لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

عاملو الإنشاءات في دول مجلس التعاون الخليجي: ديون ووفيات وأحلام محطمة

في 31 أكتوبر 2017

يشكّل عاملو الإنشاءات في دول مجلس التعاون الخليجي نسبة مئوية هامة من القوى العاملة المهاجرة في الخليج العربي (الجدول الإحصائي). وعلى الرغم من أن سهام انتقادات المجتمع الدولي تم تسليطها على قطر بشكل لافت في السنوات الأخيرة، إلا أن الواقع هو أنّ عمال الإنشاءات في دول الخليج كلها معرضون للاستغلال.  ففي هذا القطاع الذي تتذبذب فيه تكاليف المشاريع بحسب التقلبات الاقتصادية، تصبح رواتب العاملين وصحتهم أول ضحايا المشاريع المتعثرة.

تعزى تقلبات هذا القطاع في جزءٍ منها إلى سوء التخطيط للمشاريع  وفي الجزء الآخر إلى لا مبالاة الأنظمة التي تجرّد العاملين من إنسانيتهم من المراحل الأولى لعملية الهجرة.

نتناول فيما يلي استعراضًا لأكثر المشكلات انتشارًا في هذا القطاع، والتي تفاقمها أنظمة الهجرة السائدة في المنطقة. ويمكن الاطلاع على ذلك في مخططنا التفاعلي الخاص بنظام الكفالة.

المديونية

لا يخفى على أحد أن العاملين المهاجرين يدفعون رسوم توظيف هائلة ليتمكنوا من الحصول على "الفيزا"، على الرغم من أن القوانين في الخليج العربي كلّها تنصّ صراحةً على أن صاحب العمل ملزم بسداد كل الرسوم. بيد أن هذا التشريع لا يخضع لرقابة صارمة من جهة ولا يُجرّم المخالفين عند كشفه من جهة أخرى. ولم تقم سوى شركات معدودة فقط بالتحقيق في ممارسات ورسوم التوظيف غير القانونية، ونزر قليل من هذه الشركات قام فعلا باسترداد هذه الرسوم من السماسرة ومقاولي الباطن وأعادها إلى العمال.

تناول ديفيد سيغال، وهو شريك في السياسات بمركز ستيرن للأعمال التابع لجامعة نيويورك، هذا الشأن من خلال دراسةٍ مستفيضة.

ففي معرض حديثٍ أدلى به سيغال في وقتٍ سابقٍ من هذا العام لمركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورج تاون في قطر، قال: "المسألة هنا تكمن في أن التوظيف ليس مجانيًا؛ فالعثور على عمّال، واختبار مهاراتهم وتخليص تأشيراتهم وعقد مقابلاتٍ معهم للتحقق من أنّهم مؤهلون كلها أمور مكلفة".

ويذكر بأن العملاء في كافة مراحل سلسلة التوريد لا يدفعون إلى مورّديهم من شركات المقاولات مبلغا مقابل هذه الخدمات.

ويضيف: "يبدو أن كل لاعبٍ في هذه السلسلة يستفيد من مورّده، ويفضي ذلك إلى ضغط يتسبب في تخفيض الأجور من جهة وزيادة تكاليف الهجرة من جهة أخرى، وفي النهاية يلقى هذا العبء كاملا على كاهل العمال المهاجرين".

وأشار سيغال إلى ما دعاه "سلسلة سدادٍ مقلوبة" تضع العملاء (كالحكومة أو المشروعات التنموية التي ترعاها الحكومة أو شركات القطاع الخاص) في قمة سلسلة التوريد وتضع العاملين محدودي الدخل في قاعدتها. وبينهما توجد طبقات من أصحاب العمل ووكالات التوظيف في البلدان المرسِلة في جنوب آسيا و"الوكلاء الفرعيين" المحليين. وبحسب سيغال، فإن "العملاء لا يسددون في الحقيقة كلفة ما يقدّم لهم الموردون من خدمات. وهذا يقلب السلسلة برمّتها رأسًا على عقب، بحيث يقع على عاتق العامل المهاجر في نهاية السلسلة مسؤولية سداد فاتورة جميع تكاليف الهجرة، إضافةً إلى تكاليف أخرى".

وبالنظر إلى أن الكمّ الهائل من العاملين الذين يأتون إلى دول مجلس التعاون الخليجي مثقلٌ بالديون في الأصل، يضطرّ أولئك إلى العمل في بيئات استغلالية أو محفوفة بالمخاطر للتمكن من سداد ديونهم.

