تعاني بلادي من مشكلة البطالة. وتشير بعض التقديرات إلى أن ما بين 50٪ و70٪ من الشباب الكينيين لا يعملون في وظائف مناسبة. والوظائف المتاحة لا تدفع سوى أجوراً متدنية، وحتى هذه الوظائف، لا يحصل عليها الناس في الغالب إلا عن طريق الرشوة والمحسوبية.
في 2017، توافد أصدقائي إلى قطر عندما احتاجت للقوى العاملة لتحقيق طموحاتها الشامخة لكأس العالم. حصل أصدقائي هناك على وظائف لائقة يكسبون منها الحد الأدنى للأجور، لقد تحققت أحلامهم، وكانت هذه خطوة نحو بداية جديدة. وخلال الفترة نفسها، أما أنا فقد دخلت المستشفى بسبب الاكتئاب، وكنت حينها في الـ25 من عمري.
بالنسبة لنا، يمنحنا العمل في الخليج، الاحترام، والكرامة والأمان – فبإمكانك في لحظة التخلص من البطالة وتحصل على الأمان خلال عامي العقد الذي يمنحك راتباً معفياً من الضرائب. وبإمكان الواحد منا أن يلبي احتياجات عائلته وأحياناً تمتد المساعدة للعائلة الممتدة. ولقد حاولت أكثر من مرة القيام بتلك التجربة، لكن كان يعيقني عدم توفر وثائق السفر المطلوبة، أو افتقاري للمال لدفع الرسوم الباهظة التي يطلبها الوكلاء في كينيا.
كانت والدتي قد عملت في المنظمة الدولية للهجرة في التسعينات، وساعدت كثير من اللاجئين على الانتقال من مكان لآخر. وكنت أذهب لزيارتها في المكتب لأفهم كيف تتم المساعدات الإنسانية الأساسية – وقد ساعدتني ذاكرتي البعيدة تلك فيما بعد عندما كنت أبحث عن المساعدة. بعد خسارتها لوظيفتها ووفاتها في 2002، انتهي بي الأمر بالعيش مع أقارب لي في الأحياء الفقيرة لماثاري بنيروبي. حينها انضممت لنادي التصوير الفوتوغرافي للأطفال والشباب حيث كنا نلتقط الصور ونحكي قصصنا من تلك الأحياء الفقيرة، كما كنا نقيم المعارض فيها. وأذكر هنا أن غالبية أصدقائي الذين جاؤا إلى قطر في 2017، كانوا ملتحقين بهذا البرنامج. حصدت عدة جوائز وكنت نجماً صاعداً في تصوير الأفلام والتصوير الفوتوغرافي. وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية، عملت لدى أقدم صحيفة كينية، الوظيفة التي أحببتها كثيراً وكرست نفسي لها، لكن الشركة تخلت عني لأني لم أحصل على الدرجة الجامعية وأيضا بسبب الإيرادات المتضائلة التي كانت تعاني منها الصحافة المطبوعة.
كما عملت أيضا كمصور صحافي مستقل لصحيفتين كينيتين فور تخرجي من الثانوية العامة. لم يكن الأجر الذي حصلت عليه هو الأفضل كما أنه لم يكن ثابتاً. كنت أكسب المال بعض الشهور وشهوراً أخرى لا أكسب شيئا. كانت لدى أقارب من عائلتي الممتدة أعيلهم وكان عمي مصاباً بالشلل النصفي. لقد فقدت والديّ قبل أن أبلغ العاشرة من عمري، كان أبناء عمي وعمي هم عائلتي، وكنت بحاجة لأن أساعدهم. وكان شكل الإعالة يتراوح ما بين دفع رسوم المدرسة، ودفع فواتير المستشفى، وضعت كل رهاناتي على الوظيفة في الخليج.
"...وحتى عرض الوظيفة الذي أعطي لي، لم يكن به تاريخ أو توقيع. أعطينا وثيقة مكونة من 10 صفحات شاملة لعقد العمل، وتفاصيل وكالة التوظيف، والتأشيرة وتذكرة السفر. وكان متوقعاً منا، فقط، التوقيع هناك، لم يكن بإمكانهم حتى قراءتها حينئذ."
