويتي، الدكتور علي العبيدي الحاصل على بكالوريوس طب وجراحة من الكلية الملكية في إيرلندا، شدَّد في أحد لقاءاته التلفزيونية أن المشفى الجديد سيكون مخصصاً للمواطنين فقط! ولكنه يستمر في انكار الطبيعة التمييزية للمشروع الجديد، مفسِّراً الفصل بأنه مجرد "إجراء تنظيمي" يهدف إلى "تقديم أفضل رعاية للكويتيين"!

أما التطور الجديد الذي طرأ على مشروع الفصل التمييزي خلال الشهر الفائت فهو مصادقة إدارة الفتوى والتشريع على خطة لـ "وضع نظام رعاية صحية مستقل للوافدين". مما يؤكد على أن خطاب دوائر الدولة يحاول على الدوام تمويه حقيقة طابع المشروع واصفاً إياه بالنظام "المستقل"، ببساطة!

لكن الخطة الحكومية ترمي في الواقع إلى تأسيس شركة مساهمة عامة سميت بـ "شركة مستشفيات الضمان الصحي"، تجمع بين الشركة الإدارية والمستثمر، دولة الكويت، ومالكي الأسهم من المواطنين. وحسب زعم السلطات الكويتية، سوف تتولى الشركة بناء منشآت ومرافق صحية جديدة كلياً للعناية بالـ 1.8 مليون مهاجر في البلد (الرقم الحقيقي يقارب الثلاثة ملايين!) وفقاً للخطة الكارثية التي نفندها هنا بالتفصيل.

إصلاحات الرعاية الصحية السابقة

 

قامت الكويت في عام 1999 بإلغاء تقديم الخدمات الصحية المجانية لغير الكويتيين، الوافدين والبِدون من سكان البلاد، حين لم يتوفر في الكويت قطاع خاص لتقديم الخدمات الصحية، وتوجب بالتالي على غير الكويتيين أن يدفعوا من جيوبهم مقابل كل زيارة. وفي عام 2006، صار مطلوباً من كل وافد يريد تجديد ترخيص إقامته دفع رسم رعاية صحية سنوية بقيمة 50 ديناراً كويتياً، دون الحصول مقابلها على أية خدمة طبية أو دوائية.

أول تقديم لخطة فصل الخدمات الصحية كـ "تجربة" كان في يونيو 2013، حين خصصت مستشفى الجهراء الزيارات الصباحية لاستقبال المواطنين فقط، أي "عندما يكون الطاقم الطبي بأكمله موجوداً". وخصصت الزيارات المسائية للوافدين، مع السماح للمواطنين بالقدوم في أي وقت يرغبون. ثم امتدت التجربة إلى ثلاث مستشفيات أخرى و15 عيادة مع تعليق إعلان "الأولوية للكويتيين". وضاعت وقتها أصواتُ المعترضين على القرار من العاملين في قطاع الصحة والمنظمات غير الحكومية في ظل تواطؤ وسائل الإعلام الكويتية.

وفي الحقيقة، لا تهدف الخطة الجديدة لخدمة المواطنين أو تنظيم شؤون العمالة الوافدة، بل تهدف بالأحرى لـ "تفعيل الشراكة بين القطاع الخاص وقطاع الدولة" حسب تصريح أدلى به وزير الصحة في أوائل هذا الشهر. ومن المتوقع أن ترتفع تكلفة الضمان الصحي على الوافدين بنسبة 200%، عندما يُنفَّذ المشروع، لتصل كلفة أساسياته التي لا تشتمل على رعاية طبية متقدمة إلى 150 ديناراً (490$) كحد أدنى.

أثناء القيام بهذا التحقيق، حصلت منظمتنا على نسخة من مسودة العرض الذي أعدته المجموعة الاستشارية "تاغ" (The Advisory Group)، وهي شركة خاصة يديرها أحمد م. نصولي وجوليانا م. شوّا (المذكوران في تسريبات وثائق بنما)، ولديها صفحة على شبكة الانترنت لموقع قيد الإنشاء لكنها تعرِّف عن نفسها كـ" شركة إقليمية للاستشارات الصحية" في صفحتها على موقع "لينكدين" Linkedin page “لا تسوق لنفسها وتعتمد على الاحالة وفق الطلب حصراً باعتبار أنها المؤسسة الأولى من نوعها في المنطقة والأكثر خبرة في مجال تقديم الاستشارات". وقد سبق لهذه الشركة تنظيم مؤتمر في نوفمبر من عام 2012 مدته ثلاثة أيام بعنوان "صحة المستقبل" للتعزيز لمشروعها، طالبة من أوساط قطاع الصحة “الاستثمار والاستفادة من الضمان الصحي ومشاريع البنى التحتية في الكويت” وتضمَّن برنامج الفعالية آنذاك كلمةً لـ "مُوفد رفيع المستوى" من وزارة الصحة.