وفي مهزلة وقعت مؤخرًا في المملكة العربية السعودية، أجبر عاملون في شركاتٍ كبرى على العودة إلى بلادهم دون أن تسدّد أجورهم منذ أشهر، أما من تجرّأ على الاحتجاج، فقد كان الاعتقال مصيره.

عاملون تقطعت بهم السبل

يجد عشرات الآلاف من الرجال القادمين من جنوب آسيا وإفريقيا والبلدان العربية أنفسهم بلا عملٍ أو تعويضٍ أو وثائق أو حتى ماءٍ وكهرباءٍ وطعامٍ عندما تتوقف مشروعاتهم على حين غرة. أعددنا في Migrant-Rights.org تقارير مفصلةً عن استمرار مشكلة العمّال الذين تقطعت بهم السبل عام 2016. لكنّ تقطّع السبل بالعمال في منطقة الخليج  ليست ظاهرةً جديدة، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية الهجرة  نفسها. فقد تقطعت السبل بالآلاف في دبي عقب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد عام 2010. وخلال العام المنصرم، أعلنت دول الخليج عن تدابير للتقشّف متذرعةً بهبوط أسعار النفط. وقد أُرجئت مشروعات للإنشاءات أو أجّلت، وذلك على الرغم من أن مشروعاتٍ ضخمةً تسير على قدمٍ وساق وأن مشروعات جديدةً يُخطّط لها حاليًا. وفي الكويت، أُعلن عن مشروع بقيمة 4 مليارات دولارٍ أمريكيٍ لإنشاء "مدينة ذكية"، وأما السعودية فلا تزال تسعى إلى منح عقودٍ تفوق قيمتها 250 مليار دولار أمريكي على المشروعات.

لا تستثمر البلدان سوى قليل من الجهد لضمان سدادها للأجور المستحقة للعاملين قبل تخريجهم نهائيًا إلى بلدانهم. فقد قطعت المملكة العربية السعودية على نفسها التزاماتٍ ليست بالجديّة عندما بلغت هذه المشكلة ذروتها خلال العام المنصرم، بيد أن كثيرًا من العاملين لا يزالون عالقين دون أن تُسدّد مستحقاتهم بعد أكثر من سنةٍ على تلك الالتزامات. وبدلاً من ضمان تعويض العمال عن رواتبهم ووقتهم المهدور، وضعت السعودية حلاً مبتكرًا في مارس من عام 2017، إذ أعلنت عن مهلةٍ كافيةٍ مقدارها 90 يومًا للسماح للعاملين غير الحاملين للوثائق اللازمة بمغادرة البلدان دون عقوبة.  إن الوعود بالتخريج النهائي دون عقوبةٍ مغريةٌ بالنسبة للعمال اليائسين، والذين سيواجهون إن رفضوا معركةً غير محمودة العواقب، حتى ولو كان ذلك يعني مغادرتهم دون تحصيل أجورهم المستحقة.

الإصابات في مواقع العمل

تبوّأت قطر موقع الصدارة في التدقيق على حقوق المهاجرين المشاركين في مشروعات الإنشاءات الخاصة بكأس العالم لعام 2022. وتقدّر تقارير أن 1000 حادثة وفاةٍ متصلةٍ بظروف العمل تقع كل عام، وذلك على الرغم من أن السلطات في قطر وفي البلدان الأصلية تعتّم في أغلب الأحيان على سبب الوفاة.  وتُرفض "السكتة القلبية" أو "الإرهاق" بمثابتهما سببين طبيعيين للموت، وذلك على الرغم من أنهما ناتجتان مباشرةً عن الظروف الاستغلالية للعمل والمعيشة.

يفوق عدد حوادث انهيار المباني والحرائق في الكويت 50 حادثًا في العام، وذلك في القطاعين العام والخاص. ويصاب 83% من ضحايا الحوادث التي تقع في مواقع الإنشاءات بإعاقاتٍ دائمة بحسب دراسة جرت عام 2010. وأعلن تقرير حديث نُشر في مارس من عام 2016 أن قطاع الإنشاءات هو الأخطر في الكويت، وذلك نظرًا إلى أن "الوفيات بين عمال الإنشاءات تشكل تقريبًا نصف عدد إصابات عمال جميع القطاعات في البلاد". ويعزو التقرير أسباب هذه الإصابات والوفيات إلى "استمرار اللجوء إلى طرق بناء عفا عليها الزمن، بما في ذلك استعمال السقّالات الخشبية واللجوء إلى معدات غير آمنة والافتقار إلى القبعات القاسية أو إهمال احتياطات السلامة".  

