لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

«لو لمسك زوجي، سأقتلك»

اغتصاب، واعتداء، وإهمال، وحياة مهددة – حياة النساء الكينيات العائدات من السعودية

في 12 أغسطس 2022
تحذير: يتضمن المحتوى أوصافاً حساسة ودقيقة لوصف الإساءة والاغتصاب.


اقرأ هذه المقالة كملف PDF

تتداخل القصص في بعضها، فصدمة امرأة تجد صداها في كابوس أخرى. وتتلاشى ابتسامة امرأة ناجية وهي تشهد جراح لم تندمل في امرأة أخرى. إيماءات فهم وإدراك لما حدث، وتنهدات التعاطف بين المجتمِعات. جميعهن كنّ هناك، لكنهن يعرفن أن لكل أذى لسعته المختلفة. بعض العيون تلمع بدموع محتبسة، بعض العيون بها خواء، بعض الضحكات بها فكاهة مخنوقة، وقليل من الانتصارات المشتركة. بعض الجروح جسدية وواضحة، لكن غير المرئية هي تلك التي تتفاقم بشكل أكبر. 

ومن خلال المقابلات المعمقة مع  Migrant-Rights.Org ولقاءات المجموعات، تحدثت نساء كينيات عن قصصهن في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط. وفي حين تحدثن جميعهن عن ساعات العمل الطويلة، وقلة الأجر، أو عدم الدفع، ونقص الطعام، والإساءة اللفظية، كانت جميع اللاتي عملن في السعودية يحكين قصصاً متشابهة أكثر مأساوية. الاغتصاب، والاعتداء الجنسي، والتعذيب… فكل قصة طرحت كان لها دليل جسدي أو عاطفي. الحروق، والعَرَج، وانقطاع النَّفس عند الحديث، والعائلات المشتتة.

في غرفة رطبة، سيئة الإضاءة في نيروبي، اجتمعت 12 امرأة. أربعٌ منهن يتمنين الذهاب إلى الخارج، بينما الباقيات كنّ منهكات بتجارب يرغبن بشدة في الحديث عنها ومشاركتها الأخريات. النصائح كانت تتطاير في أجواء الغرفة بشكل مكثف وسريع، تصحبها ضحكات تهكمية. 

«الصبر»

من أجل ماذا؟ تسأل أخرى 

«للتأقلم مع كل الإساءات»

«جهزي نفسكِ لليالي لا تذوقين فيها النوم»

«لن يكون هناك طعامٌ كافٍ»

«تعوَّدي على الكثير من الشاي والخبز»

«البندول سيكون طبيبكِ. لن يكون لكِ غيره، مهما بلغت درجة مرضكِ، حتى لو بلغ الأمر إحساسكِ بالاحتضار».

أضحك ذلك الجميع بصوت عال. 

«تقبَّلي ألا يكون لديكِ فوط صحية»

«وصابونتك الخاصة»

«أو الزيت»

«أو حتى مياه للشرب»

بفضاضة تداخلت روث – التي قضت سنتين في حفر الباطن والدمام في السعودية – قائلة: «توقعي أنه عندما ينتهي عقدك، أنه لن يتم السماح لك بالمغادرة بسهولة».

تتواصل الصدمة مع عودتهن إلى أوطانهن. فتعود كثيرات ممن لم يتمكنَّ من تحقيق أهدافهن، إلى بيوت خالية أو محيط معادي. هناك عار يلاحق من تقع ضحية للإساءة. 

مثال على ذلك سيلستين، التي اختارت العيش بعيداً عن أطفالها، تقول: «أنا بدون مأوى، أعيش مع صديقتي فيث. أنا خائفة أن أكون مع أطفالي. أنا خائفة من أن تسيطر عليّ الشياطين في رأسي وأقتل نفسي وأطفالي».

تجلس صديقتها إلى جانبها، تمد لها يداً حانية. أما اليد الأخرى فتتعافى من حروق شديدة تسبب فيها صاحب عملها. لسبب ما، تبدو فيث أكثر قوة. فقد تمكنت من الهرب وساعدت سيلستي أيضا على الهرب.

سوف يتم اغتصابكِ، وسوف تضربين، لن يُتخذ إجراء حيال ذلك. سيكون لديكِ طفلٌ دليلاً على الاغتصاب. ولن يُتخذ أي إجراء أيضاً. سيتعاون كل من الشرطة والسفارة ومكتب التوظيف لدفعكِ للعمل. لن يكون لديكِ حقوق.

 (يستمر التقرير أدناه ، بعد إساءة أكبر من الاستيعاب)

إساءة أكبر من الاستيعاب

الأخت فلورنس هي مستشارة مهنية في Counter Human Trafficking Trust-East Africa (CHTEA). وفي حين ساعدت المنظمة الكثيرين من العائدين من لبنان من خلال صندوق أوليّ للبدء في عمل تجاري، عملت سيستر فلورنس مع عشرات الضحايا العائدين من دول الخليج، بمن فيهم من ساعدت Migrant-Rights.Org في عودتهم إلى أوطانهم.

يؤخذ المصابون بصدمات شديدة إلى بيوت آمنة فور وصولهم. «التقيهم مرتين يومياً، لأنهم بحاجة لدعم ثابت ومستمر. على الأقل في البداية. وعندما تتحسن أوضاعهم، نقلص عدد الجلسات».

ومع ذلك، فإن عائلاتهم لا تتقبلهم دائما. 

تقول «لدينا ضحايا للاتجار بالبشر من دول أخرى أيضاً، لكن ليسوا بالسوء الذي عليه من يعودون من الخليج. خصوصا السعودية»، وتتساءل إن كان ذلك بسبب صدام الثقافة أو سوء الفهم. موضحة أنه فيما يتم الاتجار بالضحايا من أوروبا في بيوت الدعارة، إلا أنه في حالة الخليج فإن الضحايا هن النساء اللاتي يذهبن للعمل في المنازل. 

«بعض الأشياء تصعب على الفهم. أن يغتصب الأب وابنه، العاملة، وقوف المرأة متفرجة دون أن تفعل شيئاً… يعتبر الاغتصاب من الأمور المحظورة والمسكوت عنها، لكن مثل هذا الاغتصاب يعتبر أسوأ. فهو عبودية الجنس. الضحايا يصبحن أشياء وليس بشر. يتم ضربهن وحرقهن، يتم الاعتداء عليهن جنسيا بالقناني والخضروات. كما أنهن يجبرن على الإجهاض، وإذا ما استمر الحمل يتم ايداعهن السجن».

«هذه المحظورات متجذرة إلى الدرجة أن النساء لا يستخدمن كلمة «اغتصاب». يصفن كل شيء آخر. ويقلن أشياء سيئة حدثت لهن، لكن الوصمة المرتبطة بالكلمة سيئة جداً، للدرجة أنهن لن يذكرن كلمة اغتصاب. إن التشافي من ذلك عملية بطيئة ومملة. البعض يعاني من رغبة في الانتحار ويكنَّ بحاجة للمراقبة طوال الوقت. وحتى بعد مغادرتهن البيوت الآمنة، يظللنَ بحاجة إلى المراقبة فيما بعد. وكل ذلك يتطلب موارد كثيرة وباهظة الثمن». 

تقول الأخت فلورنس إن الصدمة التي تواجهها النساء تبدأ عندما تتم مصادرة وثائقهن، وأجهزة هواتفهن، هذا يضعفهن. «ينال ذلك من شخصيتهن، ومن إنسانيتهن، ومع ذلك لايزال الناس يذهبون إلى هناك لوجود قصص نجاح».

ليس النساء وحدهن عرضة للاعتداء والاغتصاب. «لقد تحدثت مع بعض الرجال الذين تعرضوا للواط والاعتداء لكنهم التزموا الصمت. يعمل هؤلاء كحراس أو في قطاع الإنشاءات. لا يتحدثون عن الأمر، بل يعانون في صمت. ثم ينتهي الأمر بهم بمشاكل تابعة لهذا الاعتداء السيء مثل تعاطي المخدرات والكحول، والميل للانتحار، وعدم القدرة على التعامل مع مروا به».

وتنتقد الأخت فلورنس أجندة مكافحة الاتجار بالكامل في مسألة اقصاء الرجال منها. «هناك بيوت آمنة للنساء والأطفال؟ ماذا عن الرجال؟ حتى وإن تم الاتجار بهم، ينظر لهم على أنهم ضحايا الاعتداءات العمالية فقط».

المتوحشون جنسياً

برغم ما مرت به فيث، إلا أنها كانت هي من توفر الدعم والمساعدة لسيلستين (28 عاما)، إذ تشعر أن ما تعرضت له هو الأسوأ، وكأن التعذيب بحاجة إلى تصنيف. 

ذهبت فيث وسيلستين إلى السعودية في نفس الوقت من خلال وكيل التوظيف نفسه. انتهى الأمر بسيلستين في حفر الباطن في شرق المملكة، ليس بعيداً عن الحدود الكويتية العراقية. لم تكن الأمور سيئة لدى سيلستين في بداية الأمر. «أعطوني طعاماً، وكنت أعمل من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، وكانوا يعاملوني بشكل جيد”.  