في هذا العرض تقدمت المجموعة الاستشارية "تاغ" لإنشاء "نظام صحي موحد يقوم على أساس الربحية وبمقاييس عالمية، يهتم بتقديم الخدمات للغالبية العظمى من الوافدين العاملين في الكويت". وحسب ما يرد أيضاً في عرضها المسرَّب فإن "شركة مستشفيات الضمان الصحي" كان اسمها الأصلي "الشركة الكويتية للتأمين - KHAC". وبرأسمال قدره 318 مليون دينار كويتي (1055 مليون دولار) تغدو الشركة أضخم منشأة حكومية وُجدت في تاريخ الكويت، "تطوِّر وتبيع خططها الصحية مستهدفة السوق".

ويتولى موجز العرض التنفيذي للشركة الكويتية للتأمين، بتاريخ 07/03/2011، تقسيم الوافدين إلى ست شرائح: 1- المرتبطين برعايا كويتيين. 2- الـ بدون. 3- العاملين في القطاع الحكومي. 4- عمال الزراعة والصناعات السمكية. 5- عمال المنازل. 6- كافة فئات العمالة الوافدة الأخرى. وبدورها تحدد المجموعة الاستشارية الشريحة السادسة باعتبارها الشريحة الاجتماعية المستهدفة التي تشكِّل 62% من الوافدين (1.5 مليون)، الأمر الذي يطرح بقية الشرائح خارج الخطة. وتأمل المجموعة في النهاية أن تقدم هذه الشركة "نموذجاً جديداً يُحتذى به في عموم المنطقة".

Screen Shot 2016-09-29 at 9.43.58 PM

ووفقا لهذه الخطة، تُقدِّر الشركة أن يبلغ حجم حصتها من السوق المستهدفة 1.832.937 ديناراً كويتياً في عام 2017، و2.236.959 ديناراً في عام 2024. ويبلغ الرأسمال اللازم لهذه الشركة حسب الاقتراح المطروح 349 مليون دينار كويتي. كما يبلغ دخلها السنوي المتوقع 28 مليون دينار في عام 2017، و72 مليون في عام 2023. وتلتزم الدولة بتأجير الشركة العقارات الثلاثة التي تقام عليها المستشفيات. أما العلاوة الاستثنائية التي تنالها فتكمن في الرسم السنوي المفروض على الوافد تسديده والبالغ 150 ديناراً في عام 2017، ويرتفع ليصل إلى 190 ديناراً في عام 2017. ويبقى قابلاً للزيادة إذا تجاوز معدل التضخم حاجز الـ 6%. وسوف ترتبط جميع الخطط الصحية بتجديد الإقامة في البلد بشكل تلقائي.

ولكن ما الذي تقدمه هذه الخدمات فعلياً؟

تتقدم الخطة بإقامة ثلاث مستشفيات في ثلاث مناطق مختلفة، يعمل فيها 648 طبيباً و2919 من الممرضات والفنيين، بسِعات 240، 712، 340 سرير، أي 1292 سرير لتخديم 1.5 مليون وافد (السوق المستهدف) أو ما يقدر بـ 2 إلى-6 أسِرَّة لكل 10 آلاف وافد. وحتى لو لم يكن عدد الأسرّة يعكس حال الخدمات المعروضة إلا أن الرقم يبقى دون معدل 2.92 العالمي. علاوة على أن الأطباء المعترضين على المشروع يشيرون أن المشافي الجديدة لن تُجري العمليات الجراحية أو تُعالج الأمراض المزمنة، ولا تقدم العلاج للأمراض العقلية أو توفر الأدوية بدون تقاضي رسوم إضافية.