ينوّه التقرير إلى أن بعض العمال يرفضون استعمال القبعات القاسية لأنهم لا يشعرون بالراحة في ارتدائها في حرّ الكويت الذي لا يطاق. وأفاد عمال آخرون بأنهم لا يتلقون أي تدريبٍ أو بزّات عملٍ أو معداتٍ للوقاية. وقال أحد المهندسين إن بعض المطوّرين وأصحاب العمل يستطيعون استحصال رخص بناء دون أن تخضع قواعد السلامة الخاصة بهم لأي تدقيق.

في الكويت، تجري البلدية في العادة نوعين من التفتيش، موسمي وغير مخطط. وتحدد الزيارات الموسمية إن في الكويت، تجري البلدية في العادة نوعين من التفتيش، موسمي وغير مخطط. وتحدد الزيارات الموسمية إن كان العمال خاضعين لتأمينٍ ساري المفعول على إصابات العمل وإن كان لدى صاحب العمل إيصالات تثبت أن أجور العمال قد سددت. ويجب أن تُختم الإيصالات من قبل البلدية وتحفظ في ملفٍ خاصٍ بالمفتشين. أما الزيارات غير المخططة فتدقق على عدد ساعات العمل والعمال غير المسجّلين وإجراءات السلامة. ومع ذلك، تحتاج التشريعات نفسها للتطوير، فهي لا تتماشى مع المعايير الدولية. ويشيع استخدام بعض طرق البناء التقليدية عالية الخطورة في المشروعات الصغيرة تلافيًا لتكاليف المعدّات الثقيلة دون التعرض لأي مساءلة قانونية.  وفي عام 2015، تم تسجيل 1238 مخالفة من أصل 4328 تتصل بعدم التزام تدابير السلامة.

وعندما يكتشف المفتشون بأن أحد مشروعات الإنشاءات ليس نشطًا، فإنهم يقومون بإعطاء صاحب العمل مهلةً من الزمن لتنشيط المشروع قبل أن يخسر الرخصة ويُسدّد كفالةً ماليةً إلى العمال. وإذا ما اكتشف المفتشون أن المشروع ليس له وجود، تُسحب الرخصة من صاحب العمل وتُرفع ضدّه دعوى قانونية. ومع هذا يبقى حراً طليقاً حتى يتم الحكم في القضية في المحكمة  بينما تصدر مذكرة اعتقالٍ ضد العاملين الموظفين في المشروع.

...وهذا يقلب السلسلة برمّتها رأسًا على عقب، بحيث يقع على عاتق العامل المهاجر في نهاية السلسلة سداد فاتورة جميع تكاليف الهجرة، إضافةً إلى تكاليف أخرى. - سيغال

الوفاة والتعويض

على الرغم من أن الوفيات شائعة في قطاع الإنشاءات، إلا أن عملية التعويض يتلبّسها الكثير من الغموض. فقد قال مقاول هندي لموقع Migrant-Rights.org إن هذه العملية شديدة البطء وكثيرة المتطلبات. إذ يتعين على عائلة المتوفى توكيل أحد ما  لمتابعة القضية في السفارة. كما أن تخليص المعاملات في البلدان الأصلية ليست بالأمر اليسير. فعلى سبيل المثال، يتعيّن على أحد الأقارب في الهند تقديم شهادة ميراثٍ قانونية إضافةً إلى استصدار وثائق قانونية من أربع جهات حكومية على الأقل.

عندما لا تُعدّ الوفيات نتيجةً مباشرةً لحادثٍ في مكان العمل، كما هو الحال بالنسبة لوفيات معظم العمال النيباليين في دول مجلس التعاون الخليجي، فإن الشركات لا تتحمّل أي مسؤوليةٍ قانونية. وتتنصّل الحكومات عن التزاماتها بالصحة والسلامة متذرعةً "بالوفيات الطبيعية".

ولكن بيئات العمل وأساليب المعيشة غير الصحية تساهم بكل وضوحٍ في "السكتات" القلبية للشباب الأصحاء حتى في العشرينيات والثلاثينيات من العمر.

وقد أصدر مركز موارد الأعمال وحقوق الإنسان (BHRRC) تقريرًا بعنوان "حاجز الصمت" في ديسمبر من عام 2016، وهو تقرير يفصّل كيف أن صناعة الإنشاءات مقصّرة في معالجة الإساءة إلى العمال المهاجرين.

فمن أصل شركات الإنشاءات المائة التي اتصل بها المركز في قطر والإمارات للوقوف على تدابير السلامة التي تأخذها تلك الشركات لإيقاف استغلال العمال المهاجرين، استجابت 22 شركةً فقط، "وهذا يشير إلى مستوى صادم من التقاعس". ويضيف التقرير بأن 39% فقط من الشركات التي تم الاتصال بها لديها التزامات بحقوق الإنسان معلنة للعموم.