لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

سبعيني قضى أكثر من نصف عمره في البحرين

قصة منير تحكي مأساة الآلاف من العمالة المهاجرة التي تعيش محنة عدم استلام الأجر

في 18 أبريل 2020

كان صوت منير صاحب يرتجف، في محاولته لضبط موج من المشاعر ممكن أن تكون مدمرة -وهي مزيج يغلي من الغضب والحسرة والحقد والخوف وعدم الثقة في القوانين-وهو يقول: “لقد نفذ صبرنا، أتممنا العام ولم نتسلم أجورنا، نحن ننتظر، عائلاتنا تنتظر، سنُطرد من مكان إقامتنا، صحتنا تتدهور، لا أحد يسمع، ذهبنا مرارا وتكرارا وزارة العمل، هم يقدمون وعود غير واقعية فقط ليصرفونا من أمامهم، رجاء أفعلوا أي شيء من أجلنا".

منير صاحب، هندي الجنسية، أتم عامه السبعون للتو، قضى أكثر من نصف عمره في البحرين في العمل كمهندس كهربائي لمدة 38 عاماً، وهو واحد من 52 عاملاً من الهند والنيبال وبنغلادش تبقوا من أصل عدة آلاف كانوا يعملون في شركة GPZ التي عانت صعوبات مالية بعد تخلف عملائها عن الدفع، فسرّحت من أراد من عمالها البقاء والعمل في البحرين، ووعدت هذه الدفعة الأخيرة المتبقية من العمال أن تصرف مستحقاتهم بعد الانتهاء ممن لا تزيد مستحقاتهم عن 500 دينار بحريني. إلا أنها لم تفعل، بل صفّت أعمالها تدريجياً وأغلقت دفاترها وأنسلت بهدوء تاركة ورائها 52 عاملاً لم تدفع لهم أجورهم لفترات تتراوح ما بين 7 شهور وعام يضاف إليها مستحقاتهم الموعودة. ويصل إجمالي مستحقات هؤلاء العمال حتى اللحظة 250 ألف دينار. من بين زملاء منير عدد من المسنين الذي قضوا أغلب سنوات حياتهم المنتجة في العمل في هذه الشركة وغيرها، في البحرين ويشعرون بالخيبة لهذه النهاية غير المثمرة لسنوات عمرهم التي مضت في الأمل بالعودة إلى أوطانهم وفي يدهم ما جمعوه من "تحويشة" للعيش بكرامة ونغنيهم عن الحاجة لأحد وتكفيهم وأسرهم شر العوز.

لم يكن يعرف منير وزملائه أن الشركة ستعلن افلاسها ويغادر مسئوليها البحرين تاركين حساباً مصرفياً خاوياً مع وزارة العمل (هكذا قيل لهم). وعدت الوزارة أن تودع فيه مستحقات الشركة في السوق وإيرادات بيع أصولها المتبقية في البحرين، إلا أن الوزارة لازالت تنتظر وينتظر العمال، وعلم العمال أيضاً أن الشركة فعلاً باعت أصولها وتسلّمت ثمنه، لكنها لم تودع شيئاً في الحساب. وليس هناك معلومات واضحة عن إمكانية انفراج قريب للأزمة التي يعيشها هؤلاء.

تسلّم منير آخر راتب له وقدره 525 دينار بحريني قبل 11 شهر. ويقول: " في بداية 2019، كنا نعمل في أحد مشاريع الحكومة الكبرى التي تنجزها الشركة، عندما قررنا الاضراب عن العمل بعد توقف الشركة عن رفع رواتبنا مدة شهرين إلا أننا فوجئنا بشخص عرّف نفسه أنه من وزارة العمل وأخبرنا أن نعود إلى عملنا، ولأن المشروع يعود للحكومة فقد وعدنا أنه يضمن أجورنا مهما تأخرت، فعندنا للعمل بناءً على هذا الأمل، إلا أن الشهور توالت ولم نتسلم أجورنا كما اختفى هذا المسئول في كل مرة نذهب للقائه في وزارة العمل، وتم تحديد مسئول آخر ليتواصل معنا وأصبح يعدنا في كل مرة أن يتواصل مع الشركة ولكن لم نتقدم خطوة واحدة".