وبالعودة ثانية إلى عام 2011، كان أول من كشف عن وجود هذا المشروع مجموعة أطباء كويتيين تسمى "The Health Care Reform Advisory Group - HCRAG"، قامت بعقد اللقاءات والحوارات مطالبة أهل الاختصاص والصحافة بالوقوف في وجه المشروع "المحكوم بالفشل". ومع أن المجموعة لم تعد موجودة اليوم وموقعها (http://www.q8health.org/health-reform/) على شبكة الانترنت لم يعد فعالاً، إلا أن منظمتنا تحتفظ بأحد بيانات المجموعة عندما كان المشروع مجرد عرض مُقترَح، ويرد فيه:

"تضيف خطة إقامة نظام صحي منفصل للوافدين عقبة مادية أخرى فوق العقبات الإجرائية والمالية القائمة التي يعاني منها أكثر سكان البلاد عوزاً. ومن الواضح أن هذه الفكرة لم تنشأ من صلب سياسات النظام الصحي المتبعة بقدر ما هي فكرة صاغتها حاجة أصحاب القرار إلى حل "إسعافي" سريع لضيق السكان من الازدحام الشديد في منشآت الرعاية الصحية. فأضحت التفرقة في الخدمات الصحية ملحوظة في الكويت، وبات الفصل مطبقاً في عيادات الرعاية الصحية الأساسية وفي بعض وحدات العناية المشددة. وقدّمت المنظمة الربحية المُقترَحة "صندوق العلاج الطبي" نموذجاً فاشلاً في مقاربة مبادئ السوق الحرة. ففي مناخ سوء التنظيم لدينا، والقائم بناء على تجارب سابقة في خصخصة الرعاية الصحية، نتوقع ظهور مساوئ سوف تنعكس آثارها السلبية مستقبلاً على "الزبائن" المعتمدين على هذا النظام. وبعكس ما يريده أنصار تسويق هذا المشروع، فالمخطط إلى جانب انتهاكه لأساسيات حقوق الإنسان ليس قابلاً للتنفيذ من الناحية المالية، كما أنه لا يقدِّم خدمات ذات نوعية جيدة. وبالمقابل، تقدم مجموعتنا أجندة إصلاح بديلة أكثر شمولية وعدلاً، يصادق عليها خبراء دوليون، وتقوم على مقررات وتوصيات منظمات الصحة الرائدة عالمياً".

ولا بد هنا من ذكر أن استبعاد الوافدين من تلقي الخدمات الاجتماعية الأساسية ليس إلا إحدى محاولات الكويت لامتصاص مزيد من الأرباح من العمالة الوافدة، مقابل قدرٍ أقل من ضمان الحقوق والحماية. فقبل فترة وجيزة أعلن وزير الكهرباء والمياه أن الوزارة لن تمنح الوافدين "امتياز" تقسيط مبالغ فواتيرهم (الامتياز المحفوظ للمواطنين فقط!)، وسوف تُقطع الخدمة فوراً عمّن لا يستطيع منهم أن يسدد ما يترتب عليه دفعة واحدة. ومنذ عدة سنوات حرصت البلديات الكويتية على منع الوافدين من استئجار المساكن من الكويتيين بزعم "حماية القيم الأخلاقية والعائلية"، بينما في الحقيقة تسعى إلى تدعيم أرباح القطاع العقاري. فعادة يلجأ الوافدون إلى استئجار البيوت من أصحابها لاستقرار ومعقولية أسعارها ولقربها من مناطق عملهم أكثر من مساكن "العازبين" التي تديرها الشركات العقارية. وعلاوة على ذلك، تتعهد وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، هند الصبيح، بتقليص مدة الإقامة المسموح بها للوافدين، وتقدم أعضاء في البرلمان بمشروع لفرض الضرائب عليهم.

كما وصلت حملات الترحيل خلال السنوات الأخيرة إلى ذروة لم تعهدها الكويت من قبل، فالمهاجرون يتم ترحيلهم لمجرد التعبير عن موقف سياسي أو مخالفة مرورية أو الشواء في مكان عام أو التحرش وغيرها من أسباب لا تُعقل. وفي هذا الشهر أعلنت وزارة الداخلية أنها لن تجدد إقامات مائة ألف عامل منزلي من حاملي رخصة قيادة السيارة لأنهم "يتسببون بازدحام مروري"! ليبدو أن إدارة شؤون العمالة المهاجرة في الكويت تتحول من نظام يعتمد على استغلال المهاجرين إلى نظام يشرعت هذا الاستغلال ويشدده لأجل مراكمة الثروة من دخل المهاجر وعلى حساب صحته وسلامته.