لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

مقال رأي: هل يساعد العفو العمالة غير النظامية لمواجهة تبعات تفشّي كوفيد-19 في البحرين؟

في 28 مارس 2020

مع تصاعد وتيرة الخوف من تبعات تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وبشكل مواز، تزايد جهود مكافحة انتشاره في البحرين، تماشياً مع كل دول العالم، يُخشى أن تكون هذه الجهود الكبيرة والحثيثة التي تبذل في علاج المصابين، ومتابعة الحاملين المحتملين لهذا الفيروس لأسباب السفر والمخالطة، والتحذيرات التوعوية الكثيفة، غير محكّمة، بوجود ثغرات ينفذ منها الفيروس المستجد لعشرات الآلاف من السكان هم من العمالة منخفضة الدخل، الذين لا يملكون خيار البقاء آمنين باتباع النصائح التي أوّلها التباعد الاجتماعي بسبب أوضاعهم السكنية والمعيشية السيئة، عدا التدهور غير المتوقع في مصادر دخولهم الهشة أصلاً، التي تفرض عليهم الخروج للكسب اليومي الذي بات الآن أصعب من أي وقت مضى. 

فمع إعلان حالة الوفاة الثانية بالإصابة بفيروس كورونا – كوفيد 19، وفي الوقت الذي تتناقل وسائل الإعلام إعلان حكومة البحرين عن عدد من الإجراءات لتأكيد أهمية التباعد الاجتماعي في جهود متواصلة لاحتواء انتشار المرض، كان الأجانب  في مساء اليوم نفسه، يملؤون الشارع الشهير بنغالي غالي - الشارع البنغالي باللغة البنغلادشية- في منطقة النعيم، ويتحلقون حول المطاعم الكثيرة المنتشرة على امتداد الشارع لتناول وجبة العشاء واحتساء الشاي، فيما البعض يقفلون راجعين من يومهم الطويل، ممسكين بوعاء وجباتهم المعدني لطيلة اليوم، ويحثون الخطى إلى مساكنهم الواقعة على الشارع نفسه وفي الأحياء المتفرعة منه.

الغالبية العظمى من المقيمين في هذه المنطقة هم من العمالة الوافدة منخفضة الدخل التي تشكّل أكثر من ثلث سكان البحرين، وفي درجة أدنى من الفقر تشاركهم هذه المساكن فئة العمالة غير النظامية "الفري فيزا"، التي يصل عددها إلى 80 ألف. هذه الفئة الأخيرة، عدا أنها ستكون من أكثر الفئات تضرراً – مادياً-من تفشي فيروس كوفيد 19، فهي ستواجه أيضاً المخاطر الصحية نفسها التي تحيق بفئات الأجانب الذين يتكدسون في هذه المساكن ليكونوا الأكثر عرضة للعدوى في حال إصابة أحدهم بالفيروس الذي من الممكن أن يكون قاتلاً. 

فالعمالة غير النظامية عدا أن أفرادها لا ينضوون تحت مظلة قانون العمل لكونهم غير نظاميين، فإن كثير منهم يكسبون قوتهم يوم بيوم بالتجمع في أماكن معروفة بانتظار أن يحالفهم الحظ بأن يكونوا ضمن العمال الذين يختارهم مقاولو الانشاءات وأنشطتها المختلفة بنظام المياومة، أو أن ينتشرون لكسب رزقهم كباعة جائلين أو يتكسبون من غسل السيارات في الأحياء السكنية أو المحلات التجارية.  

ومن تفشي وباء كوفيد 19، وفي ظل الإجراءات المشددة التي تتخذها الحكومة لمحاصرة هذا الوباء العالمي، يشهد النشاط الاقتصادي تراجعاً واضحاً لا يُعرف أمده، وفاقم الحذر الصحي انحسار فرص هؤلاء للعمل خصوصاً مع توقف الكثير من الأعمال المؤقتة في مجالات السمكرة والنجارة والأعمال الحرفية الأخرى التي يقومون بها، وتجنّب الناس المخالطة، وبالتالي توقفهم عن القيام عن أعمال الصيانة غير الضرورية لمنازلهم التي كان هؤلاء العمال يقومون بها، وتباطيء الأعمال في كل القطاعات مع مخاوف من الإغلاق التام وفرض حظر التجول. 

