لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

هجرة الأجانب الجماعية من السعودية تغيّر النسيج الاجتماعي للمدن

في 24 أغسطس 2020

لعقود طويلة، كان يشار لحيّ العزيزية في جدّه بـ “باكستان الصغيرة" لكونه مكاناً لسكن الآلاف من الجنوب آسيويين. 

المدرسة الباكستانية بالعزيزية

ويضم الحي، وهو أحد أكبر الأحياء في المدينة، عشرات المحلات الهندية والباكستانية والمطاعم بالإضافة إلى مدرستين، هندية وباكستانية. وتلبي مناطقه السكنية احتياجات شرائح من السكان بمختلف الدخول، تتراوح ما بين المساكن المشتركة للعمال وغالبيتهم من العزّاب الذكور، وحتى مجمعات الشقق السكنية الأحدث التي تجتذب العائلات متوسط الدخل. 

ولكن، منذ 2017، أصبح العديد من الوحدات السكنية شاغراً، واستمر إغلاق الشركات مع مغادرة الأجانب بأعداد كبيرة، إلى أوطانهم.

وهذه الهجرة الجماعية ليست مقصورة على جده. فقد شهدت المدن في جميع أنحاء المملكة التي كان يسكنها تاريخيا، أعداد كبيرة من السكان الأجانب، مثل الرياض، والمنطقة الشرقية، والمدينة، مغادرة جماعية خلال الشهور الأخيرة. وانخفض إجمالي غير السعوديين المسجلين في القوى العاملة بـ 1.47 مليون شخص ما بين الربع الأخير من 2016 والربع الرابع من 2018.

"أبناؤنا لم يذهبوا قط إلى باكستان، وبرغم أن والداي يذكّراني دائماً بأنني لا أملك مستقبلاً ثابتاً هنا، وأننا، كعائلة، علينا أن نبقى على اتصال بجذورنا، إلا أنني وزوجتي لم نتفاعل مع الأمر بشكل كامل وواقعي، ولذلك، فإن هذا التغيير مفاجئ جداً وصعب علينا جميعاً."

ويعتبر غلاء تكلفة المعيشة هو السبب الرئيسي وراء حركة النزوح تلك. ففي يوليو 2017، بدأت السعودية  فرض ضرائب على جميع المُعالين من الرعايا الأجانب والذين يشكلون ما بين 35% -37% من سكان المملكة البالغ 33 مليون نسمة. وكان من المقرر أن تزيد الرسوم الشهرية تدريجيا على مدى أربع سنوات، ابتداءَ من 100 ريال سعودي (27 دولار أميركي) لكل مُعال. وفي بداية يوليو 2020، بلغت قيمة الرسوم الشهرية للمعال 400 ريال سعودي (106 دولار أمريكي). ولا يمكن تجديد تصريح الإقامة، أو إصدار تصريح الخروج ومعاودة الدخول إلا بعد دفع الرسوم. 

وتطبّق الرسوم على جميع المُعالين الأجانب – الأبناء، والزوجة، والآباء-من "جميع الجنسيات بدون استثناء". وهذه الرسوم ليست في متناول العديد من العائلات الأجنبية، الأمر الذي اضطرهم لإعادة من يقعون تحت إعالتهم إلى بلدانهم الأصلية. 

يقول أحمد، 36 عاماً من باكستان: "لدى زوجة وثلاثة أطفال، لا يمكنني، على الاطلاق، دفع أكثر من 1000 ريال سعودي شهرياً فقط لإبقائهم معي، لأنه لم تتبقَ لدينا أية مدخرات." مضيفاً: "لا أعرف أي أحد بإمكانه أن يفعل ذلك، ولذلك فهم أعادوا عائلاتهم بأكملها إلى أوطانهم، أو على الأقل أعادوا الأبناء". 

وأحمد من مواليد جدّه، ونشأ فيها أيضاً، ولم يعش في باكستان سوى أربعة أعوام عندما التحق بالجامعة للحصول على البكالوريوس في التمويل. 

ويقول:" لقد تزوجت هنا، كما أن زوجتي قضت معظم حياتها هنا". ويضيف:" أبناؤنا لم يذهبوا قط إلى باكستان، وبرغم أن والداي يذكّراني دائماً بأنني لا أملك مستقبلاً ثابتاً هنا، وأننا، كعائلة، علينا أن نبقى على اتصال بجذورنا، إلا أنني وزوجتي لم نتفاعل مع الأمر بشكل كامل وواقعي، ولذلك، فإن هذا التغيير مفاجئ جداً وصعب علينا جميعاً." 

