تبين حزمة القوانين والأنظمة السارية السعودية التي تسنها وتطبقها وزارتا العمل والداخلية مدى تشابك وارتباط سياسات الهجرة بالسياسات المحلية. حيث تعزز هذه القوانين من تهميش العمال المهاجرين وسحقهم في مجتمعٍ أقل ما يقال عنه أنه شديد العداء. وتستمر التصريحات الرسمية للمسؤولين الحكوميين على ضرورة "السعوَدة" المنصوص عليها في متن أغلب القوانين، أي إحلال المواطنين في وظائف الوافدين، كتبرير يغطي العدائية الكامنة في وسائلهم.
فعلى ما يبدو لا تُطبَّق الإصلاحات "الإيجابية" إلا بالترافق مع تشديد الأنظمة، مثل فرض القيود على تنقلات المهاجرين بما يجيز استغلال قوة عملهم. علاوة على أن الرواية التي تتبناها الدولة فيما يخص الهجرة والمهاجرين تُشوِّه احتياجات سوق العمل الفعلية وتساهم بنشر مشاعر الخوف من الأجانب لغايات سياسية. فإلقاء مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة على المهاجرين وتحميلهم عبء البطالة والكوارث الاقتصادية العامة استراتيجية قديمة معروفة لا يختلف ضررها عن ضرر سياسات التمييز المتبعة، والتي يمكن أن تؤدي إلى زيادة الاستياء السياسي والاقتصادي من الدولة على المدى القريب، ولا مفر من ظهور تأثيرها السلبي على الاقتصاد السعودي ذاته على المدى الأبعد.
غرامات لمصلحة النظام!
أعلنت وزارة العمل بدايات هذا العام، عن جملة غرامات وقوانين بهدف "تحسين أوضاع حقوق العمال"! لكن معظم هذه الغرامات تصب في صالح الدولة لا في صالح سلامة ورفاهية العمال. فنظرياً، يُغرَّم رب العمل مبالغ تتراوح قيمتها ما بين 500 -إلى 1000 دولار في حال ارتكابه مخالفات مثل مصادرة جوازات سفر العمال أو إجهادهم في العمل أو إنكار حقهم في حيازة عقود عملهم أو تعريض حياتهم للخطر أو الإبلاغ الكاذب عن فرارهم. إلا أن الدولة هي من تحصد هذه الغرامات فعلياً لا العمال الذين تعرضوا للخطر أو الأذى والانتهاك. والأنكى، أن الغياب الواضح لآليات التنفيذ يجعل محاسبة أرباب العمل عملية صعبة. وبينما يمكن للعمال المهاجرين الاستناد إلى الغرامات المفروضة كدليل ملموس على إساءات أرباب العمل في المحاكم، إلا أن غالبيتهم لا يمتلك الوسائل أو المعرفة اللازمة بكيفية رفع دعاوى قضائية ضد أرباب العمل المتعسفين.
وكانت وزارة الداخلية قد أصدرت بيانا تحذر فيه من تجاوز مدة التأشيرة الممنوحة للعمال المهاجرين. حيث يواجه المتجاوزون أو الهاربون (الذين يتركون عملهم دون إذن رب العمل) غرامة تصل إلى 50 ألف ريال وعقوبة بالسجن تصل مدتها إلى ستة أشهر، بدون أي فرصة للطعن بتلك العقوبات.
وعموماً، التهديد بالتغريم والسجن والترحيل ليس أسلوباً حديث العهد، إلا أن ما يتم تحديثه دورياً هو تنفيذ عمليات الترحيل وتسليط أضواء أجهزة الإعلام عليها بما يكفي لزرع الانطباع في نفوس المهاجرين عن وجودهم المهدد وتعزيز دونيتهم، بغية ضمان انقيادهم وخضوعهم للأمر الواقع. ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن سبب تجاوز بعض العمال مدة تأشيرة الدخول أو "الهروب" إنما يعود الى ظروف مثل تعقد المواصلات أو سوء معاملة أرباب العمل التي تعرفها أجهزة الدولة حق المعرفة لكنها تعجز عن معالجتها واتخاذ التدابير اللازمة بشأنها. وبالتالي بات العمال يُحاكمون لمجرد شمولهم بنظام كفالة العمالة المهاجرة الذي تحرص المملكة العربية السعودية على صيانته!