منذ 25 ديسمبر 2019، سجل منير وزملائه شكواهم لدى وزارة العمل، ويواظبون على مراجعة وزارة العمل ولم يحصلوا حتى الآن على جواب شافٍ، ولا يرون أفقاً لأزمتهم في الردود التي يسمعونها من مسئولي الوزارة في كل مرة.

منير وزملائه ال 50، يعيشون في سكن عمالي مهجور لا يعرفون متى سيطردون منه فلم يعد بإمكانهم دفع الإيجار بعد مغادرة إدارة شركة GPZ. جميعهم أيضا انتهت اقامتهم وأصبحوا رغما عنهم عمالة غير نظامية، وبالتالي عرضة للمسائلة، والتوقيف والترحيل.

منير هو الأكبر سناً بينهم ويحمل، دائماً، ورقة في جيبة يسجل فيها مستحقاته التي تتزايد شهرياً حتى بلغت في هذه اللحظة 18,300 دينار بحريني هي قيمة أجره المتأخر ومستحقات نهاية الخدمة وتذاكر السفر. جميعهم يفعلون الشيء نفسه. يقضون أيامهم في قلق وحساب وانتظار، ولا شيء غير انتظار ما قد لا يأتي.

مؤخراً تبرع مستشفي الهلال بإجراء فحصاً مجانياً لهؤلاء العمال، بالتعاون مع "جمعية حماية العمال الوافدين"، فتبين أن 43 من أصل 48 ممن خضعوا للفحص يعانون من أمراض هي بحاجة لفحص دوري ومعالجة منتظمة بالأدوية مثل أمراض السكر وضغط الدم والكوليسترول وقصور في وظائف الكلى. وكانت قراءة منير للسكر في الدم هي الأخطر إذ بلغ مستوى 557.7 mg/dl كما أن مستوى الكوليسترول بلغ 264.5. ووفرت الجمعية الأدوية لمدة شهر لهؤلاء العمال. إلا أن الشهر مر سريعاً ليظل العمال بدون الدواء للشهر الثاني على التالي فليس معهم مالاً، فالشركة قامت بتزويدهم بالطعام خلال الشهور الخمسة الأولى بعد أن أوقفت أجورهم، ثم استبدلت ذلك بمبلغ 20 دينار بحريني، ثم خفضت هذا المبلغ انخفض أيضاً إلى 10 دينار بحريني، ثم توقفت تماماً. وأصبحوا بانتظار الجهات الخيرية لتزويدهم بالمواد الغذائية الاساسية. مؤخراً أعيد إجراء الكشف الطبي على العمال وتبرعت إحدى الجهات لشراء الدواء اللازم لفترة الشهرين المقبلين. ولكن ماذا بعد؟

في المجموعة نفسها أصيب عاملا مسنا آخر بالشلل وبقي في المستشفى لمدة شهر، تحسن وضعه الصحي لكنه غير قادر على متابعة العلاج أو شراء الأدوية. وقبل عام توفي عامل من بنغلادش بسبب أزمة قلبية في بداية أزمتهم المالية مع الشركة. كما توفي في 2017 عاملا بسبب إصابته أثناء الاحتجاج والمطالبة بأجورهم حينما تم تفريقهم بالغاز من قبل الشرطة. وفي حادثة احتجاج أخرى في مارس 2019 تم احتجاز 11 من العمال وترحيلهم دون استلام مستحقاتهم من الشركة.