الدفع من أجل الوظيفة
لاتزال فكرة دفع المال من أجل الحصول على وظيفة، غير مفهومة لدى كثيرين…أنا نفسي لا أفهمها. لقد دفعت لوكيل توظيف في نيروبي حوالي 1600 دولار أمريكي. وهذا مبلغ كبير جداً في كينيا – كافياً لتأسيس شركة صغيرة أو شراء قطعة أرض صغيرة. ربما كانت الشركة أكثر جدوى لكنها تحتاج الصبر والوقت لتحقق دخلاً. لو كنت قد اقترضت مبلغاً من المال للبدء في مشروع تجاري، فكان عليّ أن أحقق عائداً منه على الفور، لكن ذلك لم يكن ممكناً … والأمر نفسه لشراء الأرض، فالزراعة تحتاج وقتاً لتحقق أرباحاً. ولذلك، اتخذ كثيرون منا قرار الاقتراض والسفر إلى دول الخليج ومن ثم نقوم بسداده تدريجياً وببطء. علىّ أن أضيف هنا، أنه من الصعب اقناع شخص هو أيضا من المقرضين المرابين أن يقرضنا المال للاستثمار في كينيا. فهم يعرفون أن مخاطرة عدم السداد عالية جداً.
قبل عدة عقود، كان أغلب الوكلاء نزيهين وأصيلين، لكن مع اليأس المتزايد من الحصول على وظيفة في الخارج. تحول العديد من الوكلاء إلى محتالين. البعض منا يكون محظوظاً، لكن البعض يخسرون مبالغ ضخمة. وغالباً ما يتم توفير هذا المال من الاقتراض من المرابين، أو من بيع ممتلكات العائلة. قمت باقتراض 180٫000 شلن كيني (1٫400 دولار أمريكي) للسفر – في الحقيقة توسلت للحصول على هذا القرض من أحد المرابين، ووعدته بدفع معدل فائدة قدره 7٪ شهرياً. فكان علي تسديد 12٫000 شلن كيني (93 دولار أمريكي) شهرياً، كفائدة فقط على مدى ـ6 إلى 7 شهور. بالنسبة لي كمسلم، لم يكن من المفترض أن أفعل ذلك، لكن هذا كان خياري الوحيد. زملائي دفعوا أكثر من ذلك بكثير – البعض دفع 40٫000 شلن كيني شهرياً. لذلك فقد كنت محظوظاً.
قمت بدفع المبالغ المطلوبة لهيلين دوللي كونيا من وكالة التوظيف مولينيا المحدودة، لكنني لم أقابلها سوى في اليوم السابق للسفر. فقد قامت بتنسيق كل شي عن بعد، ورتبت لإجراء فحص طبي للأمراض التي تنتقل بالجنس، والسل وأية إعاقة أخرى قد تعيق انتاجيتي. استغرق الأمر ثلاثة أشهو طوال، منذ استلام خطاب العرض للوظيفة حتى تأمين الرحلة بالطيارة. كان خطاب عرض الوظيفة باسم ستيت بيلدينج لخدمات التوصيل (Styt Byldynj Lkhdmat Altawsyl). وفي طريقي إل المطار للمغادرة، كنت متحمساً جداً، لأن السفر نفسه يعتبر أمراً يبعث على الزهو. وهو أمر يغبطه الجميع ويتمناه.
قمت بالتحضير والتوكيد لشهور عدة، كما قمت بدراسة قوانين قطر وقضيت ساعات أنظر لمكونات هذا البلد من المطار إلى المترو. كنت حقاً أرغب في الانضمام لأصدقائي الذين ذهبوا في 2017. انهم ذهبوا في وقت جيد، واستفادوا. لقد كبرنا معاً، وعندما اسمع قصصهم كنت أشعر أن أموراً كانت تحدث هناك، تفوتني. كان هذا انجاز العمر. فالنجاح سيعني أن بإمكاني شراء قطعة أرض، بناء منزل صغير، أو علـى الأقل شراء دراجة نارية – اعتلاء السلّم الاجتماعي درجة تلو الأخرى.