مبدئياً، خطط أحمد للانتقال مع عائلته إلى عُمان، ولكنه قرر فيما يعد أن يبدأ إجراءات التقديم للهجرة إلى نيوزيلانده. ويأمل أن يتمكن من الانتقال إلى هناك والعيش بشكل دائم خلال السنوات القليلة المقبلة. 

يقول: "أشعر أنني لو كان عليّ أن ابدأ من جديد في أي بلد، فسأحاول أن أنتقل إلى مكان يكون لعائلتي فيه مستقبل ثابت، وأن ينتموا اليه بشكل حقيقي حتى بعد تقاعدي." ويضيف:" سأشعر دائماً بالخليج أنه وطن لي ولزوجتي ولكن الشعور لا يكفي عندما يكون هناك، دائماً، مجموعتان مختلفتان من الحقوق للمواطنين وللمقيمين."

من جانبها تقول، إيمان، الطالبة الهندية بالصف التاسع في مدرسة دولية بالخُبر، أن أكثر من نصف زملائها في الصف وأصدقاء آخرين منذ ما قبل 2017، غادروا الآن. 

وتقول:" إن التغيير واضح للغاية – الصفوف أصبحت خالية، كما ان المطاعم الهندية والباكستانية والمتاجر أصبحت الآن خالية، فيما كانت في السابق، دائماً، مزدحمة بأكثر من طاقتها." وتواصل: “أود أن أقول إن غالبية الطلاب في مدرستي لا يأتون من خلفيات يمكن أن تعتبرها مكافحة، ولكن ليس عبء الضريبة وحده الذي أدى إلى ذلك، وإنما عدم يقين الآباء من احتفاظهم بوظائفهم."

ولا تنطبق الضريبة على المعالين فقط. فمنذ يناير 20189، أصبح على الشركات التي  توظّف من الجنسيات الأجنبية أكثر من السعوديين ، أن تدفع رسوماً شهرية بقيمة 400 ريال سعودي (106 دولار أمريكي) عن كل موظف أجنبي. أما الشركات التي توظّف عدداً مساويأً أو أقل من الأجانب مقارنة بالسعوديين، فيتوجب عليهم دفع 300 ريال سعودي (80 دولار أمريكي) عن كل موظف غير سعودي. 

وسوف ترتفع الرسوم بمقدار 200 ريال سعودي سنوياً ولمدة أربعة أعوام لأغلب الشركات، فيما عدا تلك العاملة في القطاع الصناعي الذي عانى للتأقلم مع عمالة بكلفة أكبر. وبحسب بيان مجلس الوزراء، فإن الحكومة سوف تتحمل تكلفة الرسوم المفروضة على العمال الأجانب نيابة عن المؤسسات الصناعية التي تم الترخيص لها اعتبارا من 1 أكتوبر 2019، ولمدة 5 سنوات. 

وشهد الربع الرابع من العام 2019، زيادة في عدد العمالة من غير السعوديين لأول مرة من 2016، بـ 770,000 شخص. ومع ذلك، استمرت عمليات التسريح الجماعي للكثير من الأجانب من الشركات في محاولة لتخفيض عبء الضرائب عنها. ومع تنامي الشعور بعدم اليقين بين العمال الأجانب، استمر زخم المغادرة وإن كان بوتيرة أقل مما كانت عليه قبل 3 سنوات. 

يقول أحد الهنود المقيمين في جده، والذي عاش في السعودية كل حياته: "النزوح الجماعي واضح جداً في الحي الذي أعيش فيه، والذي كان يقطنه في الغالب وافدين". وأضاف مفضلاً عدم الكشف عن اسمه: "تم إخلاء الكثير من المساكن في الحي بشكل جماعي. والكثير منها لايزال شاغراً. وفي الغالب يوجد في كل مبنى – ليس فقط في الشارع الذي أعيش فيه وإنما تقريباً في الحي بأكمله – شققاً خالية". 

ويضيف الثلاثيني الذي يعمل في شركة خاصة وهو أيضا كاتب في الشأن الثقافي، إن الكثير من الشركات الصغيرة كالمطاعم والصالونات، ومحلات البقالة الصغيرة والتي كانت تقدم خدماتها لزبائنها من جنوب آسيا، أغلقت تباعاً خلال السنوات الثلاث الماضية. 

وقال رجل أعمال سعودي فضل عدم ذكر اسمه، إنه على الأقل أربع من بين إحدى عشر شقة في مبنى سكني يملكه في العزيزية ظلت شاغرة خلال العامين الماضيين.