بعد أسبوعين، بدأ الزوج يأتي اليها ويقتحم غرفتها، يطرق الباب عندما تكون في الحمام للاستحمام. أخبرت وكيل التوظيف في كينيا بذلك، لكنه لم يفعل شيئا حيال ذلك. لم تستطع إخبار الزوجة التي كانت قد أخبرت سيلستين منذ البداية، إنه إن لمسها “بابا” فإنها (الزوجة) ستؤذيها. 

«بدأ الرجل (الزوج) يأتي إلى غرفتي حاملاً مسدساً. في 3 فبراير 2020، لم تكون السيدة موجودة في المنزل. فجاءني واغتصبني. وواصل اغتصابي على مدى الشهور التالية حتى شهر نوفمبر. في الشهر الخامس، قام باغتصابي ثم ضربني بالمسدس على رأسي وأغمي عليّ»

تم أخذ سيسلين إلى المستشفى، وحذرها من الشكوى لأي أحد. أعيدت إلى المنزل، وتواصل الاعتداء الجنسي عليها. تقول: «كان يضربني أيضاَ، هناك علامات ورضوض في كل أنحاء جسدي (تربت على بطنها، صدرها، أعضائها التناسلية). كان يدوس أعضائي التناسلية بحذائه. ثم بدأ الاغتصاب الشرجي. كنت أصرخ وأبكي من شدة الألم». 

لا تفوتهم صلاة، لكنهم سينتهون من صلاتهم ويعودون لإساءة معاملتك.

أخيرا، قامت بالاتصال بفيث التي نصحتها بالهروب مادام الوكيل لا يحرك ساكنا.

في إحدى الأمسيات، فيما كانت سيلستين تحضر نفسها للهرب، جلب صاحب العمل 6 رجال وهددوها بالاغتصاب، والقتل والتخلص منها في أكياس القمامة. «ركضت حتى وجدت طريقي إلى مكتب وكيل التوظيف. قاموا بالاتصال بالشرطة، لكن الشرطة سألوني أن أقدم الدليل من العائلة نفسها. كذلك فعل وكيل التوظيف. وعندما رفضت، ضربوني وباعوني لأخي صاحب العمل».

تتحدث سيلستين بنبرة مسطحة وصوتها رقيق وهي تتذكر شهور الرعب التي مرت بها، لكن دموعاً صامتة كانت تتساقط خلال الحديث الذي استمر ساعة. سألتها فيث إن كانت تود التوقف. فتوقفت لتشرب قليلاً من الماء وأصرت على المواصلة. 

تقول إن في البيت الجديد يعيش 30 شخصاً. بحلول ذلك الوقت كانت جراحها ملتهبة وبدأت تنزف الخراج ولم تكن هناك أدوية لمعالجة ذلك – لا شيء من ذلك اعتبر دليلاً على ما كانت تتعرض إليه. مرة أخرى، كانت تعمل من السادسة صباحاً حتى الثالثة من صباح اليوم التالي وبالكاد تحصل على الطعام أو الأجر. 

«في 29 نوفمبر، جاء الابن إلى غرفتي واغتصبني ثم بدأ بضربي. في أعقاب ذلك تعرضت لنزيف حاد (مشيرة إلى أعضائها التناسلية). بعد ذلك قدموا لي طعاماً به شي أخضر وأخبروني أنه دواء لكوفيد. حينها، جاءني طفل من البيت وأخبرني ألا أتناول ذلك الطعام. قال لي الطفل الذي يبلغ 10 سنوات أن ما قدّم لي كان سمّاً».

[تتدخل فيث قائلة: «الأطفال منقذون. كثير من الأحيان يأتون للمساعدة»]

«إنه مثل بيت دعارة، إذا أردت ممارسة الجنس مع أي شخص، فهذا هو مركزك»

شعرت سيلستين بألم شديد في المعدة ونزيف لأنها تناولت بعض الأدوية. أُخذت إلى المستشفى. وأخيراً، أُرسلت إلى مكتب الوكيل، حيث تم حبسها مع عدد من الإفريقيات بقضايا مماثلة. «بطريقة ما هربنا إلى مركز الشرطة، وساعدونا على ترحيلنا في فبراير 2021».

أثّر السم التي تناولته على كبدها، كما أثر الإجهاض الذي أجبرت عليه والجروح الأخرى الناجمة عن الضرب على صحتها، مما أدى إلى استحالة قدرتها على العمل. كانت تتسلم بعض المساعدة من خلال جماعات الكنيسة لكنها مازالت مسكونة ومتأثرة بما حدث لها. 

تقول: «العلاج النفسي يستغرق بعض الوقت ليظهر تأثيره، عندما أستحم وأرى جروحي، أستعيد كل شيء من جديد. إنه صعب جداً. أشعر بإهانة كبيرة وأنني مجردة من الإنسانية. عقلي لا يعمل».

«لقد نجوت لأتحدث عن أولئك الصامتين»

جميع العائدات تعرضن للاعتداء الجنسي بشكل أو بآخر.

صوفيا، التي قضت فترة قصيرة في السعودية قبل أن تهرب من الاعتداءات والعمل المنهك، قضت ثلاث سنوات أخرى في قطر. «كان الوضع أفضل قليلاً… عملت في أكثر من منزل. لكن في كل مكان تتعرض للتحرش الجنسي. في المنزل، عندما تخرج مع السائق، عندما يطلب صاحب المنزل أن أقوم بالمساج له. يجب أن تكون ذكيا وواسع الحيلة للهروب من كل ذلك، لكن لا تنجح في كل مرة». 

تقول بيرس التي عملت في دبي: «والرجال في المنزل، في أي فرصة تتاح لهم يظهرون “عضوهم التناسلي”. لا راحة بال على الإطلاق. لا يمكنني حتى النوم»

أما أتينو (26 عاماً) فقد ذهبت للعمل في تبوك في 2018، لكنها اضطرت للهرب بعد ثلاثة شهور. «برغم أن منزل الأسرة كان صغيراً، فقد ظل صاحب الأسرة يحاول ممارسة الجنس معي، وكان يتحرش بي. وعندما أخبرت الزوجة غضبت وضربتني وحرمتني من الطعام. كيف يكون ذلك خطأي؟!».

ومع خوفها من تصاعد الأمر، تمكنت من الذهاب للشرطة بمساعدة أصدقائها وتواصلت مع السفارة الكينية. 

«كان لدي أصدقاء ساعدوني وأرشدوني. لكن الكثيرين ليس لديهم هذا الدعم. قد يضطرون إلى الانتحار بسبب اليأس. في البيت الذي كنت أعمل فيه، كان الزوج يتحرّش بي. صرخت فضربني. كان يفعل أشياء سيئة. عندما قررت أن أقدم شكوى لدى الشرطة أخبروني أن الأمر مكلف، فلم أفعل. لدي طفل وأعاني أصلا للاهتمام به. وعندما فعل الرجل أشياء بي كنا خائفة من الحمل. وخائفة أكثر من أن أُقتل. لازلت أعاني مما تعرضت له». 

في مركز الاحتجاز، يتم اغتصابكِ… إذا أصبحت حاملاً يحاولون ترحيلكِ بسرعة. إذا أصبح لديك طفلٌ فقد أصبحتِ في ورطة، وستعلقين هناك.

 

«أنت تنام مع جثث. مركز الاحتجاز هو بيت دعارة»

فين، هي أم عازبة وتعمل حالياً مع ضحايا الاعتداءات الأخريات، وتستمع لمجموعة من النساء، جاءت بهن ليتشاركن قصصهن.(انظر الأخوّة بين الناجيات). تتداخل برأيها بين الحين والآخر، لكنها تراقب باهتمام فيما كانت الأخريات تسردن بمعاناة ما يردن قوله. صوتها كان منخفضاً، لفترة وجيزة لا يعبر صوتها عما يدور بداخلها من ضيق. لكن ما أن انتهت المجموعة وتفرق أفرادها أخذت مقعدها مستعدة لمشاركة قصتها. 

«نشأت في كيبيرا، أكبر حي فقير في نيروبي. كان عمري 24 عاما عندما عرضت عليَّ وكالة توظيف عملاً في 2014. لم أدفع سنتاً واحداً. كان عليّ الذهاب إلى دبي عن طريق ممباسا وقيل لي أنني سأستلم 35000 شيلينغ كيني (295 دولار أمريكي) انتهي الأمر بي في السعودية.  المشكلة أن تواصلك مع وكيل التوظيف ينتهي في اللحظة التي تغادر البلد». 

«بعد البقاء لثلاثة أيام في مطار جدة، جاء صاحب العمل ليصطحبها إلى المنزل الذي ستعمل به. “كان بيتا كبيراً، وساعات العمل فيه طويلة. كان عدم معرفة اللغة تحديا بالنسبة لي. كانت توجد عاملة كينية أخرى تعمل هناك».

تحمّل العمل كان سهلاً، لكن التحدي الأكبر هو التعامل مع الرجال في الأسرة. 

