لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

[قصص من المنشأ] الصيّادون الهنود: مهارات عالية بلا تقدير

في 1 سبتمبر 2016

على مرمى حجر من المرفأ الوحيد في "موتام" يرتفع مبنى إسمنتيّ متواضع. وفي غرفة مضاءة منه، جيدة التهوية، متناثرة الأثاث، توجد خزانة متخمة بملفات الشكاوى المقدَّمة من الصيادين للمسؤولين، وتفاصيل رحلاتهم من "كانياكوماري" إلى السجن في إيران أو إحدى دول الخليج. وبعضها مقدَّم من صيادين تم احتجازهم بغية أن يفتديهم الكفيل.

جميع الرسائل الصادرة عن اتحاد "صياديّ جنوب آسيا" موحدة الصياغة في أسلوبها الرسمي ونظمها الإنشائي. مجموعة أوراق بحجم جواز سفر تحتوي تفاصيل شخصية ومرفقة ببيان الحالة.

السيناريو الأول: أُلقي القبض على الصيادين أثناء عبورهم الحدود وتم احتجازهم. زُوِّدت سفارتا الهند بتفاصيل القضية في كلٍّ من بلدَيّ التوظيف والاحتجاز، وطُلِب منها مساعدة الصيادين في تسديد الغرامة وضمان إطلاق سراحهم.

السيناريو الثاني: يبحر الصيادون أشهراً عدّة دون أن يدفع لهم الكفيل قيمة حصتهم من الصيد. بعد مضيّ ما يقارب الستة أشهر وأحياناً السنة، يرفض الصيّادون الذهاب إلى البحر ويطالبون بإعادتهم إلى أوطانهم. يمتنع الكفيل عن إصدار تراخيص المغادرة. طُلِبَت مساعدة السفارة لاستصدار التراخيص.

لدى كل عائلة من عائلات "موتام" قصّة ترويها، فيما تتوجّس العائلات التي تفتقد لقصة من كل اتصال هاتفيّ تتلقّاه من الخارج. والأسوأ أنّ أبناءها يتقمّصون قصص الآخرين ويروونها على أنها قصصهم عندما تنقطع أخبار رجالهم!

حتى الآن، عندما يبلغ الفتى الثامنة عشرة من العمر يتجه إلى إحدى وكالات السفر القليلة في "ناجريكويل"، المدينة الأقرب له؛ حيث يقدم وكيل السفر المحلي (الذي لا تقل أهميته عن أهمية القريب أو الصديق الذي سيؤمن لهم العمل في الخليج) المساعدة للراغبين بالهجرة في استصدار جواز السفر وتأمين الوثائق المطلوبة الهجرة.

آثار إعصار تسوناميّ

"لنا ساكونثالا"، عضوة الاتحاد الوطني لعمال المنازل التي تساعدنا بمقابلة العائلات في "موتام". تقول إن الكثير من الناس هنا ماتوا في كارثة تسونامي. "امتلأت الشطآن بنفايات البحر. ولم يخشَ العودة إلا القليل جداً من الصيادين، لذلك أقمنا دورات تدريب على الأعمال الشاطئيّة، ولكن فرص العمل رغم ذلك بقيت محدودة مما دفع الناس إلى الهجرة من جديد، خاصة مع انخفاض مستوى الصيد".

ولا يقتصر أثر تسونامي على "موتام"، فقد نال الإعصار من قرية "كادياباتينام" المجاورة، التي "لا يخلو بيت من بيوتها الـ 1500 بأسرها من فردٍ يعمل في بلدان الخليج العربي. حوالي 500 في قطر والبقية في السعودية".

لكنّ "الأب تشرشل" لا يرى أن أن هناك أثراً كبيراً لتسونامي على الهجرة. "تسونامي دفع الناس نحو اختيار طريقة بديلة للعيش فقط. فخلال السنوات العشرين الأخيرة، هاجر  2 أو 3 أفراد من كل عائلة. بينما قبل تلك الفترة، كان هناك 2 أو 2 مهاجرين من القرية. اعتاد الناس الاستثمار في البحر فقط، حتى أنهم كانوا سابقاً يسكنون إما على أراضي الكنيسة أو على أراضي الدولة، لكنّ تسونامي غيَّر هذه العادة ودفع الناس للاستثمار في البرّ أيضاً".

ويعتقد "الأب تشرشل" أن الأسباب والعوامل التي تشجع على الهجرة كثيرة ومتنوعة؛ إلا أن إهمال الحكومة الهندية هو العامل الأبرز في تزايد معدلات الهجرة.

"أرباح الصيادين هنا ضئيلة وغير كافية، بالكاد تكفي للإنفاق على تأمين قوت الأسرة. والأهم من ذلك أنه لا يوجد في ولاية "تاميل نادو" ما يكفي من مراكز التطعيم والمراسي. حتى المراكز التي تتوافر للصيادين لا توجد فيها الوسائل الضرورية مثل المرافئ والأحواض".

