في قلب "كامبالا"، بين الكنيسة والمسجد ومجمعات التسوق المزدحمة، يقع موقف للسيارات. إلا أن "Magic Parking" ليس مجرد موقف سيارات. هناك طاولات ومقاعد متسخة يتم تحريكها بين السيارات بين الحين والآخر لتوفير مساحة لمركبة جديدة. وتتطاير رغوة الماء بالصابون من على زجاج السيارات والأرض لتقع على أكتاف ورؤوس العمال الذين لا يجدون الوقت حتى لمسحها.
تستقر طبقة خفيفة من الغبار المتطاير لتربة أرض أوغندا المتميزة بلونها الأحمر على السطح الزجاجي المبتل للسيارات فتشكل خطوطاً متعرجة.
تعمل مجموعة من العجائز كنادلات لهذه الطاولات غير عابئات بحكايات الشباب؛ بينما تقوم النساء الشابات بتسجيل طلبات الزبائن وتقديم القهوة والمشروبات الساخنة. وفي الخلفية، تسمع ضجيج التلفاز وبرامج الأخبار السياسية. الجميع يتفق على أنه لا يوجد مستقبل واعد للشباب في هذا البلد.
ويقول "مرشد جروانجو": "خذني إلى دبي. واتركني في منتصف الطريق. وسأنجح".
لطيفة محمود الجالسة إلى جانبه تهز رأسها بسخرية. فهي تعلم أن النجاح غير مضمون. فقد ذهبت إلى رأس الخيمة في نوفمبر 2014، بمساعدة "صديق". وُعدت بوظيفة في مجال المبيعات.
"بعت اللابتوب الذي أملكه مقابل مليون شلن لأدفع ثمن التأشيرة والتّذاكر إلى "صديق". وقد وصلت إلى الإمارات وأُخذت إلى وكالة Lewa Manpower. ثم أتت عائلة إماراتية وأخذتني من الوكالة. ذهبوا بي إلى بيت كبير في رأس الخيمة مكوّن من خمس غرف وثلاثة حمامات بالأسفل ومثلها بالأعلى. ويسكن في البيت ثمانية أطفال بالإضافة إلى الوالدين. كنت أعمل من الساعة 5:30 فجرًا إلى منتصف الليل يوميًا. وعندما يذهبون للتخييم أعمل من الساعة 6:00 صباحًا إلى الساعة 1:00 بعد منتصف الليل".
استمرّت لطيفة في العمل ثلاثة أشهر على هذا المنوال قبل أن تبدأ في الشكوى. "أخبروني أنه يتوجب عليّ دفع 10 آلاف درهم لأتمكن من الرحيل. لم أكن أملك هذا المال؛ إذ وقعت على عقد براتب قدره 1200 درهم، ولم يدفعوا لي سوى 800 فقط".
العمل الشاق من دون طعام جيد أو راحة ترك آثاراً على جسدها. "أصبت بألم شديد في الصدر والظهر. وأصبت بقرحة المعدة حيث لم يتم إعطائي أبداً وجبات أكل ملائمة. لم يأخذوني إلى المستشفى، حتى عندما عرضت أن أتكفل بدفع مصاريف العلاج".
تحت وطأة الألم البدني الشديد، ذهبت لطيفة إلى وكالة التوظيف لطلب المساعدة. "بدأوا الصراخ في وجهي لمجيئي وحدي. أبلغوني أنه ينبغي علي ألّا آتي إلا مع رب العمل وإلا سأُتهم بسرقة المال. وأخيرًا ذهبوا بي إلى الشرطة". تضيف: "أخبروني هناك أنه بإمكاني الدفع والمغادرة. لكن من أين آتي بالمال؟ أخبرت الشرطة أنه حتى عندما أعطيت أصحاب العمل المال ليشتروا لي الدواء لم يشتروه".
أمرت الشرطة أرباب العمل بأخذ لطيفة إلى المستشفى. وكان هذا كل ما قاموا به دون فعل أي شيء آخر لحل أزمتها.
بحلول شهر رمضان 2015، تدهورت صحة لطيفة بشكل أكبر. لم يسمح لها بالخروج من المنزل كما زادت أعباء عملها. وحاول اثنان من الأبناء، والبالغ عمرهما 25 و23 عاماً، التدخل.
"أخبرا والديهما أنه ليس من الإنصاف تركي أعمل وحدي في هذا المنزل الكبير. وأنني بحاجة إلى المساعدة. كان هذا موقف الشفقة الوحيد الذي لقيته، لكنه لم يغير شيئًا".
في ذاك الوقت تواصلت لطيفة مع "ياسين كاكاند" الذي كان يعمل صحافيًا في الإمارات العربية المتحدة ومساهمًا في موقع Migrant-Rights.org.