كنا 10 أشخاص جئنا معاً إلى الدوحة، ذلك برغم إننا لم لن نكن نعرف بعضنا قبل ذلك اليوم، وأننا كنا جميعاً ذاهبين للعمل كسائقين توصيل بالدراجات النارية «دبابات». لم أقد في حياتي قط دراجة نارية قبل حصولي على هذا العرض. قدتها مرة واحدة في أبريل عندما علمت أنه سيكون علي الذهاب لهذه الوظيفة، في محاولة يائسة مني لتعلم قيادتها. وبالطبع عندما وصلت إلى الدوحة، علمت أنهم يقودون المركبات على الجانب الآخر من الشارع، وكان الأمر مخيفاً إلى درجة كبيرة بالنسبة لنا لأننا لم نكن متعودين على ذلك.
باستثنائي، لم يعط أي منا عقد عمل قبل الوصول إلى المطار، وحتى عرض الوظيفة الذي أعطي لي لم يكن به تاريخ أو توقيع. أعطينا وثيقة مكونة من 10 صفحات شاملة لعقد العمل، وتفاصيل وكالة التوظيف، والتأشيرة وتذكرة السفر. وكان متوقعاً منا، فقط، التوقيع هناك، لم يكن بإمكانهم حتى قراءتها حينئذ. ولم يسمح لنا بقراءتها إلا عندما وصلنا إلى الدوحة. كان الكثير من الآخرين مسافرين للمرة الأولى، وكانوا قلقين ولم يكن بإمكانهم أن يسألوا الأسئلة الصحيحة. كان الشئ الوحيد الذي أقنعني هو أنني تأكدت، الكترونيا، من صلاحية تأشيرتي – صدرت في 18 مارس 2024 وصالحة حتى 3 سبتمبر 2024، وكان اسم صاحب العمل «شبوة لتجارة المواد الغذائية» (وهي كانت فرع من الشركة التي تسلمنا منها عرض العمل). وبرغم أن الوظيفة في التأشيرة هي عامل، إلا أنهم أخبرونا أن الأمر لا يهم، وأننا جميعاً سنعمل كسائقي توصيل. وعندما رأيت التأشيرة الالكترونية اقتنعت بشرعيتها.
"وفور وصولنا [في الشارقة]، تم فصلنا – الأفارقة في مكان، والآسيويون في مكان آخر. كان هناك نحو 500 من الأفارقة في مكان مكتظ ... كان الحراس في الشارقة قساة؛ وعوملنا وكأننا أدنى من مستوى البشر."
في عصر يوم مشمس، انطلقنا من نيروبي في 4 يونيو 2024 إلى الشارقة، الإمارات على طيران العربية. وفور وصولنا، تم فصلنا – الأفارقة في مكان، والآسيويون في مكان آخر. كان هناك نحو 500 من الأفارقة في مكان مكتظ بهؤلاء القادمون إلى الشرق الأوسط للعمل، وأيضا من بينهم العائدون بعد ان أنهوا عقود عملهم. كان غالبيتهم نساء من كينيا، وأوغندة، وزيمبابوي وملاوي… كان الحراس في الشارقة قساة؛ وكنا نعامل وكأننا أدنى من مستوى البشر، لكننا كنا مبهورين بالأضواء البراقة والمشهد الذي كانت عليه الإمارات.
أمضينا الليل، حوالي 12 ساعة، في المطار. لم نتناول شيئا من الطعام سوى شطيرة صغيرة في رحلتنا الأولى، وكان علينا أن ننام على الأرض. لم يكن التكييف شائعاً في كينيا، لذلك كان علينا تحمل البرد الشديد في تلك الليلة. في 5 يونيو، صعدنا على متن الطائرة الساعة 8 صباحاً، ووصلت إلى الدوحة 8 صباحاً أيضا. كانت هذه المرة الأولى التي أعي فيها عبور المناطق الزمنية اذ كنت قد نمت طوال الرحلة من نيروبي إلى الشارقة.
