لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

فخ ديون العاملين في الخليج بين أزمة أسعار النفط وقهر "الكفالة"

في 11 مايو 2016

بينما خيم على اقتصاد دول منطقة الخليج جو من الكآبة بفعل تدهور أسعار النفط، لجأت الشركات إلى اتخاذ إجراءات شديدة لتخفيض إنفاقها. مما أدى إلى تسريح آلاف العمال في دولة قطر، وإعادة التعاقد مع آلاف آخرين منهم بنصف أجرهم الأصلي أو ثلثه، حتى وجد الكثير من العمال المسرَّحين أنفسهم عالقين في البلد عاجزين عن سداد الديون المترتبة عليهم، ومقيَّدين بنظام الكفالة الذي يحبط مساعيهم لإيجاد عمل آخر يعينهم على تسديدها.

وهنا ندرج أبرز مظاهر التعسف الناجمة عن تنظيم شؤون العمالة المهاجرة بالاعتماد على نظام الكفالة:

  • يبقى العامل حال إنهاء عقد عمله بحاجة للحصول من كفيله على "تصريح لا مانع" (NOC) لتغيير عمله. بغض النظر عن المدة وسنوات الخدمة، سنة أو عشرين سنة، لا فرق.
  • لا يكفي "تصريح لا مانع" وحده لتغيير العمل. وقد التقت منظمتنا مع عمال وافدين عالقين ممن حصلوا على التصريح ولكن وزارة الداخلية لم تمنحهم الموافقة على استصدار ترخيص عمل جديد.
  • ليس بمقدور العمال تسديد الديون بلا عمل ولا مصدر دخل، مما يعني تعريضهم لخطر الزج بهم في السجن ما لم تتوفر لهم موارد كافية تساعد في سدادها.
  • يتحول العديد من العمال الذين لم يُمنحوا تصريح مغادرة وتقطعت بهم السبل إلى عاطلين عن العمل، معوزين ويائسين. فخلال الشهرين الأولين من عام 2016، أقدم على الانتحار تسعة عمال هنود وافدين، من هؤلاء المقطوعين العاجزين عن تصفية ديونهم.
  • استغلال نقطة ضعف العامل وإكراهه على قبول العمل ذاته بأجر أقل بكثير من الأجر الأساسي الذي وُظِّف أو استُقدِم بناء عليه. فإثر تسريح عمال إحدى شركات القطاع العام عُرض عليهم إعادة توظيفهم من جديد برواتب تتراوح بين نصف وثلث ما كانوا يتقاضونه سابقاً، وهو ما يُعتبر في الواقع شكلاً من أشكال استبدال العقود.

 

يبلغ عدد سكان قطر 2.2 مليون نسمة، قرابة الثلثين منهم عمال مهاجرون من ذوي الأجور المتدنية الذين تم حرمانهم من أية مكاسب حتى صدور قانون حماية الأجور في عام 2015. (تتقاضى البنوك من الشركات رسماً قدره 10 ريالات قطرية عن كل عامل لديها).

بالنسبة للمؤسسات المالية الكبيرة تعتبر دول مثل قطر سوقاً صغيرة لتجارة التجزئة، تغطي حاجات 400 ألف إنسان، بما لديها من البنوك الـ 19. تسعة منها محلية، وثلاثة إقليمية، وخمسة بنوك دولية التمويل، بينها التقليدي والملتزم بالشريعة الإسلامية، حيث المدخرات المحلية منخفضة وعمليات اقتراض البنوك تحصل على تسهيلات لتحافظ على استمرارها. حتى بات المواطن القطري يجد نفسه مديوناً في هذه البيئة المتساهلة حسبما أورده أحد تقارير وكالة رويترز الأخيرة.

"على الحكومة أن تكون أكثر حزماً في ضبط أنظمة البنوك، حيث ما تزال القروض الشخصية تجارة مربحة، فهي إلى جانب أنها تساعد على إطلاق مزيد من العروض التشاركية تدفع المواطنين نحو الاستفادة من الفوائد الطويلة الأجل مثل العوائد الإضافية وحصص الأسهم الدورية".

الائتمان السهل

من السهل الحصول على قرض مصرفي أو بطاقة ائتمان في بلد كقطر (وفي الإمارات العربية المتحدة عموماً منذ انهيار سوق العقارات في عام 2009).

وفيما يلي شروط الائتمان في معظم البنوك المحلية:

الحد الأدنى المطلوب لراتب المتقدم 5 آلاف ريال قطري للحصول على بطاقة ائتمان أو قرض شخصي حده الأعلى عشرة أضعاف الراتب الأساسي، أو 400 ألف ريال بالنسبة للعامل المهاجر ("الوافد").

حد بطاقة الائتمان يبلغ ضعف راتب العامل. وأعلى من ذلك بالنسبة للمواطنين ولكن هذا ليس موضع بحثنا.

تصنف البنوك المقترضين/العملاء بناء على الشركة التي تكفلهم، وتفرزهم إلى ثلاثة درجات.

الأولى، تضم الذين يمكنهم الحصول على بطاقة ائتمان فقط. الثانية، تضم الذين يحق لهم الحصول على بطاقة ائتمان وقرض سيارة. الثالثة، تضم الذين يحق لهم الحصول على بطاقة ائتمان وقرض سيارة وقرض شخصي. وكل درجة منها تقدم مستوى مختلفاً من العروض، وتحدِّد حجم القروض الممنوحة. وتندرج أكثر الشركات استقراراً وأفضلها سمعةً ضمن الدرجة الثالثة.