ومن الصعب التكهن كيف سينجو هؤلاء في ظل الظروف الصعبة المتوقع تفاقمها خلال الأيام المقبلة، فعلى هؤلاء توفير معيشتهم اليومية، وتأمين مبالغ لإرسالها لذويهم أو لاستيفاء ديونهم في أوطانهم، بالإضافة إلى ادخار ثمن تأشيرة الإقامة وترخيص العمل التي تصل إلى 1200 دينار يدفعونها لكفلائهم المواطنين الذين يستصدرون لهم هذه التراخيص نظير هذه المبالغ، ليكونوا تحت كفالتهم على الورق فقط، فتصبح اقامتهم صحيحة قانونياً إلا أنها تنطوي على مخالفة إنسانية بالغة تصل إلى مستوى الاتجار بالبشر. 

وفي حين أن هؤلاء ضحايا مشكلة العمالة غير النظامية المزمنة منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا أن المخاوف الجديدة ضمت لهم المشتركين في "نظام التصريح المرن" الذي أطلقته هيئة تنظيم سوق العمل في منتصف 2017. غير أن أفراد "المرن" أمنوا منذ بدء النظام، تهديد القبض عليهم والترحيل، بكفالة أنفسهم ذاتياً وتسجيل أنفسهم في سجلات الهيئة. 

 

‎العمالة المهاجرة يملؤون الشارع الشهير بنغالي غالي في منطقة النعيم

وبرغم أن هذا النظام لايزال موضع جدل في جدواه وأهمية، من الأصل، لسوق العمل المحلي إلا أنه بالتأكيد لن يحمِ مشتركيه من تبعات الظروف الصحية المستجدة، إذ سيواجهون الصعوبات نفسها التي يواجهها العمال السائبون فكلاهما يسرح للحصول على الرزق يومياً وأحياناً لدى أكثر من صاحب عمل ليؤمنوا ثمن وجودهم، وفي حالة مشتركي تصريح العمل المرن يصل إجمالي الرسوم بعد رفعها في فبراير 2019، إلى 1,469 دينار بحريني لعامين.     

في مدخل سوق مدينة حمد لايزال هناك عدة عشرات من الأجانب السائبين مجتمعين في مكانهم المعتاد بانتظار فرصة عمل أو غسل سيارة أحد المتبضعين من المحلات التجارية، غير مبالين بالتحذيرات المكثفة من التجمعات لتجنب الإصابة بالفيروس، وليس معروفاً ما سيواجهه هؤلاء خلال يومين عندما يشكّل وجود أكثر من خمسة أشخاص في مكان واحد، مخالفة لا تقل غرامتها عن 1000 دينار مع سريان قرار تشديد إجراءات الحذر من تفشي المرض، التي تتخذها الحكومة. 

 وفي حين يرتجى من الحظر، فرض التباعد الاجتماعي إلا أن فرض البقاء في المنزل لهؤلاء العمال سيكون أكثر خطورة عدا أنه صعب التحقيق في ظل اكتظاظ مساكنهم بقاطنيها، إذ لا يأوي هؤلاء اليها سوى في آخر النهار للنوم. 

فليس مستغرباً أن تزدحم الشوارع في مناطق سكن العمال بقاطنيها برغم الإرشادات التي تجتهد الجهات المعنية بإيصالها لهؤلاء عن طريق النشرات ووسائل الإعلام. فهذا السلوك ليس نابعاً من اللامبالاة أو انعدام الوعي، فلغالبية هؤلاء يعتبر التواجد في الشارع هو لانعدام خيار البقاء في مساكنهم العمالية بسبب عدم قدرتها على استيعاب العدد الكبير من القاطنين فيها. فهؤلاء يأوون إلى مساكنهم للنوم على أسرة بطابقين، في غرف مكتظة لا تسمح مساحتها بالحركة، بسبب عدد المقيمين فيها الذي يصل إلى 18 شخص، مخالفين بذلك الاشتراطات الصحية لمساكن العمال التي لا تسمح أن يزيد عدد الأشخاص عن 8 أشخاص في الغرفة، وألا تقل المساحة عن 10 أمتار مربعة لكل شخص. وفي بعض المباني يستأجر العمال السرير لمدة 8 ساعات في اليوم فيتناوب على السرير الواحد 3 أشخاص في اليوم الواحد. 