من باب الأمل إلى بوابة الجحيم
كنت متحمساً، فقد كان المطار نظيفا ومنظماً. سارت الأمور بسلاسة. لم أكن أعلم أنها كانت بداية الكابوس. قضينا 8 ساعات في المطار. ولو قضينا وقت أطول لتم ترحيلنا. كان المسئولون قد بدأوا يتساءلون عن سبب بقاءنا في المطار لمدة طويلة. وأخيراًً وصل الكيني كينيدي ماينا، وهو المشرف – أو على الأقل، هكذا قدم نفسه – وهو من سينقلنا من المطار. لكنه ادعى أن السيارة تعطلت. كان كينيدي هو نقطة التواصل مع الوكيل في كينيا وهم من قام بالرتيب لكل هذا.
وبذلك، تم اصحابنا من المطار في سيارتي أوبر. وخلال مرورنا، شاهدت واجهة الدوحة وسحرها، نحن في طريقنا إلى الريان، حيث لم يكن المكان فاخراً، ويسكنه الأشخاص الذين لا يتناسبون مع أجواء الدوحة الفاخرة. لم تكن المنطقة فاخرة ولا براقة، لكنني جئت من أجل العمل، وكنت مصمماً على تغطية كافة نفقاتي. كنت جاهزاً للنجاح.
نزلنا في شارع 644 بجانب حاوية قمامة – «إنه حي متدني المستوى، وأقيم في المكان الخطأ من المدينة» هذا ما كان سيقوله صديقي الذي يقيم في الدوحة، لكن ذلك لم يؤثر فيّ على الاطلاق. دخلنا إلى غرفة حيث وجدنا مراتب النوم على الأرض، كما كان هناك طحين ذرة كيني، وأواني طبخ، ودجاج. بالنسبة لنا، يعتبر الدجاج رفاهية، لذلك قمنا بتحضير وجبة بحماس، واستلقينا على الأرض لنرتاح. كان علينا أن نكون نبهين ونتعلم بسرعة، فالمطبخ كان مشتركاً وعاداتنا تختلف عن زملائنا الذين نتشارك معهم السكن في الشقة.
أحضر كينيدي فيما بعد أسرة بطابقين، وقام فريق منا بتركيبهم. شيئا فشيئا ذهبنا إلى النوم وفي أحلامنا ينتظرنا مستقبل مشرق. كنا 10 أشخاص نتشارك النوم في غرفة صغيرة.
استيقظت في الساعة 3 فجراً على صوت الآذان ينادي للصلاة. كرجل مسلم، فوجئت أن شروق الشمس في 3 صباحاً. ذهبت إلى الصلاة، كانت قراءة القرآن في المسجد تتلى باللهجة البنغالية الثقيلة، وعند عودتي كانت الشمس قد أشرقت وأصبحت حارقة. كان البنغاليون والباكستانيون مهتمين بنا بسبب غرابة شكلنا. إذ ليس من المعتاد رؤية كينيين في هذه المناطق. في البداية كان هناك سوء فهم وعداوات، لكن الأمر تحول فيما بعد إلى دعم أخوي – كانوا يقدمون لنا اللحم، والسمك والخبز العربي كلما كان لديهم فائض منه. كمسلم، اعتقدت أن وجودي في قطر مناسب جداً. اعتقدت أن لغتي العربية القرآنية التي يعود عمرها إلى القرن الرابع عشر، ستساعدني على الاستيعاب، لكنها لم تكن كذلك.