«كان الرجل وأبناؤه يتحرشون بي طيلة الوقت. اشتكيت للمدام (ربة المنزل) لكنها لم تصدقني. كان الرجال يهددوني بالمسدس. في أحد الأيام كان الجميع خارج المنزل، وحاول الابن الأكبر اغتصابي، تعاركنا، وضربته بشيء ثقيل وجدته بالقرب مني. وعندما عادت الـ(مدام) اشتكى الابن لها وطلب منها طردي من المنزل، لكنهم ابقوني في المنزل واستمر التحرش بشكل يومي».

بعد أربعة أشهر، قررت فين الهروب. انتهزت فرصة رمي القمامة في الخارج وهربت مع عاملة المنزل الأخرى، مارثا. تم الإمساك بمارثا، لكن فين واصلت الركض حتى صادفت رجلاً عرض عليها المساعدة، واصطحبها إلى مركز الاحتجاز في منطقة الرحاب بجدة. 

«هناك ندمت على الهروب، فهناك ترى الناس تموت بشكل يومي. نعم أن ترى ذلك حقا، وليس بوسعك أن تفعل شيئاً حيال ذلك. قد تضطر للنوم أيضا وحولك جثث موتى. ولا يوجد هناك طعام كاف. لا أحد يهتم».

«رجال الأمن هناك يريدون ممارسة الجنس معكِ. في السعودية، يصعب على الرجال التفاعل مع النساء لأن ذلك ضد ثقافتهم أيضا، ولذلك فهذه فرصتهم للتحرش بكِ وأنتِ عاجزة عن الدفاع عن نفسكِ وليس بوسعكِ عمل شيء. مرضت هناك واشتد المرض. كنت في المركز لمدة شهرين وحملت بسبب الاعتداءات الجنسية». 

تقول إن السفارة لم تساعدها حينما كانت في المركز. وعندما اشتكت عائلتها في كينيا، أخبروهم أنهم لا يستطيعون تعقبها. «لا يمكن نسيان ذلك المركز، كان الناس يموتون، يتقاتلون من أجل الطعام، يُغتصبون، ولا أحد يمد يد المساعدة». 

تتذكر فين الرجال الذين يأتون إلى المأوى/المركز ويغتصبون النزيلات. «إنه مثل بيت دعارة، إذا أردت ممارسة الجنس مع أي شخص، فهذا هو مركزك».

تعتقد فين أنه تم ترحيلها بسرعة لأنها أصبحت حاملا. 

«عندما عدت إلى كينيا، بقيت في المستشفى لمدة أربعة شهور، ثم تواصلت مع منظمة كوديها (Kudeha) قامت بمساعدتي. قدموا لي الدعم. وساعدوني على التواصل مع منظمات أخرى. عمر ابني أصبح 6 سنوات. وهو الآن في المدرسة الآن، حتى أصله ليس معروفا، لا أعرف من كان والده».

البندول هو الحل. قد تشارفين على الموت، لكنهم يعطونكِ بندول. مهما بلغت درجة مرضكِ فأنتِ لا تستحقين سوى شريط بندول. 

 

مثقلة بالعمل والبندول كدواء لكل داء

ذهبت فيث (31 عاماً) إلى السعودية في ديسمبر 2019، قبل تفشي الجائحة، في نفس الوقت الذي ذهبت فيه سيلستين. وصلت أول مرة إلى الدمام وأُخذت إلى منطقة عرعر، وهي مدينة تقع في الجزء الشمالي من المملكة بالقرب من الحدود العراقية. 

كان عليها حضور دورة تدريبية مدتها 14 ساعة قبل مغادرتها، والحصول على شهادة حسن سيرة وسلوك حتى تتمكن من الهجرة. «في الدقيقة التي تصل فيها، يتلاشى كل ما تعلمته، فأنت (غبي) منذ اليوم الأول». ولا يساعد أن تمنح العاملات بعض الوقت للتعود على البيئة الجديدة، أو أحيانا لا يحظين بهذه الفرصة، فالمتوقع منهن البدء في العمل منذ لحطة الوصول. وشهادة حسن السيرة والسلوك لا تعني شيئاً، إذ يظل صاحب العمل دون رادعاً لسلوكه. 

تقول فيث: «كانت ساعات العمل طويلة، وعليك أن تعيش على بقايا الطعام. ذُكر في عقد العمل أنني سأعمل لدى عائلة مكونة من أربعة أشخاص، لكنني لم أتمكن من أحصى عدد الأشخاص الذي وجدتهم هناك. كانت هناك خمس عائلات. صاحب عملي وعائلته، ووالدته، شقيقه، والدة زوجته… جاءت عاملة ثانية في العام التالي. كنا مازلنا نعمل 17- 18 ساعة يومياً». وتتذكر فيث مضيفة: «وكان علينا أيضا الطبخ لشركتهم في مجال التموين».

كانت تحصل على أجرها شهريا، لكن عدا ذلك، كان لكل شي تأثيره السيء عليها جسدياَ وعقلياَ. عندما حصلت فيث على أول راتب، اشترت جهاز هاتف وأخفته. «عندما فتشوا حاجياتي أول مرة وجدوا أن لدي جهازي هاتف، فهم يتوقعون أن يكون لديك جهازين. لذلك تأكدت أن يكون لدي جهاز إضافي». الاحتراز لما سيأتي فيما بعد يجعلها في وضع جيد عندما تسوء الأمور.  

«في كل مرة نمرض فيها كنا نُعطى بندول. ذات مرة كنت مريضة جداً، لم أكن أستطيع الوقوف، كان لدي ألم شديد”. تقول فيث – وهي تشير إلى الورك الأيمن الذي لايزال يحمل أثراً للمشكلة – حاولت التواصل مع وكيل التوظيف في كينيا دون جدوى. وأخيرا، في اليوم الرابع من الألم الذي لا يحتمل، أُخذت إلى المستشفى. «أخبرت الطبيب عن الألم، طلبوا مني أن أخضع لأشعة في اليوم التالي قبل العلاج، وأخبروا صاحب العمل أيضا. لكنهم أخذوني إلى المنزل وأعطوني شريطاً من أقراص البندول. كنت أود أن أرتاح، لكنهم أجبروني على الطبخ لشركة التموين التي يديرونها». 

في اليوم التالي، كان على فيث أن تذهب، مرة أخرى، إلى المستشفى لفحص الدم والبول. ومرة أخرى، لم يُسمح لها بالانتظار لعمل الأشعة. كان عليها أن تعود للمنزل للطبخ لعملاء المطعم. 

«إذا اشتكيت، تتعرض للضرب». نشرت فيث، قبل ثلاثة أيام عن مرضها على الفيس بوك. كان هناك اقتراحات بالهرب كملجأ أخير لوضعها. في اليوم التالي، بعد أن انتهت من تحضير وجبة الصباح، هربت من المنزل. «أخذت معي هاتفي ووضعته في سروالي الداخلي، وأخذت بطانيتي، وهربت من المنزل. كانت الساعة 12 ظهراً. مشيت في الطقس الحار، جميع إشارات الشارع كانت باللغة العربية. ناداني رجل كبير في السن بـ «بنتي» سائلا، إلى أين أنا ذاهبة؟ أعطاني ماء، وأتصل بالشرطة الذين حضروا فوراً. كان لدي عقد العمل، لكن لم يكن لدي جواز السفر أو بطاقتي الشخصية». 

اتصلت الشرطة بصاحب عملها، وأمرتهم بجلب جواز السفر والإقامة، وأخذوا نسخاً عنها، وطلبوا منهم أخذي للمستشفى أو لمكتب وكيل التوظيف. وعندما أخذوها إلى المنزل، افترضت فيث أنها ستأخذ حاجياتها ويأخذوها للباص الذي، بدوره، يوصلها للمكتب في حفر الباطن في رحلة تستغرق 12 ساعة بالباص من عرعر. 

لكن بابا (صاحب العمل) طلب منها هاتفها، وضربها ضربا مبرحاً. وقال لها «لا شرطة، ولا ومكتب وكيل التوظيف، ولا مستشفى، فالطبيب قال إنك بخير”. وأجبروني على الطبخ».

وفيما كانت فيث تطبخ، بدأ صاحب العمل في الصراخ مرة أخرى. قال وهو يحاصرها من الخلف «أنتِ هنا للعمل وليس لتمرضي. لا مرض في السعودية. لقد اشتريتك، أنتِ الآن ملكي». وحينما التفتت فيث لتتكلم، أخذ غلاية الماء وسكب ما بداخلها من ماء حار عليها.

«أنتِ هنا للعمل وليس لتمرضي [...] أخذ غلاية الماء [الساخن] وسكب عليّ.»