للأسف فهو الحال، مزرٍ وبائس رغم أن الصيد هو الدعامة الأساسية للمجتمع. إذ تعتبر مقاطعة "كانياكوماري" الثالثة من حيث عدد الصيادين في ولاية "تاميل نادو". "جميعهم صيادون نشطون هنا. بينما تتمتع كيرالا المجاورة بعدد أكبر من المرافيء والأرصفة رغم قلة عدد صياديها".

تضرب السياسة الهندية القائمة على الطائفية جذورها عميقاً في "تاميل نادو"، وتؤثر بشكل واضح على الصيادين خاصة.

"السياسة تتحكّم بالولاية. فالحكومة تلبي مطالب التكتل الاجتماعي (الطائفة) الذي يحظى بممثلين سياسيين عنه. يعود تاريخ آخر توظيف في قطاع الصناعة السمكية إلى عام 1962، عندما أُدخلت القوارب المُمَكْنَنَة (الميكانيكيّة). وحتى هذا التوظيف كان سببه انتماء وزير الثروة السمكية لتكتل الطائفة".

يوجد في مدينة "كانياكوماري" وحدها حوالي ثلاثمائة ألف صياد، يعمل هنا 100 ألف منهم، و50 ألفاً هاجروا. اتجه نصف المهاجرين تقريباً إلى منطقة الخليج العربي.

بالإضافة إلى ذلك، أدى الاعتماد الواسع على الصيد بالشباك الضخمة إلى استنفاد هائل للموارد السمكية. وبقيت مسألة الصيد بالشباك نقطة مثيرة للنزاع بين سريلانكا والهند، لم ينجح أي من الطرفين بحلها.

وطيلة عقود، اعتادت القوارب الهندية التي تعود ملكية معظمها لرجال أعمال "تاميل نادو" الأثرياء ذوي الارتباطات السياسية القوية، على انتهاك المياه الإقليمية في سريلانكا، ناهبةً قاع البحر، بشباك الجرّ الثقيلة.

مما حفز سريلانكا على التفكير بإصدار تراخيص محدودة العدد، رغبة منها بضبط الوضع وإبقاء الصيّادين تحت المراقبة، حسب ما تفيد الأسبوعية السريلانكية "ذا صنداي تايمز":

صرَّح وزير الثروة السمكية، "ماهيندا اماراويرا"، بأن وزير الدفاع هو صاحب فكرة هذا المقترح. "أثير الاقتراح كفكرة مجرّدة، وهي ليست بالضرورة سيئة. في الوقت الراهن توجد 2000 إلى 3000 سفينة صيد هندية في مياهنا. ونحن نهدف لتقليص عددها إلى حوالي 250 سفينة نصدر لها تراخيص رسمية. لكن يتعيّن علينا أولاً التحدث إلى شعبنا، وخاصة إلى اتحادات وجمعيات الصيادين. وفي حال موافقتهم سوف نضع الاقتراح موضع التنفيذ".

ويقول "الأب تشرشل": "لقد قضوا على منابع الصيد. أصدرت الحكومة قرارها بمنع الصيد الجائر بالشباك الكبيرة، لكن الصيّادين لم يرتدعوا بسبب عدم تأمين أي بديل لهم".

في قطر أيضاً، سُمح باستخدام السفن الميكانيكية المجهّزة للصيد في الأعماق. "عندما وقع خلل في أنابيب النفط، اشتروا الشباك والطّعوم (ما يُلقَى للسمك لاصطياده) وقدموا الإعانات لمواطنيهم من أجل اتباع أساليب صيد أخرى". يستطرد الأب مقارناً بين حكومة قطر والحكومة الهندية التي لم تقدم البديل: "بالتّالي فقد استمر الناس بالعمل وفقاً للأدوات المتوافرة بين أيديهم".

أكوام أوراق ولا عقود

الأسبوع الذي نزور به "موتام" هو نهاية الفترة التي يسميها التاميل "موداكو". وهي استراحة لمدة شهرين من أجل تجديد المخزون السمكيّ. يقول "بنجامين" بأن هذه هي شريعة البحر، التي لم تدركها بلدان الخليج إلا مؤخراً بعد شعورها بنضوب الموارد. وحدد ساحل كل دولة لنفسه فترة استراحة مختلفة عن الآخر.

بعض الصيادين في "موتام" يَهمُّ حالياً في المغادرة. تجدهم يتحدثون عن مكتب سفريات "مانكالام" بقدر ما يذكرون "الكفيل" أو "العربي".

يقع مكتب سفريات "مانكالام"، المضاء بأنوار ساطعة تناقض مظهره الخارجي، في الطابق الثاني من بناء رثٍّ مكونّ من أربعة طوابق عند تقاطع طرقات يعج بالمكاتب الحكومية. هناك تحدث إلينا "روبين"، الوكيل التنفيذي عن دور وكالة خدمة الزبائن لمساعدة الصيادين على الهجرة.