كما أخبرنا كينيدي أننا لن نتسلّم رواتبنا لمدة 3 شهور التي سنقضيها للحصول على رخصة السياقة، وسيتم خصم الرسوم من رواتبنا – 533 ريال قطري (146 دولار أمريكي) شهرياً ولمدة 3 شهور، عندما نتسلم 1267 ريال قطري (347 دولار أمريكي) نقداً من أصل 1800 ريال قطري (493 دولار أمريكي) التي وُعدنا بها [بحسب قانون العمل الوطني، يحق للموظف الحصول على 1300 ريال قطري (356 دولار أمريكي) كحد أدنى يتم دفعها بتحويل مصرفي من خلال نظام حماية الأجور]. لم نكن نتوقع أن تُدفع لنا رواتب. كما نص خطاب عرض العمل الذي تسلمناه أنه لا يحق لنا الحصول على أي طعام أو تغطية طبية. كنا قد حملنا معنا أطعمه من كينيا تكفينا على الأقل لمدة أسبوعين. طحين، وأسماك وخضروات مجففة. كنا مستعدين لأي شيء ولكل شيء.
كان علينا أن نجري فحصا طبيا بعد وصولنا، يتحمل كلفته صاحب العمل، وبعد حصولنا على بطاقة الهوية القطرية (تصريح الإقامة)، كان المتوقع منا أن نسجل لدروس تعليم السياقة. حتى راتبنا الشهري (1800 قطري) كان مشروطاً بأن نقوم بـ 300 عملية توصيل شهرياً، وبعدها بإمكاننا أن نتوقف عن العمل ونحصل على إجازة، أخبرنا جميع سائقي التوصيل الذين تحدثنا معهم بعد وصولنا، أن هذا غير ممكن، وأنه أقل من المعتاد.
كان كينيدي يزورنا ليلا فقط. وكان يقدم لنا وعوداً تلو الأخرى في أول أسبوعين من وصولنا، لكنه بعد ذلك، ادعى أن الشريك التشادي عبدالجدة إدريس قد ذهب إلى السعودية لأداء فريضة الحج. ثم، فيما بعد أرسل لنا مقطع فيديو للرئيس في حفل زفاف. ومع مرور الأسابيع، كنا نحاول تقبل كل قصة بالتماس الأعذار لهم. ولندع الأمور تسير بنا بسلام، كنا نتسلم تحويلات مالية من كينيا ثم نقوم بتحويلها إلى الريال القطري. وكان الصرافون عبارة عن مهربين ونصابين. هذا ما أوصلنا اليه التعامل مع كينيدي. كان ذلك بمثابة انذاراً لنا بشأنه.
كان لدي 1000 شلن فقط، وقمت بتحويلها إلى 27 ريال قطري (7 دولار أمريكي). ناقشت الأمر مع القائم بإدارة شئون المبنى بشأن الانترنت، فزوّد المبنى بخدمة الواي فاي بمبلغ 25 ريال قطري، لكي أتمكن من التواصل مع أقاربي في كينيا. واشتريت بالريالين المتبقين سيجارتين.
بعد مرور أسبوعين، تخلى عنا كينيدي بالكامل. كنت أتجول في المساء بحثاً عن كينيين أو على الأقل لأجد من أتحدث معه. كنت قلقاً. لاحظت أنني، خلال تجوالي لمدة أسبوعين، لم أر امرأة أو طفل، كان عالماً غريباً. كان من المفترض في هذا الوقت أن أكون قد أجريت الفحص الطبي، وأن تكون بطاقة إقامتي قيد الإجراءات، لكنني كنت عالقاً، ويبدو أن لا معلومات تصل الينا. قضيت الليلتين التاليتين جائعاً. هنا صدمت بالحقيقة – لم يكن هناك وظيفة.
قضيت ساعات طويلة أبحث في الانترنت عن معلومات حول الشركة، دون جدوى. أما كينيدي فقد اختفى تماما عن الأنظار. واستمر وكيلنا للتوظيف في كينيا في طمأنتنا بالحصول على وظيفة قريباً. كلما اتصل بي كان يغير لهجته ليكون أكثر عدوانية وتهديداً. هدد بترحيلنا، فكنا نتمسك بكل كلمة يقولها. أصبحنا نعيش في حالة من الخوف وعدم اليقين. كان زملائي يأتون من مختلف مشارب الحياة، فالبعض جاء من مناطق ريفية، والبعض من المدينة، جميعنا من بيئات تربية وأعراق مختلفة. جميعنا جئنا من أجل الحصول على وظيفة، لكن تم التخلي عن الجميع في هذا البلد الغريب حيث كل شيء كان محيراً – كنت على وشك أن أتعرض لدهس سيارة عندما كنا أعبر الشارع لأنني لم أكن معتاداً على القيادة على الجانب الأيمن.