الصورة الرئيسية: الحروق على ذراع فيث لم تلتئم بعد ، ولا تزال حركتها مقيد
الصورة الجانبية: بعد أن أحرق صاحب العمل يدها قبل أن تتلقى العلاج

«لم أشعر بشيء، حرقوا ذراعي الأيمن. كنت مخدرة. كنت أفعل كل شيء ومع ذلك كنت أُعامل معاملة سيئة. ذهبت إلى الحمام، وأخرجت هاتفي السري، وصورت ذراعي وبعثت الصورة لزوجي، وأرسلها إلى وكالة التوظيف في كينيا، التي بدورها أرسلتها إلى مكتب التوظيف في السعودية. وقاموا بإرسال الصورة إلى صاحب عملي. قلت للعاملة الكينية الأخرى في المنزل “إذا متّ، أخبري الناس بما حصل”. كانت جديدة في المكان».

هددها صاحب العمل بمسدس، وأجبرها على تسجيل فيديو تقول فيها أنه لم يؤذها وأن ذلك كان حادثا. حذرتها الزوجة أيضا من تغيير أقوالها. بعد ذلك تم أخذها إلى مكتب التوظيف، حيث خُيّرت بين ثلاث خيارات: إما العمل حتى انتهاء فترة العقد، أو العمل لدى صاحب عمل آخر، أو دفع قيمة التذكرة للعودة إلى كينيا. ونظرا لعدم وجود مهملة، حاولت فيث الهرب من جديد. صادفتها خيمة للهلال الأحمر وحصلت منهم على بعض المساعدة، لكن الشرطة أعادوها مرة أخرى لمكتب التوظيف، وطلبوا منهم حل مشكلتها. «لم أحصل على أي دواء لمعالجة الحروق في ذراعي. كانت هناك امرأة من أوغندة، حاولت مساعدتي وأخبرتني أن جرحي سيتعفن إذا ظل كذلك. وهنا، قمت بنشر مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، وحينها حصلت على مساعدة فاعلي الخير الذي جمعوا لي بعض المال للعودة إلى بلدي».

عندما وصلت فيث إلى كينيا، كان المنزل فارغا، لتكتشف أن المال الذي كانت تبعثه، أنفقه زوجها بعد أن تزوج بأخرى. 

عندما تهربين، لا تأخذي شيئاً معك. حتى لو كنتِ ذاهبة للشرطة، لا تأخذي شيئاً. لا شيء على الإطلاق. وإذا فعلتِ فسيتهمونك بالسرقة.

 

مراقبة الضحايا – الذراع الضعيفة للقانون

تحاول الكثيرات، مثل فيث، السعي للحصول على المساعدة من الشرطة. مرة تلو الأخرى، لكن يتم إعادتهن للأسر المسيئة. مثل باريس (45 عاماً)، التي قررت السفر إلى الخارج لتغطية نفقاتها، وإلحاق أبنائها بالمدارس بعد أن خسر زوجها عمله. تواصلت مع وكيل توظيف، وحزمت حقائبها وودعت عائلتها. «كان عليَّ استكمال إجراءات السفر والتدريب، لذلك اقترضت بعض المال من فاعلي الخير وذهبت من ممباسا إلى نيروبي. وقمت بإجراء الفحص الطبي وبعده مباشرة كنت في الطائرة في طريقي إلى دبي».

وُعدت باريس براتب قدره 600 درهم إماراتي (165 دولاراً أمريكياً)، وبأنها ستعمل لدى عائلة صغيرة، حتى أنها أجرت محادثة هاتفية مع صاحبة عملها المرتقب، التي «أخبرتها أن لديها طفلان وأنها حامل وتحتاج للمساعدة. كنت خائفة لسماعي مثل هذه القصص المخيفة. لكن الحديث معها أشعرني بالاطمئنان».

«فور وصولي إلى دبي، أخذ صاحب العمل جوازها. «قولي وداعاً لجوازك حينها، لن تريه مرة أخرى، عليك أن تكوني مستعدة لذلك».

«لم تنته المفاجأة هنا. عندما دخلت المنزل كانت هناك عائلة كبيرة، ومنزلاً كبيراً. لا أظن أنه منزل السيدة التي تكلمت معها. «أنت لا تعملين لدى عائلة واحدة… كان عليَّ العمل في ثلاثة منازل، جميعهم أقارب. وكان على الاهتمام بكبار السن أيضاً. كنت أعمل حتى ساعة متأخرة في الليل».

أطلقت صوتا يشبه الشخير استغراباً عندما سئلت عن ساعات العمل. «لا يوجد ساعات عمل، ولا أوقات راحة. أنتِ تعملين حتى ينتهي العمل. والعمل لا ينتهي. فأنتِ تغسلين الأواني لساعات حتى تصبحي بالكاد قادرة على الوقوف. هم يعطونكِ فقط البندول عندما تشعرين بالمرض. وكل ما تحصلين عليه هو بقايا الطعام – أنتِ تأكلين ما يتبقى بعد أن ينتهي الجميع من تناول وجباتهم». 

نامت باريس في الغرفة نفسها مع الوالدين المسنين. «كانوا يوقظوني لأخذ السيدة الكبيرة للحمام. علي أن أكون تحت الطلب طوال الليل. إذا اشتكيت فهم يقولون: “الأفارقة لا يتعبون، الأفارقة أقوياء”». (استمع). 

على عكس العاملات من نفس موطنها؛ لم تعرف باريس أن عليها إخفاء جهاز هاتف احتياطي، فاعتمدت على صاحب العمل لتتواصل مع عائلتها. «كانوا يسمحون لي بالاتصال مرة كل شهرين. كانوا يقفون بجواري، ويصرون على أن أتحدث باللغة الإنجليزية ويذكروني بتكرار “ليس بلغتك” على مسمعي».

بعد عدة شهور من التورط بالعمل في عدد من المنازل، طلبت من صاحب العمل العودة إلى بلدها. «رفضوا السماح لي بالعودة وقالوا إنهم صرفوا الكثير من المال للحصول عليّ. عملت لمدة 8- 9 شهور. وأخيراً، في أحد الأيام، قررت الهرب. وأردت الذهاب للشرطة. لم أكن أعرف حتى اسم العائلة». 

قامت الشرطة بفحص سجلها، وعرفت تفاصيل صاحب العمل. بعد أسبوع جاءت العائلة. وتكلموا مع الشرطة باللغة العربية وأعادوها معهم إلى المنزل. طلب منها أفراد الشرطة العودة معهم وإتمام فترة العقد قبل العودة إلى بلادها.

«كانوا يصرخون في وجهي، لكن أحمد الله أنهم لم يضربوني. قالوا لي أنني لن أذهب إلى أي مكان. في مركز الشرطة، أنني لن أعمل في ثلاثة منازل، حتى لو قتلوني. لكنها قالوا “ياللا، ياللا” وأعادوني إلى المنزل».  

منذ أن عادت إلى منزل صاحب العمل، تمسكت بيرس بموقفها الرافض للعمل في منازل الآخرين. 

 قيل لها في مركز الشرطة، إنها لو هربت مرة أخرى فستختفي، لأن العائلة دفعت كثير من المال لاستقدامها. «عندما طلبت أن يأخذوني للسفارة، قالوا إن هذا ليس متبعاً في بلدهم. عندما تستجمعي الشجاعة وتنجحي في الهرب، يعيدونكِ إلى العائلة؟ لذلك قررت أن أقاتل بطريقتي. صرخت، وتدحرجت على الأرض، ورفضت العمل. كانت هذه طريقتي للتأقلم مع الوضع».

استمرت بيرس في العمل لعامين، حتى مرضت مرضاً شديداً جعل العائلة تعيدها إلى بلدها. «أعرف ما مررت به وما رأيته. لا أتمنى أن يحدث ذلك حتى مع أسوأ أعدائي. كان الشاي والخبز هو ما تحصل عليه للطعام. كنا نتناول الطعام أثناء القيام بالتنظيف. كنت أقرأ عن أشخاص يتم اغتصابهم وقتلهم، وأحمد لله أنه لم يحدث لي شيء كهذا. لكنني مع ذلك مررت بالكثير، لأن الأم ستفعل أي شيء لمساعدة أطفالها لذهاب للمدرسة».  

ذهبت فرانسيسكا (37 عاماً) للدمام في 2019. كان يوم العمل لديها، كمعظم عاملات المنازل، يمتد مما قبل الفجر حتى بعد منتصف الليل، كان المنزل كبيرا وعدد أفراده 6 أشخاص. تقول: «لم تكن المعاملة خلال الشهور الثلاثة الأولى بذلك السوء». لكنهم كانوا يطلقون على لقب «خدّامة وشغّالة (عاملة منزل باللهجة المحلية تحميل نبرة تحقير)».

بدأ الأطفال الذين تهتم بهم يضربونها. «شكوتهم لوالدتهم، لكنها قالت لي إن الأطفال مرضى عقلياً. فأقلمت نفسي على ذلك. كانوا بعمر 18 عاماً، و16 عاماً، و14 عاماً و4 أعوام. حاولت أن أحتمل كل ذلك. كان هناك دعم من عاملة منزل كينية من خلال واتس آب».