وهو يتشارك أيضا في ملكية مبنى سكني في منظفة الرحاب، وهي منطقة سكنية ليست بعيدة عن العزيزية وتحظى بشعبية بين السعوديين وغير السعوديين. وهناك، بقيت شقتان من بين ثماني شقق، شاغرة لعدة أشهر خلال العام الماضي. 

وبتردد في سرد التفاصيل، قال:" كانت السنتين أو الثلاث سنوات الماضية بالتأكيد صعبة، إلا أنني أحاول التمسك بالإيمان بأن الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الوضع، وأن الأمور سوف تتحسن قريباً." وأضاف: " أما الآن مع حدوث أزمة كوفيد 19، ومع كون الأمور أصبحت أكثر غموضاً، لن أتفاجأ إذا ما ترك اثنان أو أكثر من المستأجرين السكن في المبنى بشكل نهائي – إنني بالتأكيد أتوقع ذلك". 

إلا أنه، أشار إلى أن ملاك العقار الذين يؤجرون عقارات للعائلات الأقل دخلاً، هم أكثر المتضررين بشكل مباشر. 

ويقول: "إن الشقق في المبنى الذي أملكه في العزيزية، واسعة وحديثة إلى حد ما – وغالبية المستأجرين فيه هم من الأطباء العاملين في المستشفيات الحكومية، أو في مناصب إدارية عليا." ويضيف:" على الرغم أنهم أيضا أجانب، إلا أنهم لم يتأثروا الآن مثل ذوي الرواتب الأقل وأصحاب العقارات الذي يؤجرون عقاراتهم لهم. إلا أن هذا قد يتغير، بالطبع، خلال الشهور المقبلة إذا ما ساءت تأثيرات الجائحة." 

"إن التغيير واضح للغاية – الصفوف أصبحت خالية، كما ان المطاعم الهندية والباكستانية والمتاجر أصبحت الآن خالية، فيما كانت في السابق، دائماً، مزدحمة بأكثر من طاقتها."

وذكر تقرير أصدرته جدوى للاستثمار التي تتخذ من الرياض مقراً لها، أنه خلال الفترة ما بين 22 أبريل و3 يونيو قُدم ما مجموعه 178,000 طلب من خلال خدماتهم لتسهيل مغادرة عمال مهاجرين، وأن نحو 300,000 ألف من غير المواطنين قد غادروا المملكة هذا العام. إلا أن التأثيرات الدقيقة لكوفيد 19 على المهاجرين من السكان لم يتم تحديدها بدقة بعد. 

وفي مارس، أعلنت وزارة الداخلية أنه يمكن جديد تصاريح الإقامة مجاناً حتى 30 يوليو لتعويض آثار الجائحة. وفي يوليو، أقر الملك سلمان  ، مرة أخرى، تمديد عدد من مبادرات تمديد التأشيرات والإقامة مجاناً. 

ومع ذلك، فمن المتوقع أن يؤدي عدم اليقين المتواصل بشأن الأمان الوظيفي، وارتفاع كلفة المعيشة – تم رفع القيمة المضافة من 5% إلى 15% منذ 1 يوليو – إلى إجبار العمال الأجانب على إعادة التفكير في قراراهم مواصلة البقاء والعمل في السعودية. 

ومع مغادرة الأجانب البلد بمعدلات أعلى من أي وقت مضى، فرغت بعض الأحياء التي كان يقطنها مواطنو جنوب آسيا في العزيزية بجده بشكل دائم دون أية جهود رسمية للمحافظة على الدور الثقافي والاجتماعي الذي كان يلعبوه في تاريخ المدينة المتنوع والمعقد وتراث العصر الحديث. 

والإشارة الوحيدة التي تمت لهذا الحي في الإعلام المحلي، وردت في مقال بأحد الصحف اليومية الرئيسية الصادرة باللغة الإنجليزية، والذي أشار إلى "موقع سكن آلاف العائلات الأجنبية، خصوصاً من الباكستانيين والهنود" على أنه يحوي "مخابئ للأنشطة الإجرامية"، وأنه "أرض خصبة للفئران والبعوض" وايضاً أنه مأوى "للعمال الأجانب غير النظاميين (...) المتورطين في تهريب المخدرات."

يقول أحمد، بما يعكس وجهة نظر كثيرين على المقال" الوصف ليس عنصرياً فحسب، وإنما هو ببساطة غير صحيح. مضيفاً: "أنه ليس مليئاً بالأنشطة الإجرامية، وإنما بالكثير من الباكستانيين والهنود، وأنه كان "كالوطن" لكثيرين على مدى عقود من الزمن". 

مصدر الصورة:  Jeddah Photo ; PISJ Facebook