عندما وصلت إلى قطر، قابلت بعض أصدقائي القدامى الذين حاولوا مساعدتي. كنت أخرج معهم يومياً من أجل البحث عن وظيفة. أرشدوني. تشبثت بإيماني، كنت أصلي فروضي الخمسة داعياً بانفراج أمري. كانت هذه خطة واضحة لخداع الكينيين. إغرائهم في كينيا ثم التخلي عنهم في قطر. كان كينيدي إحدى حلقات هذا الاحتيال. شيئا فشيئا جمعنا معلومات عنه، فسمعنا أنه قد فصل من عمله في شركة أمن، وهو يزاول أعمالاً غير قانونية من أجل العيش. كما يُعرف عنه أنه محتالاً في قطر. وتقول الشائعات أن السبب في أنه لا يظهر في وضح النهار، هو أن وضعه غير نظامي. قيل لنا أيضا، أن لديه زوجه وطفل يعيشون معه.
تواطؤ قطر في الاتجار والانتهاك
بعد الأسبوع الثالث، أدركت أن وكالة التوظيف الكينية، والكينيين الآخرين الذين يعيشون في قطر، ليس لديهم الإجابات التي أبحث عنها. كنت أقضي الساعات على السطح، فقط، لأخطط عما سأفعله بـ 1800 ريال قطري الذي سيكون راتبي. وفي هذه الأثناء قمت، أيضا، بالاتصال بـ 999، ونصحوني بالتوجه إلى إدارة العمل وتقديم شكوى. وكان صديق نيجيري قد نصحني أيضا بالذهاب إلى إدارة العمل. اصطحبت معي أحد الأصدقاء ممن أثق به، وذهبنا في اليوم التالي. كان كينيدي قد حذر وأرهب كل واحد منا من الذهاب إلى إدارة العمل. قدّمت شكواي، وكنت واثقاً من تحديد جلسة استماع حيث سألتقي، أخيراً، بصاحب العمل.
قطعت مسافة 14 كيلومتراً مشياً على الأقدام إلى مكتب العمل. استغرقني ذلك ساعتين ونصف للذهاب ومثلها للعودة. خاطرنا بالإصابة بضربة شمس ونحن نسعى لمحاسبة صاحب العمل. وأعطانا حارس الأمن في مركز العمل بالريان، أملاً. شرحنا قضيتنا باللغة السواحيلية، لغتنا الوطنية. أعجبني المظهر النظيف والأنيق لحارس الأمن؛ أردت أن أكون حارس أمن مثله. شعرنا أن معاناتنا قد انتهت أخيراً. شعرت كأنني بطل وأنا أجد حلا لمشاكلنا حتى نحصل على وظائف وتمضي في حياتنا.
بعد مرور يومين، استدعاني مكتب العمل برسالة نصية. هناك أُخبرت أنه بسبب عدم حيازتي لبطاقة هوية قطرية، حرمت من مقابلة أي مسئول في مكتب العمل. وحتى الآن أتساءل عن سبب منعي من مقابلة أي قاضي لأنني لم أحمل بطاقة هوية قطرية، برغم أنها الحكومة نفسها التي أصدرت تأشيرة دخولي إلى البلاد. لم يكن هناك وسيلة لكي أصدر بطاقة هوية قطرية لنفسي. كان من الصعب استيعاب ذلك.