عملت لمدة عام وتسعة شهور، وكانت صحتها تتدهور. «حاولت استخدام الخط الساخن، لكن الشرطة قاموا بالاتصال بصاحب عملي… ليس لديهم سلطة عليهم». كملجأ أخير، توقفت فرانسيسكا عن العمل وأصرت أن يأخذوها لوكالة التوظيف. «بقيت هناك شهرين آخرين. كان هناك الكثير من الشباب في المكتب. عاملات منزل هاربات ولديهن قصص أسوأ مما واجهت. كنا نجبر على النوم على الأرض. كان علينا أن ندفع قيمة طعامنا. كل ذلك فيما كانت الوكالة ترسلهم للعمل في منازل متعددة». أخيراً، بمساعدة منظمة أهلية، تمكنت بيرس من العودة إلى وطنها.   

ليديا، عملت في سكاكا في السعودية. تقول: «إذا كان هناك اغتصاب فليس بإمكانكِ الشكوى. لا أحد يستمع، لا أحد يتخذ أي إجراء حيال ذلك. إذا أصبحتِ حاملاً بسبب صاحب العمل، يتم ترحيلكِ بسرعة. لكن إن تمت الولادة في مركز الاحتجاز فهذا يعني أنك علقتِ، ولا يمكنكِ العودة. لا يُسجن أحد عقابا على الاغتصاب. حتى بوجود دليل الأبناء. إذا ما تعرضتِ للضرب، لا يؤخذ أي إجراء تجاه المعتدي. عندما لا يدفع لك أجركِ، لا إجراء يتخذ تجاه صاحب العمل. في نهاية الأمر، ليس لديكِ أي حقوق، سواء كنت في المنزل، أو في إدارة الهجرة، أو في مكتب التوظيف، أو في مركز الشرطة أو حتى السفارة. الجميع متعاونون لإجبار الناس على العمل وليس لمساعدتهم». 

معاملة مهينة وغير إنسانية، والعيش على الشاي والخبز 

منذ البداية، كانت تجربة إيفا مثقلة بعدم الاحترام والإهمال. «عندما اصطحبني صاحب العمل من المطار، كان أول ما فعل، أن خيرني بين إزالة ضفيرتي أو قص شعري». (كانت قد قامت بتظفير شعرها للتو قبل مغادرة كينيا). ظلت تقيم في غرفة للمخزن فيما تعمل في بيت كبير عدد أفراده 12 شخصاً. تقول: «كان عليّ أن أسرق الطعام لأتناوله في الخفاء. كانوا يعطوني الشاي والخبز». تردد صدى نفورها من ذلك لدى النساء الأخريات اللاتي كنَّ يعشن على الشاي والخبز. كانت محبوسة داخل المنزل وتتسلل إلى الشرفة إذا ما أرادت أن تلقى نظرة خاطفة على العالم الخارجي.   

كان على إيفا العمل في منزل صاحب العمل، وفي منزل والدته، وكذلك في المزرعة التي كانوا يملكونها في القرية. وبعد حوالي 7 شهور، مرضت، وأُخذت إلى المستشفى. «سألتهم الممرضة إن كانوا قد أعطوني الطعام، فكذبوا وقالوا: نعم. قالت الممرضة أنني لن أنجو بهذه الطريقة، لكن «ماما» ألقت الأدوية في سلة القمامة».

ولعدم قدرتها على العمل، ترجّت صاحب العمل الذي سمح لها أخيرا بالعودة إلى كينيا، بعد أن دفعت تذكرة سفر العودة وبدون أن تستلم جميع مستحقاتها. 

قالت ليديا (34 عاما) إن وكالة التوظيف سلمتها جواز سفرها وعقد العمل، لكنه أخذهما منها عندما وصلت إلى منزل صاحب العمل. لم تمكث هناك أكثر من شهر. 

«كان يسمح لي بالنوم لما بين 2-3 ساعات في الصباح. لا راحة على الإطلاق. يتم توظيفكِ للعمل في منزل واحد ثم يتم إرسالكِ إلى منازل والديهم، وأقاربهم الآخرين للعمل هناك أيضا. اضطررت للإضراب ورفض العمل. هم حقاً لا يحترمونكِ على الإطلاق. في اللحظة التي تجلسين فيها لتناول وجبة حقيقية، وهي في العادة مكونة من الشاي والخبز، ينادونكِ ليكلفوكِ بالمزيد من العمل».

عندما اشتكت، أرسلت الوكالة سائقاً ليأخذها إلى مكتب الوكالة حيث ظلت هناك شهرين. «لن يعيدونكِ إلى بلدك، بل سيجدون لك صاحب عمل آخر. حصل صاحب العمل السابق على صاحب عمل جديد واسترد ما دفعه. تمت معاملتي بشكل جيد في المنزل الثاني برغم أن العائلة كبيرة. بعد ذلك أصبحت المدام حاملا فساءت الأمور. كان عليَّ العمل من 9 صباحاً حتى منتصف الليل». بعد 11 شهر أرادت أن تغادر لكن تم «بيعها» لأحد السماسرة. 

«عندما لم يعيدوني إلى مكتب وكالة التوظيف أخبرت عائلتي. وكانت هناك امرأة تدعى فوزية، كانت تستخدمني للعمل بنظام الساعات. أسبوع هنا، يومان هناك… وقلت لها أنني لا أعتقد أن هذا التصرف قانوني، وأنها غريبة بالنسبة لي. حينها أدركتْ أنني ذكية فباعتني لبيت آخر. عملتُ هناك لمدة 10 شهور. كان في البيت 5 أفراد، لكنهم كانوا يجعلوني أعمل في منازل أخرى». 

بعد أن قضت نحو عامين في السعودية، كانت ليديا تبحث عن مخرج لها. تدهورت صحتها، وكان أصحاب العمل يترددون في أخذها إلى المستشفى. ولم يستجب كلٌّ من مكتب التوظيف أو السفارة لندائها بطلب المساعدة. 

«اخترت أن أهرب راكضة إلى الشرطة. عندما تهربي لا تأخذ مع شيئا، كي لا يتهموكِ بالسرقة. طلب مسؤول الشرطة مني إظهار إقامتي. كان لدي نسخة منها فقط. وكانت تفاصيل الكفيل الثاني وهويته مختلفين. تنقلت لمنازل كثيرة… أخبروني أن بصمات أصابعي مفقودة في النظام. فقام مسؤول الشرطة بالاتصال بمكتب التوظيف، فأخذوني إلى سكاكا. لكنهم لم يتمكنوا من التأكد من هويتي».

ظلت في مكتب التوظيف لمدة 7 شهور، من بينها ثلاثة شهور بلا عمل. رفض المكتب إطلاق سراحها لتذهب إلى السفارة.  

في نهاية الأمر، اتجهت ليديا لوسائل التواصل الاجتماعي.

«ذهبت إلى مكتب العمل أيضاً، كنت قد استنفدت صبري. كان مكتب التوظيف الفيصل للتوظيف يعاملنا بشكل سيئ جداً. كانوا يضربوننا عندما نرفض الذهاب للعمل في مكان آخر. قمت بكشفهم بالنشر عنهم في الفيسبوك. كنا 30 امرأة من دول مختلفة. حتى أولئك اللاتي انتهت عقود عملهن كانوا يجبرن على المواصلة».

وفي أثناء حديثها كانت تحاول أن تجد تبريراً للبيروقراطية. 

«ظلوا يقولون لي إن أوراقي لدى مكتب العمل، لكن عندما ذهبت إلى هناك لم أجدها. في أحد الأيام ذهبت إلى هناك والتقيت بقبطان أظهر تعاطفه. ساعدوني للحصول على تذكرة سفر والمغادرة. أحتفظ بكل وثائقي على هاتفي. لم أكن هاربة. أنا أعرف حقوقي، وليس الجميع كذلك. لكن بعد أن كشفت المكتب، حصلت نساء أخريات على المساعدة أيضاً. كان هناك الكثير من التعذيب النفسي، لكني كنت على استعداد لأحارب من أجل حقوقي. توقعت أن تأتي السفارة لمساعدتي، لكنهم لم يفعلوا ذلك. كان المكتب السعودي غاضباً لأنني كنت أنشر على النت. كما أن المكتب الكيني لا يزال غاضباً مني».

عرفت أنها دفعت ثمن نشاطها. «إذا كنت صريحاً، تصبح خطراً على هؤلاء الناس. تمت معاقبتي لأنني كنت صريحة. سُمح للبعض في المكتب بالمغادرة، وتم تأخيري. قبل ذلك، كنا في مركز احتجاز سكاكا لمدة شهر قبل أن أذهب إلى المكتب. أنت تحت رحمة الشرطة ومسؤولي العمل».

قد تموتين وأنتِ تعملين أو قد تموتين وأنتِ تحاولين الهرب. اختاري الثاني. 

الأخوّة بين الناجيات

في غرفة رطبة، سيئة الإضاءة في نيروبي، اجتمعت 12 امرأة. أربعٌ منهن يتمنين الذهاب إلى الخارج، بينما البقية كنّ منهكات بتجارب يرغبن بشدة لمشاركتها. النصائح كانت تتطاير في أجواء الغرفة بشكل مكثف وسريع، تصحبها ضحكات تهكمية.