تحدث ياسين إلى أرباب العمل وأثار مسألة انتهاك حقوق الإنسان. رب العمل بدوره أنكر القيام بأي شيء خاطئ. لكنه مع هذا وعد لطيفة بأنه سيتم إعادتها لبلدها بعد شهر رمضان، لكن شريطة ألاّ يتصل إليهم أحد عن شكواها.
تقول: "يعد رمضان من أصعب الشهور علينا حيث يزيد حجم العمل، ولا تنام الخادمات إلا لساعتين أو ثلاث. مع ذلك، فلم يعيدوني إلى بلدي بعد انقضاء الشهر". وحين لم تظهر أي بارقة أمل للطيفة، قامت بالإضراب عن الطعام. "كان عليّ أن أحتج. تحدث معهم ياسين مرة ثانية، ووافقوا. واضطررت لدفع ثمن تذكرتي بنفسي".
"خذني إلى دبي. واتركني في منتصف الطريق. وسأنجح".
شبكة توظيف من "الأعمام" و"الأصدقاء"
سألنا من هو "الصديق" الذي ساعد لطيفة على الحصول على التأشيرة؟ ردت: "لم أقابله على الإطلاق، أرسل إليّ التأشيرة وكان هذا كل ما في الأمر".
وأخيرا، بعد سنتين تقريبا، غادرت لطيفة الإمارات بلا مال وبقائمة لا تنتهي من المشاكل الصحية التي لا تزال تعاني منها. وأثناء فترة العمل الصعبة هذه في الإمارات، قابلت سعدية، أخت مرشد التي لديها قصّة أخرى.
"أختي ذهبت إلى تنزانيا حيث قابلت عمّاً أوغندياً ساعدها على السفر إلى الإمارات العربية المتحدة. وقد أراد مني الذهاب، ولكننا قررنا أن تذهب أختي وأبقى أنا لأكمل دراستي".
مصطلحا "صديق" و"عم" يستخدمان بشكل غير دقيق لوصف ابن البلد بشكل عام. وقد وعدهم "العم" بأن تعمل سعدية في منزل أسرة يعرفها. وتمكنوا من تدبير مبلغ 800 دولار لإرسال سعدية في ديسمبر 2014.
كانت لدى مرشد لكنة أوغندية ذات نغم موسيقي يكرر فيها دائما عبارة: "ماذا؟" بالإنجليزية. وهي أشبه باستخدام بعض المصريين لكلمة "إيه؟" عند الرّغبة في التوقّف قليلا أثناء الكلام للتفكير فيما سيقال بعد. أو، لعلّه يستخدمها للتأكد من أن المستمع يصغي إليه. كان مرشد يقول: "في الأسبوع الأول قالت أختي بأن الأمور جيدة. ثم الأمور أصبحت ماذا؟". "أصبحت أسوأ". ردد جميع الجالسين على الطاولة كلمته الأخيرة في نفس الوقت كما لو كانوا كورال فرقة.
قابلت لطيفة سعدية عندما خرجت من المنزل لرمي القمامة. "كنت أعطيها بعض المال. ولكن كان وضعها سيئًا".
كان لديها هاتفٌ مخبّأ ولكن كان تواصلها عشوائيًا. "أختي مريضة جداً ويتم ضربها. وفي كل مرة نتحدّث إليها كانت تبكي وتشتكي".
يقول مرشد إنّ "العم" لم يساعدهم على الإطلاق.
إن قصص النجاح السعيدة ليست سوى أساطير يرغب كلُّ مهاجر جديد في أن يمر بها ويحققها. أما في الوقت الحالي، فجميع القصص التي نسمعها مريعة.
رغم ذلك، يشعر مرشد بالثقة أن رحلته ستكون مختلفة؛ حتى وإن كانت بدايتها وعرة. ويقول "خذني إلى دبي. واتركني في منتصف الطريق، وثم ماذا؟". يجيب على سؤاله: "سأنجح".
يحلّ الغسق ونحن جالسون نحتسي أكواب الشاي. ماذا سيحدث إنْ لم يذهبوا إلى الخليج، وعملوا هنا؟
"السياسيون فاسدون للغاية".
"لاتوجد فرص عمل".
"من الأفضل الذهاب إلى بلد أجنبي".
أيّام قليلة بعد ذلك، داخل حانة تقع في مجمّع كنسي، يتقابل أعضاء نادٍ نخبويّ من المفكرين في اجتماعهم الشهري. تجد هناك المحامين والمستشارين والمهندسين والصحفيين وهم يحتسون ماء "التونيك" الخاص بهم، ويتقلب حديثهم بين الشؤون الدولية وقضايا السياسة المحلية.