وفي زيارتي الثانية، أعطتني سيدة تعمل في مكتب العمل، وثيقة باللغة العربية لاستخدامها في البحث عن عمل – كان بها مجموعة من المتطلبات عليّ استيفائها للحصول على صاحب عمل آخر وتأشيرة جديدة. أما صاحب العمل الذي استقدمني إلى قطر فلم يظهر أبداً. حاولت الحصول على عمل في مراكز التسوق مثل فندوم، التاور، فيلاجيو، وكذلك في شركات الأمن الخاصة. لكن لم يكن أي صاحب عمل على استعداد لتوظيفي بتأشيرة مختلفة لأنهم لا يريدون تحمل كلفة رسوم تحويل الكفالة. حاولت اتخاذ اجراء قانوني، لكنني لم أتمكن من الإبلاغ عن الجريمة بدون بطاقة هوية قطرية.
كنت أذهب يوميا للبحث عن وظيفة لمدة شهر. وكان لدى الجميع الرد نفسه: لا بطاقة هوية …لا وظيفة. أوجه اللوم للحكومة القطرية كونها المسئولة عن أحلامي المسروقة، فكيف يمكن لشخص أو شركة أن يستقدموا عمالا بدون إثبات أن لديهم مكاتب لذلك؟ كيف يجهل وكيل التوظيف أن الشركة ليس لها وجود؟ وأخيرا ألوم يأسي: كيف وقعت في شرك كل هذا؟
تمكن كل من كينيدي، وإدريس ومواطنين قطريين، باستخدام سجل شركة وهمي، من استصدار تأشيرات وبيعها لوكالات توظيف كينية. لابد أن وكالات التوظيف تعلم بذلك، لكنها تستغل يأس وحاجة الناس الماسة للعمل وتشيح بوجهها عن مواجهتهم. كما تتعامى الشرطة والسلطات في قطر، لأن ليس بإمكانهم ملاحقة ومقاضاة موطن قطري، في الوقت الذي تواصل مثل هذه الشركات الاتجار بالبشر. هذا برغم وجود دليل على تحويلات مالية على دفعتين إلى الحساب القطري لإدريس في 8 أبريل و28 مايو بقيمة 3500 دولار أمريكي و 3600 دولار أمريكي على التوالي.
تمكن كل من كينيدي، وإدريس ومواطنين قطريين، باستخدام سجل شركة وهمي، من استصدار تأشيرات وبيعها لوكالات توظيف كينية. لابد أن وكالات التوظيف تعلم بذلك، لكنها تستغل يأس وحاجة الناس الماسة للعمل وتشيح بوجهها عن مواجهتهم. كما تتعامى الشرطة والسلطات في قطر، لأن ليس بإمكانهم ملاحقة ومقاضاة موطن قطري، في الوقت الذي تواصل مثل هذه الشركات الاتجار بالبشر. هذا برغم وجود دليل على تحويلات مالية على دفعتين إلى الحساب القطري لإدريس في 8 أبريل و28 مايو بقيمة 3500 دولار أمريكي و 3600 دولار أمريكي على التوالي.
"بعد مرور يومين، استدعاني مكتب العمل برسالة نصية. هناك أُُخبرت أنه بسبب عدم حيازتي لبطاقة هوية قطرية، حُرمت من مقابلة أي مسئول في مكتب العمل. وحتى الآن، مازلت أتساءل عن سبب منعي من مقابلة أي قاضي لأنني لم أحمل بطاقة هوية قطرية، برغم أنها الحكومة نفسها التي أصدرت تأشيرة دخولي إلى البلاد. لم يكن لدي طريقة لإصدار بطاقة هوية قطرية لنفسي. كان من الصعب استيعاب ذلك. "
العدالة ليست سوى مزحة
أصبح ذهابي إلى مكتب العمل، اعتياديا. كانت نزاعات عمالية هناك تستغرق 8 أشهر. عندها استسلمت وبدأت التواصل مع عدد من منظمات حقوق الإنسان الدولية. وبعد مرور شهر، وبينما كنا في خضم هذا الوضع، جاءت شاحنة بـ7 أشخاص من المطار وأوصلتهم ليشاركونا الغرفة المكتظة أصلا بنا. وعندما ارتفع عددنا من 10 إلى 17 شخص، كان علينا أن نتناوب للنوم فيما كان بعضنا ينامون فوق السطح. كان الأمر مثيراً للشفقة حتى بالمقاييس الأفريقية؛ كما كان مكان الإقامة ليس نظيفا بسبب العدد الكبير الذي يتشارك المكان. ومن بين المنظمات الكثيرة التي حاولت الوصل لها، استجابت منظمة واحدة فقط وعرضت المساعدة. قامت المنظمة بربطنا بمنظمة حقوقية إقليمية. وساعدتنا المنظمتان معاً في دفع الإيجار لغرفة إضافية وقدما لنا مؤن تكفينا لعدة أسابيع.