«الصبر» 

من أجل ماذا؟ تسأل أخرى 

«للتأقلم مع كل الإساءات» 

«جهزي نفسك لليالي لا تذوقين فيها النوم» 

«لن يكون هناك طعام كافٍ» 

«تعوَّدي على الكثير من الشاي والخبز» 

«البندول سيكون طبيبكِ. لن يكون لك غيره، مهما بلغت درجة مرضك، حتى لو بلغ الأمر إحساسكِ بالاحتضار» 

أضحك ذلك الجميع بصوت عال.

«تقبّلي ألا يكون لديكِ فوط صحية» 

«وصابونتك الخاصة» 

«أو الزيت» 

«أو حتى مياه للشرب» 

بفضاضة تداخلت روث، التي قضت سنتين في حفر الباطن والدمام في السعودية، قائلة: «توقعي أنه عندما ينتهي عقدك، أنه لن يتم السماح لك بالمغادرة بسهولة».

بهدوء تتحدث فين، التي جمعت النساء معاً. «أنصح أن يكون لديكن تفكير إيجابي. فمهما كانت تجربتي سيئة، إلا أنني تعرفت على نساء أخريات كانت تجاربهن جيدة. كانت هناك قصص حفزتهن. قام أصحاب عمل بزيارة بعض الفتيات في كينيا. ليس الجميع سيئون كأصحاب أعمالنا». توقفت لتجمع أفكارها. «على الأقل 20% كانت لهن تجارب ناجحة، و80% لسن كذلك».

سألت بعض النساء، ما معنى التجربة الناجحة. «تحقيق ما كنت تتوقعين» قالتها بتردد وكأنها لا تريد قول المزيد. لكن، لم يكن لدى فين الكثير لمشاركته، لكنها استرسلت فيما بعد عندما غادرت النساء الغرفة، بعد أن التقطن الكثير من الصور الذاتية (سيلفي)، وقطعن الوعود لمزيد من الاجتماعات للقتال من أجل حقوقهن. 

بعض النساء في المجموعة، خصوصاً، اللاتي عدن من لبنان، شعرن بأنهن كنّ على الطريق الصحيح لتحقيق أهدافهن، لكن الكساد الاقتصادي، والجائحة كانا بمثابة ضربة غير متوقعة، وأجبرن على العودة دون أن تتاح مقابلتهن. 

تقول لوسي التي أمضت سنوات عديدة في لبنان «الجميع يجربون حظهم، لا يمكن أن تقول لأحد لا تذهب».

لكن روث تعارض بشدة الذهاب إلى السعودية إلا إذا كان لديهن أقارب هناك لمساعدتهن. «أخشى السعوديين بكل عظمة في جسدي. اذهبوا إلى أي مكان آخر، ولكن لا تذهبوا إلى هناك. فقد لا تعودون أبداً. هناك البعض محظوظات ربما، لكن الأغلبية تأتي بصمت. لقد نجوت لأتحدث عن أولئك الصامتين. وتختنق بغصة تمنعها من إكمال حديثها. (استمع)

ولروث طريقة فريدة في التعبير عن نفسها، فهي تكرر الجمل بإيقاع، تلتقط الحديث من أطراف الكلام عند بدء المناقشة، تكمل نواقص جمل الأخريات، وتسخر من الأسئلة المطروحة وكأنها تقول، «أليس الجواب واضحاً»، أو «كأن السؤال لم تعد له أهمية الآن».

مع مرور الساعة الأولى ودخول الساعة التالية في اللقاء، تصل مشاعرها إلى ذروتها. فمن مرحلة اللامبالاة إلى التردد في المشاركة، إلى الدموع الغاضبة التي تتخلل كلماتها القوية. 

«عملت لمدة 20 ساعة في اليوم، كان عليّ أن أتوسل إليهم للحصول على فوط صحية».

لم تذهب روث بغير استعداد، فقد قرأت العقد، وفهمت الشروط، وسألت الوكيل الأسئلة الصحيحة. «لكن عندما ذهبت إلى هناك، كنت أستلم أقل بكثير مما وُعدت، وكنت أتعرض لمعاملة سيئة جدا. أرسلوني إلى بيت عمة كفيلي أيضاً. كل ذلك من أجل 20000 شيلينغ كيني (170 دولاراً أمريكياً)، فيما كنت قد وُعدت بـ 1000 ريال سعودي (270 دولاراً أمريكياً). كان في ذلك ظلم كبير. لكني لم يكن بوسعي فعل شيء. لم أكن أعرف لغتهم. الذهاب إلى هناك سهل جداً، لكن الخروج من هناك والعودة صعب جداً».

تحدق طويلاً وبقوة في النساء الأربع اللاتي يأملن في السفر إلى الخارج، وتقول «تحلين بالصبر، بالهدوء. لا تنفتحن عليهم، احتفظن بأفكاركن. كنّ ذكيات، لا تتحدثن عن تفاصيلكن. اخفين هواتفكن، تواصلن مع أخواتكن على فيسبوك، وتواصلن مع الهاربات. دعن أصحاب العمل يتحدثون بحرية كي تعرفنهم أكثر مما يعرفونكن. تعلمن لغتهم، لكن ليس بالضرورة أن يعلموا ذلك، وبذلك تعرفن متى يتآمرون ضدكن».

  تسترجع الأيام التي قضتها في منزل الأسرة، بعين ساكنه لا ترمش وتحدق في الفتيات كأنها تتحداهن أن يذهبن برغم تحذيراتها. «ممكن أن تتخيلن أن تحبسن في المنزل لمدة شهور. ترين الشارع من النافذة فقط، ولا تخرجن مطلقاً. تتصلن في السفارة لكنها لا تساعد. تتصلن بمكتب وكالة التوظيف فيقولون إننا نجمع مجموعة بنات. فتهربن. كيف تهربن في بلد تقطع فيها رؤوس الناس؟ أريد أن أعود إلى بلدي، لن أنصح أحداً أبداً أن يذهب إلى السعودية. لا أريد لأي أحد أن يعاني كما حصل لي. 

 

«السعودية هي أكثر دولة ترسل جثثاً من بين الدول العربية. 40 جثة في 6 شهور. لما يعودون بأفواه مغلقة؟»

تحاول فين توجيه الحديث ليكون أكثر إيجابية، لكن تجربتها كانت مناقضة لذلك. وتقول: «إنَّ نُصح الأشخاص بعدم الذهاب ليس أمراً عادلاً لأننا لا يمكن أن نوفّر لهم العمل هنا. نستطيع مساعدتهم فقط بربطهم بالمجموعات. لقد بُليت بأسوأ تجربة. لكني حصلت على الدعم، أستطيع التحدث دون أن أبكي. استغرقني سنوات كي أعود إلى هنا. عندما كنت أعاني، قالت السفارة الكينية أنني لست مسجّلة لديهم. كان وضعي غير قانوني. لم تكن هناك أي إشارة إلى وكالة التوظيف. لكنني كنت هناك، وأنا كينية، لم يكن ذلك كافياً بالنسبة لهم».

وتسأل روث: «كيف يمكن القول إنهم لا يعرفون مكانكِ». لديهم بصمة العين الخاصة بك، ويعرفون من هو كفيلك، كل شي مسجل في النظام، كيف لا يمكنهم العثور عليك؟ إنهم يتلاعبون بنا. أميل للاعتقاد بأن المسؤولين الحكوميين متورطون في ذلك».

عادت تشيلسي من الرياض في نوفمبر الماضي. تقول: «حاولت التأقلم. إلى أين يمكنني الذهاب؟ كانوا يحتفظون بجواز سفري وبطاقة الإقامة. كما تعلم، هناك شيء يسمى الخبز، أكرهه كرهاً شديداً».

غمرت صوتها ضحكات متتالية. الجميع كانوا هناك. يتناولون الخبز والشاي، وفي نهاية الأمر لكل الوجبات. 

«عندما تخرج المدام والابن لتناول وجبات في الخارج يحضرون لي خبزاً. فآكله مع الماء لأن الثلاجة مقفلة. ذات يوم قلت: كفى، وعندما قالت لي أن أخرج الزبالة (القمامة) إلى الخارج، قلت هذه فرصتي الوحيدة، وبذلك، عندما خرجت، لم أعد. كنت هناك ستة شهور وحصلت على فرصتي. لم يكون لديَّ أي شي، حتى النعال الذي لبسته كان بفرده حمراء والأخرى زرقاء».

رآها سائق تاكسي واصطحبها إلى سيدة وعدت بالمساعدة، والتي أخذتها فيما بعد إلى منزل آخر. «كانت تلك السيدة طيبة جداً. دفعت لي أجراً جيدا وكانت تعاملني معاملة حسنة. فعملت هناك، لكن السيدة خشيت بعد ذلك أن يُعرف أمرها لأنني ليس لديّ أي وثائق. وبذلك ذهبت إلى السفارة. وأخبروني أن عليَّ أن أدفع 6000 ريال سعودي (1,600 دولار أمريكي) لأعود إلى بلدي. من أين سأحصل على هذا المال؟».