ويشار إلى أن شركة جي بي زخريادس المسجلة منذ 1976، كانت تعتبر من أكبر شركات الإنشاءات ربحية في البحرين، وكانت الحكومة أكبر عملاءها. وبلغت عائدات الشركة أوجها في عامي 2008-2009 لتصل إلى 130 مليون دولار أميركي. إلا أن الشركة بدأت في 2016 تعاني من بعض الصعوبات المالية، عندما بدأ العملاء يتأخرون في دفع مستحقاتها. وبدورها ظلت الشركة تتأخر أيضاً في دفع مستحقات آلاف العمال الذين يعملون لديها لمدة شهرين ونصف، مما دفع أكثر من 2000 عامل للاحتجاج لأول مرة بالإضراب عن العمل في منتصف 2016.

ومع إغلاق الشركة في يوليو 2019، كانت قد امتنعت عن دفع أجور 18 شهر لعمالها من فئتي الياقات البيضاء والزرقاء. إلا أنها قامت لاحقا بتسوية مستحقات بعض عمالها، وأعطت أولوية، بحسب العمال، للمدراء والمهندسين الأوروبيين وغالبيتهم من اليونان وقبرص الذين غادروا في وقت مغادرة أصحاب الشركة قبل عامين."  

الظروف التي يمر بها منير وزملاءه باتت ظاهرة، فعلى قائمة العمال -في قطاع الانشاءات خصوصاً -المنتظرين لأجورهم على الأقل الذين أعلنوا حاجتهم للمساعدة، يوجد 20 عاملاً تابعين لشركة "M&I" لم يتسلموا أجورهم منذ 7 شهور بالإضافة إلى مستحقاتهم. في 250 عامل لم يتسلموا رواتبهم لفترة لا تقل عن 5 شهور من شركة "Bahrain Motor Company". هناك أيضا 250 عاملاً بانتظار استلام رواتبهم ومستحقاتهم من شركة "بحرين موتور كومباني"، هاتين الشركتين لا تعمل على مشروعات حالياً مما يؤشر إلى وضع مشابه لعمال GPZ. هناك 2000 عامل فضلوا عدم ذكر اسم شركتهم كي لا يؤثر على سير محاولات استلام مستحقاتهم من الشركة. هؤلاء العمال لم يتسلموا راتبا كاملا منذ 5 شهور، الشركة تدفع لهم رواتب متأخرة وغير كاملة مما يجعل هؤلاء العمال في قلق دائم على حقوقهم. 

وجاء كوفيد 19 ليفاقم مشكلة عدم دفع الأجور، منير وآلاف في قطاع الانشاءات وآخرين في قطاعات أخرى، أتت آثار تفشي الفيروس على الاقتصاد على بقايا أملهم في استخراج حقوقهم من جيوب أصحاب العمل الذين يعانون أصلاً من ركود السوق وتوقف أعمالهم. هؤلاء العمال يلجؤون للإعلام وللجمعيات الحقوقية من أجل تسليط الضوء على مشكلة عدم استلام أجورهم ومستحقاتهم، وكلما تقدم الوقت بات الضرر يشتد وطأة عليهم وعلى ذويهم في أوطانهم. مؤخراً أصبحت نداءات هؤلاء لتأمين ما يبقهم في أمن من الجوع.

إن مسألة تأخر الأجر لا تحتمل التأخير والانتظار ففي كل يوم تأخير تتراجع جودة حياة هؤلاء العمال وتتضرر معيشة أسرهم وتعليم أبناءهم ويسيرون ومن ورائهم أسرهم خطوات نحو الفقر والحاجة والياس. هؤلاء بشر وليس مشروعات سنتوقف عن التفكير فيها حتى تتوفر الامدادات والموارد. قد يحتاج الأمر لإعادة هيكلة للإجراءات والقوانين وحتى الإدارات والهيئات المعنية التي فشلت في إيجاد حلول إدارية أو حقوقية أو إنسانية تجاه هذه المشكلات منذ أن أطلت بوادرها قبل فترة طويلة. ولكن الآن لابد من أن يتشكل فريق جاد عالي المستوى يدرس حلول فورية لهذه الظاهرة التي يشوه تفاقمها سمعة سوق العمل والثقة في قوة القانون وفي قدرات الجهات التنفيذية على إرجاع الحقوق لأصحابها.