يذكر هنا أن بعض الشركات التي قامت بتسريح واسع للعمال. مثل قطر للبترول، راس غاز، مؤسسة قطر، مركز السدرة، مؤسسة حمد الطبية، كلها تندرج ضمن الدرجة الثالثة وقامت بتسريح عدة آلاف من العمال ومن ضمنهم موظفين وافدين.

رغم ضرورة عمل المهاجرين لبناء دعائم جميع القطاعات تقريباً يتولى نظام الكفالة إضعاف وزعزعة أمان كل الوافدين

التقصير بوفاء الدين

كانت البنوك قبل عام 2008 تمنح القروض بضمان شخصي، لكنها غيرت القاعدة وصارت تعتمد على بيان الراتب. إذ يحتاج الموظف المتقدم للحصول على القرض أن يبرز رسالة من رب عمله تتضمن إقراراً براتبه وموافقته على إيداع تعويضات نهاية خدمة الموظف مباشرة في البنك تحسباً لفقدان المقترض عمله، وتصريحاً واضحاً عن عدم مسؤوليته عن تسديد القرض.

وعندما يفقد إنسان عمله أو يستقيل تُعلِم الشركة البنك الذي يقوم بتجميد حسابه فوراً. معظم الشركات تُبلغ العامل قبل إبلاغ البنك، لكن حدثت حالات لم يعلم فيها العمال إلا من البنك بعد تجميد حساباتهم.

ثم يشرع البنك بتصفية الديون بمجرد وصول شيك التسوية إليه من الشركة، إذ يحاول تحصيل مستحقاته من موجودات حساب العامل وفي حال لم يكن المبلغ الموجود فيه كافياً يتصل بالعامل لوضع خطة التسديد تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه. فإذا لم يكن العامل عازماً على السفر خارج البلد ويبحث عن عمل آخر فيتعين عليه التوصل إلى اتفاق يقبل فيه البنك الوثائق المستصدرة من رب عمله التالي، ليصار إلى إعادة تفعيل حسابه بعد أن يدخله مبلغ أول راتب من العمل الجديد.

عقوبة السجن

يتعرض العامل للسجن إذا لم تكن تعويضات نهاية خدمته كافية لتغطية قيمة القرض غير المسدد ولا تتوفر له وسيلة أخرى لتسوية الدين.

مع العلم أن العقد المبرم مع البنك لا يذكر في أي من بنوده عقوبة السجن أو مدتها، بل يكتفي بذكر عبارة اتخاذ "الإجراءات القانونية".

ولكل بنك طريقته بالإجراءات التي يتبعها، بعضها يرفع قضية بمجرد رفض شيك التسوية أو عجز المقترض عن تقديم خطة للتسوية.

أقصى عقوبة بالسجن تصل مدتها إلى ثلاثة أشهر من أجل قرض بقيمة مليون ريال.

يفتح بعدها المدّعي (البنك) القضية من جديد ليتم تمديد العقوبة مدة ثلاثة أشهر إضافية. ثم يصبح من حقه أن يطالب بمصادرة أصول وممتلكات المدعى عليه لتعرضها المحكمة للبيع بالمزاد العلني لصالح المدعي. على أية حال، ليس لدى معظم الوافدين إلا القليل من الممتلكات داخل البلد. ولا يتم الإفراج عنك إلا عندما تقتنع المحكمة أنك لم تعد تملك مالاً.

إنما في حالة التسريحات الأخيرة في مؤسسة حمد الطبية، التي يتعامل عمالها الوافدون مع بنك قطر الوطني، تم سجن العمال حتى قبل تحويل شيكات التسوية النهائية إلى حساباتهم في البنك.

وقد ذكر موظفو المؤسسة لموقعنا أن عملية حساب مبالغ التسوية وتحويل المستحقات تستغرق عدة أسابيع بعد الاستقالة أو الصرف من العمل.

وأي تأمين؟!

تطرح البنوك تأميناً على بطاقات الائتمان، يدفع حامل البطاقة مقابله رسماً رمزياً كل شهر. وفي حال فقده العمل تتم تسوية مبالغ بطاقة الائتمان من خلال موجودات التأمين. لكن مفعول هذا التأمين لا ينسحب على القروض. وبعض البنوك تعيد النظر بنظام "الضامن الفردي" كحلّ للحد من اللجوء إلى عقوبة السجن. وبعضها يفكر بالحل من خلال الإقراض المشروط والإقراض المستند إلى ممتلكات العميل.

يبدو أن المنطق الأبرز الكامن خلف الرغبة بإدامة نظام الكفالة في البيئة الاقتصادية السائدة هو: حفاظ دول الخليج العربي على الحالة المؤقتة لعمالها "الضيوف" بغية تجاوز آثار أزماتها الاقتصادية، على حساب الحقوق والحريات. ورغم أنه لا غنى عن العمال المهاجرين لإنعاش جميع القطاعات تقريباً، من خدمات الاستقبال والضيافة وتجارة التجزئة حتى الخدمات المصرفية، يتولى نظام الكفالة رميهم بعد استخدامهم، مكرساً مشاعر الضعف وانعدام الأمان في حياة كافة العمال الوافدين.