«ذهبت إلى الشرطة وأخبرتهم أنه ليس لديها أي وثائق، وأنه بإمكانهم فعل ما يرونه مناسباً، والذي كانت تأمله أن يكون إعادتها إلى بلادها، لكنهم قالوا لها: اذهبي وابحثي عن عمل، لن نقبض عليكِ. بعد ذلك عملت في منزل والدة شرطي مقابل مبلغ زهيد. ثم ذهبت إلى مركز الشرطة، وأخبرتهم أني أود العودة. سألني أحد الشرطة إن كنت حاملاً، ولماذا كنت أريد العودة».

أصرت تشيلسي على العودة إلى الوطن، وبذلك تم إرسالها إلى مركز احتجاز، ومن بعده إلى كينيا. 

قالت موجهة حديثها للغرفة: «ما أصبحنا ندركه، أن الشخص الذي يلتقطكِ من الشارع سيدفع لك أفضل من هؤلاء الذي يأخذونك من كينيا، أتعرف لماذا؟ لأنهم لم يشتروك ويصرفوا مبالغ من المال لذلك».

أبدت الأخريات موافقتهن مع ذلك. العاملة المقيمة تكون مربوطة مع أسرة واحدة. ويعتبر العيش معهم في بيتهم وكأنه وصفة لكارثة، وافقها الجميع على ذلك. كان لدى الجميع اسماً للعمل الجزئي – «عمل بالتجزئة»، و«للتأجير»، و«عامل مستقل» – وهو يبدوا أقل استغلال، كما يشعرن.

تقول روث: «شهر واحد في كل مرة هو الأفضل، عندما تكون مدة العقد عامين، فأنتِ تكونين عالقة، ويترككِ مكتب التوظيف. في بعض الأحيان أنتِ تعملين في مكان بعيد، وكأنكِ مُلقاة في الصحراء، لا يمكنكِ حتى الجري من أجل المساعدة. الجهل يقتلنا. صاحب العمل جاهل، العاملة جاهلة!».

الحديث يميل نحو آليات التكيف 

الغالبية قلن إن رمي القمامة يعطيهن الفرصة لمعرفة المكان الذي يعشن فيه، ومن يعيش على مقربة منهن، وأن يكنّ على استعداد عندما يضطررن للهروب. 

تقول فين إن الشخص الذي ساعدها قال لها أن تتظاهر بأنها مجنونة. «أن تتصرف كأنها مجنونة، تبكي بصوت عال، عدم القول باللغة السواحيلية «أعيدوني إلى كينيا» – كنت مستعدة لعمل أي شيء».

تقول تشيلسي: «حتى أنني صفعت ربة المنزل ذات مرة، سكبت عليّ الماء الحار، فكان عليّ أن أصفعها. وبعين منتفخة، وهي تبكي، أخذتني إلى مركز الشرطة. فقلت لهم، انظروا على بطني فهناك (حرق)، ماذا أفعل لها؟ ثم رفضت العودة معها إلى منزلها».

وبرغم من أن روث وقعت على وثيقة باللغة العربية، ولم تفهم ما فيها، قبل أن تغادر كينيا، لكنها رفضت أن تفعل ذلك في السعودية. «عندما كنا في مركز الشرطة (بعد هروبها من منزل صاحب العمل) أراد شرطي أن يجبروني على التوقيع على ورقة مكتوبة باللغة العربية، فرفضت. قال إنه سيضربني. فقلت له أفعل ما شئت لكنني لن أوقع. ربما كنت أوقّع على حكم إعدامي، من يدري!».

ثم أحضروا شخصاً يشرح لها أن الخطاب يتضمن أنه أُخذت إلى مركز الاحتجاز لأنها رفضت العمل، وأنه سوف يتم ترحيلها من هناك. 

«قلت لهم، ماذا فعلت حتى يتم وضعي في مركز الاحتجاز. هل سرقت؟ لقد أكملت مدة عقدي». لكن، مع ذلك، الأمر انتهي بها في مركز الاحتجاز مع عشرات من العاملات الكينيات. 

«حتى هناك، نظمنا مظاهرة لأن هناك الكثير من الكينيين. لم نصرخ أو نفعل أي شيء، ولكننا لم نأكل الطعام الذي يقدمونه لنا. أخفينا الفواكه والحليب وكنا نختبئ في الليل ونأكل، لكننا لم نمس الرز واللحم. سألنا كبير الشرطة لماذا نرفض أن نأكل. فأخبرناه أننا نريد العودة إلى كينيا».

ولأنها أخفت هاتفها، كان بإمكانها أن تتحدث ليلاً مع منظمات حقوق الإنسان في كينيا، والنشر على صفحات التواصل الاجتماعي عن المحنة التي يتعرضن لها.

كانت الشرطية هناك ترفض لمس العاملات الأفريقيات عندما يتم تفتيشهن، وأعطى ذلك النساء الفرصة لإخفاء هواتفهن.

«قال ضابط الشرطة، إنه ليس من المفترض أن يكون لديكِ جهاز هاتف، كيف تمكنت من ذلك؟ فأخبرتهم أن المرأة التي تقوم بالتفتيش كسولة. كانت تفتشنا هكذا – تتصرف بحذر شديد بلمس ذراعها وساقيها بطرف اصبعها. لقد أنقذتنا بعنصريتها. سألت الشرطي مرة أخرى، ماذا فعلت. ماذا سرقت؟ لقد أنهيت العقد فترة العقد وهي عامين وأريد العودة إلى بلدي. لماذا أنا محتجزة؟ وكنت على رحلة اليوم التالي؛ دفعت قيمة تذكرتي وسافرت إلى بلدي».

كانت روث تدّخر راتبها بإخفاء المال داخل صدريتها. لم يكن صاحب العمل يأخذهم دائما لمحل الصرافة لإرسال المال لعائلتها. «كنت أريد أن أذهب لإرسال المال إلى عائلتي، لأن تلك هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة المناطق المحيطة. لو قررت الهرب إلى أين سأذهب، وما الطريق الذي أسلكه؟ لكن عندما لم يأخذوني إلى الخارج أخفيت المال».

تنصح روث المبتدئين بإخفاء أموالهم، أما لوسي فتحذر من ذلك. «تعلمون أنه ليس مأموناً أن تخبون المال لديكم، سيقولون إنكم سرقتم المال. لا أنصح بذلك، فيه مخاطرة.»

هذا الحديث أدى إلى جولة جديدة من الأحاديث المضحكة المبكية والتي تناولت ما يحدث عندما يرسلن أموالهم إلى أسرهن في الوطن. 

«أنتِ ترسلين المال هنا، والناس يأكلونه هناك»

«أمي أكلت المال الذي حوّلته»

«زوجي أكل المال الذي حوّلته ووجد امرأة أخرى»

«أحياناً لا أريد أن أرد على مكالمات أطفالي، فهم يطلبون المال دائماً»

«تظن عائلتك أنكِ تصبحين ثرية بشكل أوتوماتيكي ما أن تطأ قدمك الطائرة، يفضل الناس الموت هناك على أن يُخدعوا من قبل أحبائهم».

«حتى لو طعنوني، فهم على الأقل يدفعون لي هناك. لكن بمجرد أن تذهب إلى الخارج، تصبح العلاقة مع عائلتك دائما تدور حول المال».

«أريد أن تعود ابنتي» – زبيدة

العائلات تعاني بسبب عدم اليقين

تعيش زبيدة في مبنى متهالك بالقرب من محطة القطار في ميرتيني، إحدى ضواحي ممباسا. وتشعر بالقلق الشديد على ابنتها منى (24 عاماً) العالقة في دبي التي يمنع صاحب عملها عودتها. 

منذ عامين، ذهبت منى إلى دبي ووُعدت براتب قدره 300,000 شيلينغ كيني. ولم يدفع لها راتب لمدة 5 شهور. وبرغم أن عائلة صاحب العمل ليست كبيرة، إلا أنهم يستقبلون زواراً بشكل دائم. تم تجديد تأشيرة إقامتها بدون موافقتها، والآن يطالبها صاحب العمل بتعويض ليسمح لها بالمغادرة. 

«هربت إلى مركز الشرطة، لكنهم أعادوها لصاحب العمل الذي قال إنه تحمل تكاليف تأشيرتها، لذا لم يسمح لها بالمغادرة. لجأت إلى الشرطة مرة أخرى بعد 4-5 شهور. وكانوا غاضبين جدا منها لأنها ذهبت إلى الشرطة. ولذلك فهم لا يدفعون الآن راتبها، وأحيانا لا يقدمون حتى الطعام لها».

عالقة بين المطرقة والسندان، عائلتها تطلب منها الانتظار وعدم الهروب مرة أخرى، خوفاً من أن تختفي أو تجد نفسها في المزيد من المشاكل. 

تتوسل زبيدة: «أريد أن تعود ابنتي»

هناك مناشدة أخرى من عباس عمر الذي يريد عودة زوجته إلى الوطن.