نناقش كومة التقارير المتعلقة بإساءة استغلال العمال الأوغنديين، رجالاً ونساءً، في الخليج. الرّجال المتعلمون يعتقدون أنه مجرد مبالغة من الإعلام ثانية. ففي النهاية الخليج هو الجنة التي تتحقق فيها الأحلام.
ويقول جميعهم "من الجيد للأوغنديين السفر إلى الخارج والعمل هناك".
ثم تتكرر العبارات المألوفة على غرار:
"يوجد الكثير من الفساد هنا".
"لا تتوافق المرتبات مع معدل التضخم".
"لا عجب أنّ الشباب يرغبون في السفر إلى الخارج لتأمين مستقبلهم".
يشار في هذا الصدد إلى أن معدل البطالة في أوغندا يصل إلى 80%.
المعيلون وآباؤهم
بعد يومين من الاجتماع بموقف "Magic Parking"، انطلقنا إلى "لوويرو"، التي تبعد حوالي 60 كم من "كمبالا". تتميز الطرق إليها بالتربة الحمراء والحقول الزراعية الخصبة. كل الأسطح مغطاة بطبقة من الغبار البرتقاليّ المحترق الذي ينعكس لونه حتى على الماشية.
مع رغيف خبز من الحجم الكبير وكيس من السكر، كنا مستعدين لزيارة "محمد لوكواغو"، وهو شيخ القرية. التقطنا ابنته زمزم من المتجر الذي تديره في ساحة البلدة، ومضينا إلى منزلها الذي يبعد مسافة 15 دقيقة عن المحل بالسيارة.
عادت زمزم بعد قضاء ثلاث سنوات في الكويت، وبفضل الأموال التي ادخرتها، فتحت هذا المتجر الصغير واشترت قطعة أرض لبناء منزلها. ولتتمكن من بناء منزل وتعمير الأرض التي اشترتها، يتعين على زمزم ـــ وهي منفصلة عن زوجها لديها ابنة تبلغ من العمر سنة واحدة ـــ أن تسافر إلى الخارج مرة أخرى لتجمع المال.
قبل أن نصل إلى وجهتنا، قابلنا "عبدالوهاب كتيو" الذي يقود أبقاره عائدًا إلى حظيرة الماشية المجاورة لمنزله. تبتسم زمزم قائلة "يمتلك خبرة طويلة في موضوع حديثنا".
لدى "كتيو" 17 ابناً. إحدى زوجاته في القاهرة وتعمل إحدى بناته، والتي تدعى "جويرية" في دبي. سافرت إلى دبي مع "صديق" العائلة الذي جاء إلى أوغندا في عطلة.
يتحدّث "كتيو" بلكنته القوية: "دفعنا نحو مليون شلن كعمولة إلى الصديق. قالوا إنها ستتقاضى 200 دولار لكنها لم ترسل سوى 100 دولار لمرّتين. لا يسمحون لها بالحصول على هاتف؛ لذا فهي تتحدث من هاتف رب العمل. وقد اشتكت من الطعام الذي يقدم إليها. كانوا يعطونها ماتبقى من أكل طفل العائلة التي تعمل لديها".
صديق العائلة لم يقدم المساعدة و"جويرية" نفسها لا تريد العودة. "ما زلنا ندفع الديون، وهي تريد الادخار. ولا يزال لديها أمل".
تعود مجموعة من الأطفال إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي. تغير "باتيغا" زيها المدرسي وتنزل إلى والدها. هو حريص على إرسال "باتيغا" إلى الخارج. تبلغ "باتيغا" من العمر 20 عامًا؛ ولكنها تبدو أصغر من ذلك بأعوام. ويقول "إن السفر إلى هناك أفضل من الذهاب إلى المدرسة" بينما توميء هي رأسها بحماس موافقة.
تهمس "باتيغا" بصوت ناعم أنها تحب المدرسة وأن التاريخ هو مادتها المفضلة. "لدي جواز سفر. وأشعر بالرغبة في السفر لمساعدة أسرتي. وأن نبني منزلاً جميلاً".
لا يعلم "كتيو" بأمر الحظر على سفر السيدات الأوغنديات إلى الخليج. "أعرف فقط أن المملكة العربية السعودية ليست آمنة. لذا لن أرسل بناتي إلى هناك. أما بالنسبة إلى البلدان الأخرى فالأمر على ما يرام. والأمر يكمن في العثور على الوكالة الصحيحة وأن تثق في أحد الأشخاص. فحتى المتعلمين لا يحصلون على وظيفة مرموقة بل يعملون خدمًا في المنازل".
ينظر الوالد إليّ بأمل. "هل يمكنك العثور على وظيفة لها؟".
تغادر زمزم مسرعة؛ فالأمطار تهطل ولا يزال علينا مقابلة أسرتها قبل العودة إلى "كمبالا".