تتردد الأقاويل منذ شهر مايو الفائت عن اقتراح مجلس الشورى تحديد سقف المبالغ التي يمكن للعمال المهاجرين تحويلها. ومع أن الخبر لم يؤكد بعد، يُظهر أعضاء المجلس حماستهم للاقتراح بدعوى أن تحديد مبلغ التحويلات المالية سوف "يحفظ رؤوس الأموال داخل المملكة" و"يشجع المهاجرين على الاستثمار داخل البلد"! لكن هذا المنطق يتعارض مع حقيقة أن السعودية تحول بين المهاجرين وبين امتلاكهم ما يمكّنهم من التأسيس لمشاريعهم الخاصة، بل وحرمان بعضهم حتى من كفالة عائلاتهم. علاوة على أن القيود المفروضة على حركة المهاجرين وتنقلاتهم (كالمناطق المخصصة للعائلات والمحالّ المحظور عليهم ارتيادها) تضيق من فرصهم حتى في انفاق رواتبهم. ومن هنا تتكشف المطالبة بتحديد سقف مبالغ حوالات الوافدين عن مساعي السعودية لمنع المهاجرين وخاصة ذوي الدخل المنخفض من المشاركة بشكل كامل في المجتمع أو توطيد جذورهم فيه. وإنه لأمر مشين بالفعل نظراً إلى أن هؤلاء المهاجرين يعتمدون على تلك التحويلات لتسديد ديون استقدامهم وتوظيفهم في الصناعة التي لا تبالي السعودية بضبطها، ونظراً إلى تفشي ظاهرة الاقتطاع غير المشروع من رواتب العمال وعجز الدولة عن معالجتها.
ومن جهة ثانية، تسيئ المملكة السعودية استخدام "نظام حماية الأجور" الذي ينص على إيداع الشركات الرواتب في حسابات موظفيها من أجل ضمان دفع كامل أجورهم وبالوقت المحدد. ورغم إمكانية استفادة العمال المهاجرين من هذا النظام، إلا انه عملياً يدعم المصارف ويعمِّق الرقابة على أموال المهاجرين وعلى كيفية تصرفهم برواتبهم. حيث يتعرض العمال المهاجرون للمساءلة حول أية مبالغ إضافية، وربما ينتج عن وضعهم القانوني شطب حساباتهم المصرفية كلياً في النهاية. وفي هذا السياق يُذكر أن نظام حماية الأجور في قطر يعمل بنفس الآلية مُوقِعاً المهاجرين، ذوي الدخل المتدني والمرتفع على السواء، في فخ الديون.
كما تروج إشاعات أخرى عن اقتراحات مقدَّمة تقضي بفرض ضريبة مقدارها 6% من إيداعات الوافدين المالية ورفع قيمة رسوم تجديد التأشيرة. وعلى الرغم من إنكار المسؤولين لهذه التقارير، فإن آخر تصريح لوزير العمل بتاريخ 10 يوليو بيَّن فيه أنه "لا يستثني احتمالية رفع الرسوم لتقليص المنافسة بين المهاجرين والمواطنين"! وآخر مرة قامت السعودية بها برفع رسم تأشيرة الدخول كانت في عام 2012، من 100 إلى 2400 ريال سعودي. وهذه الرسوم لا تشمل عمال المنازل، ولا على غير السعوديين من أم تحمل سعودية، ولا تشمل عمال المشاريع الصغيرة التي توظف تسعة عمال وما دون.
يتحمّل رب العمل رسوم التجديد (نظرياً)، كضريبة نافذة على استخدام العمالة الأجنبية. إنما يبقى تأثير رفع قيمتها معقداً، خاصة بالنسبة لذوي الدخل المنخفض من العمال المهاجرين. ذلك أن رفع قيمة الرسوم على الوظائف المنخفضة الأجر التي ينفر منها المواطن السعودي لا يمنع أرباب العمل من استقدام وتوظيف عمال مهاجرين. بل يشجعهم على اقتطاع قيمة الرسوم من رواتب العمال، واستقدام العمال بطرق التفافية أو دفع العمال نحو تجاوز مدة التأشيرة وتحويلهم إلى مقيمين مخالفين وعاملين بلا ترخيص تحت طائلة الملاحقة القانونية.
باختصار، رغم إيجابيتها ظاهرياً للعمال المهاجرين، تخدم هذه الإصلاحات المتعلقة بالعمالة الدولة أكثر مما تقدِّم لحماية حقوق المهاجرين. إذ بينما تقوم السعودية بتوسيع رقابتها وفرض سلطتها المطلقة على أموال المهاجرين وحرية تنقلهم، يتلاشى دور القانون أمام الانتهاكات اليومية المرتكبة ضد المهاجرين.
ومع أن المقاربة السعودية لقضية المهاجرين لا تختلف كثيراً عن الحالة العدائية السائدة في العالم ضد المهاجرين، إلا أن حالهم في المملكة السعودية أكثر اضطراباً من حالهم في أي مكان آخر، في ظل ضيق هامش الاعتراف بحقوق الإنسان، وعدم توفر الحماية لمن يعترضون على سوء الأحوال. وبالمحصلة النهائية، تكرس الإصلاحات الأخيرة ضعف موقف العمال في ظل نظام الكفالة، مع بثها نفحة أمل بسيط بأنّ الهدف بات يتمثل بالاعتماد، أكثر من أي وقت مضى، على تطبيق آليات معقولة في تنفيذ القوانين السارية لحمايةً حقوق المهاجرين.