عمر عباس يعرض رسائل صوتية من زوجته اليائسه في جدة

في أوائل شهر مايو، في مكتب Haki Africa وهي منظمة غير حكومية في ممباسا، كان عمر ينتظر لفترة طويلة، منذ 8 صباحاً. ظل يقظاً هنا لعدد من الأيام، على أمل أن يأتي وكيل التوظيف الذي أرسل زوجته فاطمة (38 عاماً) إلى السعودية، ليتحدث معه. كانت فاطمة قد ذهب إلى جدة في يناير من هذا العام. 

أعيدت إلى وكيل التوظيف بعد شهرين، لكنها لم تتمكن من العودة إلى كينيا. «التزم يوسف (الوكيل) بإرسالها للعمل ووعد بمساعدتها في حال تعرضها للمشاكل. لكنه الآن لا يرد على مكالماتي».

جاء ذلك بعمر إلى المنظمة الأهلية Haki Africa، الناشطة في الدفاع عن الكينيين المحتجزين والعالقين ومساعدتهم في العودة. وقال مسؤول الحالات في المنظمة إن السبب في تأخر العودة هو رمضان.

يكرر عمر الاستماع لرسائل زوجته الصوتية. «الآن يقدمون الطعام لهن في وكالة التوظيف، مرة في اليوم، ولم يقدموا لهن شيئا في الأيام القليلة الأولى، فقط الماء. استمع، إنها تبكي في هذه الرسائل وتقول بأنها ستموت». عمر على استعداد لجمع المال لشراء تذكرة للعودة، ولكنه لا يفهم سبباً للتأخير. 

يقول مسؤول الحالات أن موظفي السفارة في دولة المقصد غير متعاونين. «فهم يروننا، للأسف، وكأننا أعداء لهم. يبقى الكينيون في مراكز الاحتجاز لفترات طويلة. أما السفارة فلا تبادر على الإطلاق. في أغلب الحالات يتم إهمال مطالبات الضحايا. أحيانا يقضون عاما في مراكز الاحتجاز. يبدو الحل أسرع مع الجنسيات الأخرى. يستغرق الأمر ما بين 4-5 شهور لإعادة العامل الكيني».

وكيل توظيف: «لا مصادرة لجواز السفر في السعودية»

في وقت لاحق بعد الظهر، ظهر وكيل التوظيف، يوسف. «لم أرد على مكالمته لأنه لم يعرف كيف يتحدث». كان يصرخ بغضب رافضاً النظر في عين عمر أثناء الحديث معه. 

«كانوا (العمال وعائلاتهم) لا يفهمون أن ليس من السهل المغادرة والعودة. هناك العديد من الإجراءات. هناك الكثير من المال الذي تم استثماره. نحن ندفع لكل شيء، التدريب، شهادة الميلاد، جوازات السفر».

يصر أن الأمور قد تغيرت على أرض الواقع في السعودية. «لا تصادر الجوازات الآن، تطبيق (مساند) غيّر كل شيء. فهو يتتبع جميع الأطراف. فالعمال، وأصحاب العمل ووكلاء التوظيف، جميعهم مسجلون في النظام قبل مغادرتهم أوطانهم. يجب أن يكون هذا مطبق في دول الخليج الأخرى للمشاكل هناك». مضيفاً أن قطر والإمارات تمنحان «حرية كبيرة» للنساء، والعاملات الكينيات يسئن استغلال هذه الحرية. 

ويصر على لوم العاملات على رفض التأقلم. «قبل مغادرتهن، نقول لهن، بأنهن لسن ذاهبات إلى عطلة. بل هن ذاهبات للعمل، فقط افعلن ذلك ومن ثم عدن إلى الوطن. لكنهن يردن العودة بسبب أشياء صغيرة».

يشير إلى عمر قائلاً: «حاولت اقناعها أن تواصل العمل. كيف يمكننا صرف كل هذه المبالغ ويعدن بهذه السرعة؟ بسبب أشياء صغيرة. طلبنا منها أن تغير عملها، لكنها تتعرض لضغوطات من زوجها الذي لا يريد أن يهتم بالأطفال».

كان الرجلان يتبادلان النظرات الغاضبة، عندما دخل ضابط الحالات لحل المشكلة والتحدث عن عودة فاطمة. 

لم ينته يوسف بعد. «إنها عملية طويلة ليتم الاتجار بالبشر… أعني للهجرة، كيف يمكنهم العودة بهذه السهولة؟ تعتقد النساء أنهن ذاهبات في رحلة ويودون العودة على الفور. نحتاج إلى أساليب عقابية لهن».

 

تم إعداد هذا التقرير بمساعدة بعض المنظمات في كينيا التي تعمل بشكل وثيق مع العمال المهاجرين الذين يعانون من محنة. تتوفر تفاصيل الاتصال الخاصة بهم على صفحة الموارد الخاصة بنا: https://www.migrant-rights.org/ar/resources/

القوانين من حيث المبدأ مقابل الممارسة وجميع الثغرات بينهما

القوانين من حيث المبدأ مقابل الممارسة وجميع الثغرات بينهما

تعتبر المملكة العربية السعودية أكبر بلد في آسيا الغربية بمساحة تصل إلى 2.15 مليون كيلومتر مربع، وتأتي في المرتبة 13 من حيث المساحة على مستوى العالم. ويصل عدد المهاجرين إلى ما يقارب 40% من إجمالي عدد السكان. ومن بين 11.5 مليون من عمال المنازل حول العالم، يوجد 27.4% في الدول العربية. ويوجد في السعودية أكبر عدد من عمالة المنازل بواقع 3.7 مليون شخص. 

ومع ذلك فإن هذه الفئة مستبعدة من حماية قانون العمل السعودي والإصلاحات الأخيرة. والتشريعات الوحيدة التي تنطبق على عمالة المنازل، هي:

ووفقاً لهذه اللوائح، فإن صاحب العمل ملزم بتوفير الطعام والرعاية الصحية المناسبة، ويحظر على صاحب العمل توظيف عاملة منزلية خارج المنزل الخاص به. ويحق للعامل الحصول على يوم إجازة مدفوع، وما لا يقل عن 9 ساعات راحة يوميا. وبموجب قانون مكافحة الاتجار بالبشر لعام 2009، لا يحق لصاحب العمل تهديد، أو الاحتيال، أو خداع العامل، أو استغلال ضعفه لإجباره على الموافقة بغرض الاعتداء الجنسي، أو العمل الجبري أو الاستعباد.  

تصنف مصادرة جواز السفر، سرقة الأجور، إجبار العامل على وظائف غير نظامية على أنها ممارسات ضمن مؤشرات الاتجار بالبشر، وذلك بحسب السكرتير العام للجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التابعة لهيئة حقوق الإنسان السعودية، محمد المصري. ومع ذلك، فإن هذه الممارسات متفشية ولا تخضع للرقابة، ولا يوجد سوي قليل من الأدلة على أن أصحاب العمل المسيئين قد تمت مساءلتهم تحت قانون مكافحة الاتجار بالبشر. وتشمل العقوبات، لمن تثبت تهمته، السجن لمدة لا تزيد عن 15 عاماً، أو بغرامة تصل إلى مليون ريال سعودي أو كليهما. 

لكن شهادات العاملات تظهر انتهاكات واسعة النطاق لهذه القوانين، وآليات غير كافية وغير فعّالة لمعالجة هذه القضايا. 

ويعتبر الوصول إلى العدالة مصدر قلق رئيسي، كما أوضح تقريرنا السابق. كما كان من المفترض أن يعالج نظام «مساند»، الذي تم تقديمه في 2014، بعض المشاكل التي تواجه العمال المهاجرين. إلا أنه – وبحسب ما خلص إليه تحليل سابق لـMR  من «أن «مساند»، وهو مبادرة سعودية تعنى بالمراحل الأخيرة من التوظيف – لا يصل ولا يستطيع عملياً، الوصول إلى أبعد من الوسطاء وأصحاب المصلحة الآخرين الذين يواجههم العمال المهاجرون وأصحاب العمل قبل أن يصلوا لوكالات التوظيف المسجلة في بلدانهم». 

وبرغم من أن الحكومات ووكالات التوظيف في دول الأصل لديها قدرة الدخول على النظام، إلا أنه يتيح فقط الوصول إلى السجلات لكنه لا يزيد المساءلة. «وتفتقر المنصة إلى وجود آلية لشكاوى العمال، ولتحويل النزاعات إلى نظام تسوية النزاعات القائم والضعيف أصلا بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية. وتظل إمكانية جعل موثوقية هذه السجلات قابلة للتنفيذ، صعبة، ولا يمكن للعمال الاستفادة منه، بمفردهم، بشكل واقعي».

من الناحية الفنية، يفترض أن يجعل النظام معرفة موقع عاملات المنازل أكثر سهولة، لكن، مع خضوع هذه العمالة للبيع بالباطن، وإجبارهم على العمل خارج منزل صاحب العمل الرئيسي، تظل عملية التتبّع مشكلة أيضا. 

* تم تغيير بعض الأسماء، وتم استخدام الاسم الأول فقط في بعض الحالات.