لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الصوت الغائب للجيل الثاني من المهاجرين في دول الخليج

نادين الدقاق، من أفراد الجيل الثالث من المهاجرين في الكويت تتأمل في مسائل الهوية والانتماء التي قد تربك أبناء وأحفاد المهاجرين منذ فترات طويلة في الخليج

في 1 يوليو 2020

كمهاجرة من الجيل الثالث في الكويت، أجد صعوبة على المستويين، الشخصي والأكاديمي، في التفكير في مسائل الهوية والانتماء الوطني. يعود الكثير من المهاجرين إلى أوطانهم بعد العمل لسنوات قليلة في الكويت ودول الخليج، ولكن هناك أيضا أجيال من المهاجرين وُلدوا وترعرعوا في أماكن لا تمنحهم حقوقاً مدنية وسياسية، كما أن تجاربهم في العيش خارج حدود أوطانهم تجعلهم أيضا غرباء فيها. فكيف ينظر هؤلاء إلى المواطنة، وما تأثير التهميش الذي يتعرضون له على تصوراتهم للهوية الوطنية والانتماء؟

في العام 2011، عندما اجتاحت الاحتجاجات والانتفاضات السياسية العديد من البلدان العربية، بدا وكأنه من المتوقع، وبشكل كبير، أن يتفاعل المهاجرون في الحياة السياسية لبلدانهم الأصلية. وهذا التفاعل لم يفهم ببساطة على أنه تعبير عن الدعم لحق المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، وإنما يحمل معه توقعات من المهاجرين بأن يبذلوا استثمارا عاطفيا في الوضع السياسي في أوطانهما، بحيث يعود هذا الاستثمار لانتمائهم القانوني وارتباطهم الطبيعي بهذه البلدان. هذا التوقع ليس غريبا، فالكثيرين من الجيل الثاني من المهاجرين في الكويت والخليج يحافظون على روابطهم ببلدانهم الأصلية من خلال الزيارات السنوية. كما أن هذا الارتباط تدعمه ذكريات الآباء والأجداد الذين غالباً ما يحافظون على لهجاتهم وممارساتهم الثقافية، خصوصاً أن معظم دول الخليج تعيق إمكانية الاندماج الثقافي. كما أنهم يظلون على ارتباط قانوني من خلال الوثائق القانونية والأنظمة كجوازات السفر، وبطاقات الهوية الشخصية، وبرامج الرعاية الاجتماعية التي لا يمكن نقلها عبر الحدود، فهذه الوثائق تحدد بشكل تام إقامتهم في الخليج ومقدرتهم على السفر في عالم محكوم بإمكانيات غير متكافئة في فرص التنقل. ومن هنا يؤثر عدم الاستقرار السياسي في بلدان الأصل على المهاجرين في دول الخليج على أكثر من صعيد، أكثر مما يؤثر على المقيمين في دول الشتات حيث بإمكان المهاجرين الحصول على الجنسية،أقل ما يمكن قوله هو أنه يفاقم من انعدام الاستقرار في حياتهم.

هناك أيضا مخاوف من عواقب الجهر بالمطالبة بهذه الحقوق. أحد هذه المخاوف هو الترحيل.

لا أقترح هنا أنه ليس بإمكان الجيل الثاني من المهاجرين الاستثمار عاطفيا والانخراط في الأوضاع السياسية في بلدانهم الأصلية إذا لم يتسنى لهم العيش فيها، وإنما أرى أن توقع استثمارهم في بلدانهم تحديداً يؤكد وضعهم كالغرباء الذين يعود انتمائهم في نهاية الأمر إلى هذه البلدان دون تقدير لتأثر هويتهم بحقيقة أنهم ولدوا وترعرعوا في الخليج. إن الارتباط العاطفي الذي ينشأ في داخلهم في بلدان الخليج حيث يعيشون من الممكن أن يزاحم بل ويفوق الانتماءات الوطنية المجردة المتوقع منهم أن يحملوها في أنفسهم لبلدانهم الأصلية. 