أصبحت القائد غير الرسمي لـ17 شخص. كان ذلك في يوليو، وكان الأوضاع صعبة جدا في قطر، بينما تمر كينيا بحالة اضطراب. وكنا نعاني، فكل هذا حدث في فترة شهرين، لكن بالنسبة لنا هي فترة طويلة ومثقلة بكثير من الضغط النفسي.
لم تقدم لنا السفارة الكينية أية مساعدة، وقالوا لنا بشكل قاطع أنهم لا يقدمون المساعدة للعودة للوطن. على أية حال، لم نكن نريد العودة إلى الوطن لأننا موجودون فعلاً في قطر، وجميعاً نريد وظائف. لكن لم يكن لدينا أي خيار سوى العودة. وفي هذه الأثناء كان بعض أفراد المجموعة ينفسون عن إحباطهم بالنزاع فيما بينهم والتدخين والشرب. وقد يخرج الاقتتال أحيانا عن السيطرة. كنت أهرب بنفسي من كل ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإلهاء نفسي، كانت العزلة الخيار الأفضل بالنسبة لي.
لم تعجبني فكرة العودة للوطن خالي الوفاض، لكن الانتظار قد نال مني أيضا. توليت القيام بدور القائد، فكنت أنسق توزيع المواد الغذائية، وأدفع الإيجار، أهتم بمن يمرض، أهدئ النزاعات، أوزع الأدوار والمهام، أترجم، أقدم النصح والمشورة، ولا أنسى تقديم التعاليم الإسلامية الأساسية لاثنين اعتنقا الإسلام في المطار. أصبحت محبوباً ومكروهاً بالقدر ذاته.
كنت على استعداد للبقاء والسعي حتى النهاية؛ كنت أريد أن أقاضي الشركة وشركائها المتورطين في الاتجار، وكنت أرغب في متابعة القضية. كنت أريد أن تتم محاسبة المسئول، لكن السعي للعدالة في قطر، ليس سهلا. إذ اتصلت بالرقم 999 لتقديم شكوى غير طارئة، وذهبت إلى مركز الشرطة مرتين، كما ذهبت مرة واحدة إلى إدارة التحقيقات الجنائية، وأخيراً توجهت إلى أحد ضباط الفزعة (إنفاذ القانون) في الشارع. شرحت له أنني أريد تقديم بلاغ عن جريمة، لكنه لم يكن يريد أن تكون له علاقة بشكوانا. عندها فقط استسلمت.
لقد جئت، ورأيت، وفشلت.
في 2 أغسطس، كنا على متن الطائرة في رحلة العودة التي دفعت تكاليفها المنظمة التي قدمت لي المساعدة. احتسيت آخر شاي كرك، ثم تحممت للمرة الأخيرة وانطلقت إلى المطار. عدت مفلساً ومنكسراً. لا أظن أنني أريد الذهاب الى الخليج مرة أخرى. في عمر 32 عاماً لم أعد يافعاً كما كنت دائماً. كنت بحاجة لمن يواسيني. بقيت لمدة يومين في دار ضيافة في نيروبي لأفكر ملياً في كيفية سداد الديون التي على عاتقي للآخرين. سافرت إلى غرب كينيا لزيارة أفراد عائلتي الممتدة… وجدت نباتات الكركديه التي زرعتها قد نمت، كما كبرت قطتي أيضاً. لا أريد أن أعود أبداً. يجب عليّ أن أصنع لي حياة هنا في كينيا برغم كل التحديات.