وتعيش هذه الفئة من العمال في أكثر من 4000 ألف عقار، كثير منها آيل للسقوط، كانت في السابق مساكن لمواطنين تركوها تدريجياً منذ السبعينات إلى الضواحي الجديدة، بعد الزحف العمالي على أحيائهم فأصبحت مأوى للآلاف من العمال المهاجرين خصوصاً من ذوي الدخول المنخفضة والعمالة غير النظامية غير النظامية. ويعيش القاطنون في هذه المساكن في أوضاع مزرية تخالف أدنى معايير السكن اللائق.  

ولا تخضع هذه المباني للتفتيش الصحي للتأكد من تطبيق المعايير الصحية، إلا في حالة وجود شكوى لكونها عقارات خاصة مؤجرة، وللسبب نفسه لا يمكن مفتشو البلدية صلاحية الدخول للتفتيش ويكتفون بتقييم صلاحية المبنى انشائيا من الخارج بقياس حجم ونوع الشروخ فيه. ذلك على عكس المباني التي تقع تحت رقابة وزارة العمل والتنمية الاجتماعية ويتم تفتيشها دورياً للتأكد من سلامة أوضاعها الصحية والانشائية. 

وفي حين تقع تحت رقابة الوزارة 3000 مبنى مسجلا كسكن للعمال ويقع أغلبها في المناطق الصناعية، إلا أن هذه المباني لا تأوي أكثر من 150 ألف عامل، بينما يعيش أكثر من ضعفهم مرتين في المباني المتهالكة الخاصة في مناطق مختلفة في البحرين.  

علاوة على محددات المكان الذي لن يتوفر للعمال لعزل أنفسهم فيه، فإن الصعوبة التالية هي قدرتهم المادية على تخزين المواد الغذائية الكافية، وكذلك توفير المكان لها إن توفرت، فكثير من هؤلاء لا يملكون سوى "صرة" ملابسهم وأمتعة شخصية قليلة يحتفظون بها في غرف إقامتهم المشتركة.  

تلك الصورة غير الإنسانية القاتمة كانت محصورة في مجتمع العمال، ومن الممكن أن يُبرر للعمال عدم القدرة على تغييرها أو الخروج منها لضعف امكانياتهم، أو لتورطهم في أوضاع أما وصلوا اليها باختيارهم أو بالاحتيال عليهم. إلا أنها مؤخراً أصبحت تشكل خطورة على سلامة هؤلاء العمال وعلى المجتمع الذي أصبح في مواجهة فيروس خطير سريع الانتشار.

على مدى السنوات أبقيت ملفات العمالة وأوضاعهم المتدنية مفتوحة يستفيد منها أصحاب العمل الجشعون وتجار البشر في صور متعددة. والخوف اليوم من الأثمان الباهظة التي ستُدفع، بسبب التلكؤ في معالجة مشكلات العمالة غير النظامية معالجة جذرية على مدى سنوات استنزافها لكرامة وإنسانية هؤلاء العمال، واستغلال حاجتهم، للأموال القليلة التي يكسبونها لإبقائهم في دوامة الأمل بتحسن أوضاعهم. 

ربما يكون الوقت قد حان لاتخاذ قرارات تساعد هؤلاء على وضع حد للأوضاع المزرية التي صعب عليهم في السابق الخروج منها. فمع المخاوف من تفشى كوفيد 19، والتبعات المتوقع أن تستمر لأمد غير معروف على الصعيد الاقتصادي تحديداً، يصبح الأمل ضعيفاً أمام هؤلاء للنجاة وتجاوز المحنة إلى وضع أفضل، قريباً. ولن يكون هناك حلاً أفضل من فتح باب العفو عن المخالفين لقوانين الإقامة والعمل من العمال الراغبين في العودة إلى ديارهم، وربما هبّت الجمعيات المدنية والمؤسسات الخيرية والدينية لمساعدتهم بتوفير تذاكر السفر التي يصعب على كثيرين منهم توفيرها.  

سيكون القرار صعباً على الكثيرين من العمال السائبين لأن أوضاع أكثر صعوبة تنتظرهم على الجانب الآخر، لكن الأوضاع الكارثية غالباً ما تكون أكثر ضرراً للأقل حظاً. وهذه المرة ليس العمال، وليست البحرين وحدها التي بلغت هذا الوضع وإنما العالم بأكمله سيجبر الجميع على تقبل أفضل الأسوأ كي ينجو ويتجاوز أيامه الصعبة المقبلة بأقل الخسارات.