كما أن هذه التوقعات تتجاهل التبعات الأساسية للمفاهيم المحدودة للمواطنة في المنطقة، ومن بينها التخلي عن الانتماء القومي تماماً. وفيما يمكن اعتبار انعدام الاستثمار العاطفي في الصراعات التي تعاني منها البلدان الأم بأنه موقف غير سياسي ورفض فردي للخروج من هامشية الشتات حيث يحتضن الفرد مشاعر الانتماء، فإن ما أهدف له ليس تقييم أو تبرير مواقف وسلوك الجيل الثاني من المهاجرين، وإنما المطالبة بضرورة لفهم الظروف التي تجعل مثل تلك المواقف ممكنة، ذلك لأنها مؤشرات لوجود أزمة في فكرة المواطنة والانتماء في المنطقة.  

الجيل المعولًم؟ 

يكتسب الكثيرون من جيل المهاجرين الثاني "سلوكاً معولماً" كنتيجة لانفصالهم عن بلدانهم الأصلية، وبسبب سياسات الهجرة غير المرنة في الخليج التي تجبرهم، باستمرار، على الاستعداد للانتقال إلى مكان آخر. وهذا السلوك يبدو أكثر وضوحاً لدى المتعلمين تعليماً "أجنبياً" ومن ذوي المنظور العالمي الذي يسمح لهم اعتبار الخليج محطة في رحلة حياتية أطول، أكثر منه الخيار الوحيد للعودة إلى الأوطان. 

ومن الممكن فهم السلوك المعولًم على أنه آلية للنجاة، ولكنه لا يحول دون تشكّل أجيال غير قادرة على الوصول إلى أي نوع من أنواع المشاركة المدنية لأن نشأتهم في الخليج حرمتهم من الانخراط السياسي في المكان الذي يعيشون فيه حياتهم اليومية. ولا تسمح لهم مشاعر الارتباط التي تكونت لديهم بالمطالبة بحقهم في الأماكن التي يعيشون فيها ويشكّلونها من خلال ممارساتهم الاجتماعية اليومية. هناك أيضا مخاوف من عواقب الجهر بالمطالبة بهذه الحقوق. أحد هذه المخاوف هو الترحيل. ويعتبر الانتماء المكاني، أو الروابط اليومية الحميمة التي يخلقها الافراد في الأماكن التي يعيشون فيها، أحد الطرق التي تعبر عن ارتباط المهاجرين بالخليج، إلا أن هذا النوع من الارتباط لا يجعلهم أصحاب حق في المشاركة أو المطالبة بانتماء دائم في الدول المضيفة.

وقد يتم تهميش صوت المهاجرين من الجيل الثاني في بلدانهم إذ لا يُنظر لهم على أنهم مواطنين أصليين فيها.

المؤقت الدائم

يحصل تأثير نظام الكفالة على الجيل الثاني من المهاجرين المقيمين في الكويت والخليج، في الغالب، على كثير من الاهتمام برغم من أنه يحكم عليهم بالبقاء في وضع من المؤقت الدائم دون أية إمكانية للتجنّس على المدى الطويل، وتحت ضغط يلوح في الأفق دائما لتجديد تصريح الإقامة. ويعد احتمال المغادرة قائم دائما في حال فقدان الوظيفة، كما أن الفشل في تجديد تصريح الإقامة، يعتبر سيناريو قائم دائماً، وعلى العائلات المهاجرة أن تكون مستعدة له دائماً. ليس من غير المألوف أن تتخلل ذكريات الطفولة مشاعر عدم الأمان التي اعتقد أنها تشكل أحد التحديات الأساسية للعيش في الكويت كشخص غير كويتي، سواء للبالغ أو الطفل. فغير الكويتيين يُذكًّرون دائماً بوضعهم من خلال السياسات التي أصبحت أكثر تقييداً، والخطاب العام الذي يلقي باللائمة في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية على العدد الكبير من المهاجرين، كما يعترف بأسى، مهاجر من الجيل الثاني، في مقابلة أجريت لدراسة حديثة النشر عن المغتربين المصريين في الكويت: " إنها حياة غير عادلة، لكنها في وجوهنا، وفي الأخبار، وفي تعاملات حياتنا اليومية في الكويت، ونحن نتقبلها، بل يجب عليها أن نقبلها."