ليست هناك فائدة من الشكوى. تحصل مدينة على 200 دولار كل شهر. وسينتهي عقدها في أغسطس؛ حيث من المقرّر أن تعود إلى الوطن".
تحوّل الأوضاع الاقتصادية
بينما تسير السيارة إلى الفناء الأمامي، يمكنك أن ترى ما تبقى من غرفة مهجورة في المقدمة، وبنيان غير مكتمل من الإسمنت وسط قطعة الأرض.
يعكس المكان صورة للماضي والحاضر. عملت ثلاث من بنات محمد في الخليج، وتدين الأسرة بيسر أحوالها المادية لهن. تحتوي الغرفة الأمامية من المنزل على أرائك كبيرة، بينما توجد العشرات من الفُرُش المرصوصة في أحد أركان الغرفة المجاورة لها. كما يوجد مطبخ ومرافق للغسل في مكان ما وراء هذه الغرف.
على أحد الجدران ثمّة ملصق كبير على وشك التلاشي لمعمر القذافي، الرئيس الليبي السابق والذي يُنظر له هنا باعتباره واحداً أبطال إفريقيا.
يجلس الأب على الأريكة، وزوجته على وسادة عند قدميه. وتنشغل ابنته وأحفاده بالأعمال المنزلية.
لديه العديد من الأطفال. يقول: "لا نعدّ الأطفال، بل ننجب بالقدر الذي قدره الله لنا". في وقت لاحق يقول المترجم إنه قد يكون هناك أطفال من زوجات أو عشيقات أخريات، ولكنها مسألة حساسة.
لذا تدور المناقشة حول البنات الثلاث. "صوفيا" التي تعمل في المملكة العربية السعودية، و"مدينة" التي تعمل في دبي و"زمزم" التي عادت من الكويت.
سافرت صوفيا إلى الخارج عام 2013 ولم تدّخر الكثير؛ حيث كان عليها أن تدفع لتعليم أطفالها.
تعتبر زمزم تجسيداً لقصة نجاح. وهي ممرضة مدربة، سافرت إلى الكويت في عام 2012 لرعاية رضيع ولد مبكرًا. وقد عملت لمدة ثلاث سنوات، لتوفير الرعاية على مدار الساعة للطفل، وعادت بأجر جيد.
"ما أزالُ على اتصال بالأسرة، وقد عاملوني بشكل جيد. كما تمكنت من الادخار كثيرًا".
في فبراير 2016، سافرت مدينة إلى دبيّ. وقد دفعوا لوكيل التوظيف 1.7 مليون شلن. وقد استردوها مما تحصل عليه من أجر. يقول والدها بفخر "والآن تستطيع الادخار".
تنضم الأم التي ظلت صامتة حتى حين، إلى الحديث. "نسمع أخبار إساءة المعاملة، ونشعر بالقلق. تتصل مدينة بنا كل جمعة. ولا يتم إساءة معاملتها إلا أنها تعمل كثيرًا. ليست هناك فائدة من الشكوى. تحصل مدينة على 200 دولار كل شهر. وسينتهي عقدها في أغسطس؛ حيث من المقرّر أن تعود إلى الوطن".
كانت زمزم في نحو الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمرها حين ذهبت في المرة الأولى إلى الكويت. ولكن ما الذي دفعها لاتخاذ هذه الخطوة؟
يقول محمد الذي يعمل سائقاً متقاعداً: "تم اتخاذ هذا القرار من قبل العائلة. إذا جاءت فرصة تسافر الفتيات. كمسلمين، نعلم أنّ الرّزق مقدر من عند الله".
ويقول مهاجر آخر "بالنسبة للعديد من الأوغنديين، فإن العرب بروعة الإسلام نفسه، لذلك فإن الذهاب إلى المملكة العربية السعودية يُنظر إليه كامتياز خاص".
تمد زوجته سلة تفيض بالمانجو كهدية، وفجأة يبدو الخبز والسكر هدية زهيدة.
بينما نترك منزله، ينادي الوالد من مقعده: "إذا كانت هناك أي فرصة آمنة وجيدة لبناتنا، فأخبرونا".
تبدو القصة متشابهة للغاية مع قصص العاملات المهاجرات في العديد من القارات والثقافات. وفي الأسر الفقيرة، يُنظر إلى المرأة الراغبة في الهجرة على أنها تذكرة للهروب من الفقر. من قرى في إندونيسيا وسري لانكا ونيبال وبنغلاديش وأوغندا والكاميرون، تقوم النساء، سواء الشابات أو المسنات، برحلات محفوفة بالمخاطر مع القليل من التوجيه، للمساعدة في تحقيق أحلام الآباء والأبناء والإخوة والأزواج. كما كان الحال مع سعدية وزمزم وجويرية. وفي الأشهر القادمة "باتيغا".