وقد يتم تهميش صوت المهاجرين من الجيل الثاني في بلدانهم إذ لا يُنظر لهم على أنهم مواطنين أصليين فيها. ذكرت لي، ذات مرة، إحدى معارفي من المصريين الذين ولدوا ونشأوا في دبي أنه ينظر لها من قبل أقاربها، أنها ليست ذات حق في التعليق على ما يجري من أحداث في مصر لأنها لا تعيش هناك. قد يبدو ذلك متناقضاً مع اعتبار المهاجرين من الجيل الثاني يمتلكون انتماءً طبيعياً لدولهم الأصلية، ولكن هذا التناقض يتبرز صعوبة التوفيق بين الفهم الأصولي للانتماء الوطني والتجارب المختلفة التي تقع في ظله في نهاية الأمر. 

وبشكل مشابه، قد يؤثر التهميش على تجارب بعض المهاجرين في بلدانهم الأصلية. فالناس في هذه البلدان قد يجهلون حقيقة الحياة في الخليج لغير المواطنين، ولكن من الممكن، مع ذلك، أن يكون لديهم صورة متخيلة وأحياناً نمطية عن الخليج. فالمهاجرين الذين ولدوا ونشأوا هنا يُنظر لهم على أنهم مدللون بسبب امتيازاتهم وعاداتهم الاستهلاكية الباهظة المُفترضة، وحماية الأهل المفرطة لهم. على سبيل المثال، ذكرت لي صديقة سورية غادرت الكويت إلى دمشق للالتحاق بالجامعة هناك، كيف، وببساطة، لم تؤخذ صعوباتها المالية في الاعتبار من قبل زملائها في الدراسة لأنه كان يُنظر لها، نمطياً، على أنها ثرية.      

أزمة المواطنة والانتماء

في الخليج، حيث الصمت هو الوضع العادي، وحيث الخوف من عواقب الجهر بالرأي هو الحقيقة التي تهدد الوجود الهش للمهاجرين، ليس من غير المتوقع أن يتنصل الكثيرون من كل اشكال الانتماء الوطني ويُنكروا أي استثمار عاطفي في الأوضاع التي تمر بها بلدانهم الأصلية.  

قد يُفهم الانفصال عن الانتماء الوطني على أنه موقف عملي أو براغماتي تولّد بسبب الحاجة للتأقلم مع وضع التهميش الذي قد يتعرض له البعض. ومن الممكن أن يكون ذلك أداة للتحرر، أو ربما لتمهيد الطريق لرؤية منفتحة إن لم تكن عالمية للعالم. تُظهر يوتينغ وانغ في مقابلاتها مع  طلاب غير إماراتيين في جامعة أميركية مرموقة في الإمارات أنه بالرغم من "أن أبناء الأجانب يوصفون دائما بأنهم جيل "بلا جذور"، حرموا من المواطنة بمعناها الحقيقي في أي دولة، إلا أن ذلك مكّنهم من تجاوز الحدود الوطنية إلى العالمية." كما أن مستواهم الاجتماعي الذي مكّنهم من الحصول على مستويات تعليم عالية، والتنوع الثقافي في الإمارات أتاح لهم "إيجاد طريقاً لهم بعيداً عن القبلية، ومحدودية الأفق، والوطنية وتطوير التعاطف تجاه الآخرين." إن تقبلهم لذاتهم التي تشكّلت في الشتات، وللتهميش يمكّنهم من التحرر من الانتماءات الوطنية المقيدة. 

إلا أن ذلك لا يُغيّر حقيقة عدم إمكانية التعبير والجهر بالرأي، خصوصاً بين المهاجرين الذين يصعب عليهم الحصول على ميّزات العالمية، والذين يعتبرون الخليج وطنهم شبه الدائم و المكان الوحيد الذي يأملون البقاء فيه. لفهم إمكانيات الانخراط السياسي أو غياب الانتماء الوطني، لا بد من الأخذ بالاعتبار الجوانب المختلفة والمعقدة للوضع الذي انبثقت منه، حيث الانفصال العاطفي هو الخيار الوحيد المتوفر للجيل الثاني من المهاجرين. 

(تصوير: Flickr @steveglasgow)