"عادةً يقوم الكابتن أو السائق الذي يعمل لصالح الكفيل، بإحضار تأشيرات السفر. وتختلف الترتيبات بين بلد وآخر، لكن الصيّادين يدفعون التكاليف مهما بلغت قيمتها. يُجرون أولاً الفحص الطبي الذي يكلف حوالي ألفي ريال سعودي؛ حيث يذهب 90% منهم إلى السعودية. أما المتجهون إلى قطر فيذهبون بتأشيرات سفر جاهزة. ويتوجب تصديق وختم تأشيرات المتجهين للسعودية والكويت قبيل السفر مباشرة من خلال وكالات مرخّصة في مومباي. ونحن نقدم يد العون في هذا المجال. ثم نقوم بحجز تذاكر السفر. أما في البحرين وعُمان فيتم الفحص الطبي قبل السفر".

لكل إجراء رسم. ويتراوح إجمالي تكلفة المعاملة ما بين 10 آلاف روبية لتغطية ثمن تذكرة الطائرة وحدها (حوالي 149 دولارا) كحد أدنى، أو 50 ألف روبية (750 دولارا) كحد أعلى يغطي تكاليف استصدار جميع الوثائق المطلوبة، ما عدا المبلغ الذي يُدفع للكابتن كرسم توظيف.

وفي جميع مراحل هذه العملية لا يُوجد ذكر لإبرام أي عقد. إنهم يعملون دون تحديد حدٍّ أدنى لأجورهم ولا استحقاقات نهاية الخدمة ولا عقد معترف به ولا أي نوع من الدعم المالي.

تُلِمّ "شايا" التي التقيناها في الجزء الأول من هذه الثلاثية بشؤون العمل في الخليج العربي حيث اشتغل زوجها لسنوات، في السعودية أولاً وفي قطر حالياً.

"يشجعهم الكفيل على عبور الحدود في البحار، ضامناً لهم تخليصهم من المآزق على حسابه. غير أنهم يجبرون على التسديد له لاحقاً! كما حدث عندما احتُجِز زوجي في إيران وأُطلق سراحه عام 2013، وترتّب عليه تسديد مبلغ 100 ألف روبية (1490 دولارا) لكفيله".

يحصل الصيادون على جزء واحد من صيدهم. "عادة ما يحصل الكابتن على حصتين من الصيد، ويأخذ الكفيل وباقي الصيادين حصة واحدة. وفي بعض الأحيان يأخذ الجزء الأكبر من الصيد ويتشارك الطاقم في ما تبقى".

ومن أجل وضع حدٍ للصيد المفرط، سمحت الإمارات العربية أولاً، ومن ثم بقية دول الخليج، للصيادين بالبقاء في المياه لمدة خمسة أيام فقط، مما خفَّض عدد أيام الصيد بشكل ملحوظ وعدد أيام الكسب في الوقت عينه. وخلال هذه الأيام الخمسة يُدفعون لتجريب حظهم عبر انتهاك الحدود!

"يعتمد الكفلاء في هذا القطاع من العمل على الصيادين اعتماداً كلياً. فلا يبرمون معهم عقود عمل خشية شحّ الصيد، وهذا ما لا يطيقون احتمال كلفته".

هذا هو الواقع الذي ينقله لنا "روبين" مؤكداً أن 90% من أعمال الكفلاء تعتمد على سواعد الصيادين الذين قدِموا إلى هذه البلاد بتأشيراتٍ أرسلها لهم أناس موثوقون بالنسبة لهم. "ونقدم نحن لهم المساعدة بالمعاملات. إذ يراجِع وكالتنا وحدها ما بين 40 إلى 50 صياداً في الشهر الواحد للحصول على التذاكر وإنجاز أوراق معاملاتهم اللازمة".

"يعود الكثيرون منهم وقد تعرضوا للغش". ولا يوجد عقد يستندون إليه في حماية حقوقهم.

أغلال الكفالة

لا نظام الهجرة الهندي يحمي الصيادين ولا قوانين العمل في دول التوظيف. لذلك يعمل الصيادون في بيئة مضطربة غير مستقرة، خاضعين لضيق أفق الحكومات وأهواء المصالح التجارية وأنواء التغيرات المناخية.

يُصنّف عمال المنازل في دول مجلس التعاون الخليجي على أنهم أولئك الذين يعملون لدى الأُسَر كطهاة وجلساء أطفال ومسنين، وسائقين، وبستانيين. والصيادون الذين يحملون تأشيرات بحّارة باتوا، نتيجة استثنائهم من رعاية قوانين العمل، يُعامَلون معاملة عمال المنازل!

يقول "الأب تشرشل": "مجتمع الصيادين في كانياكوماري مجبول بالمغامرات. هي تلك البحار العميقة التي يهاجر إليها الصيادون فقط، عبر العالم كله. وبمقدورهم البقاء خمسين يوماً في البحر. لذلك يرغب الجميع في هؤلاء الصيادين المهرة المغامرين، ويسعى الكفلاء العرب خلفهم".

"على أية حال، الكفلاء ليسوا بصيادين. هم يستثمرون في البحر وحسب معتمدين على تشغيل المهاجرين في الأعمال الخطرة، إنهم يبحثون عن "كابتن" قادر على تجميع طاقمه الخاص. فالكابتن هو الذي يتولى التواصل مع الكفيل المحتاج لصيادين، ثم ينشر إعلاناً في قريته، وبناءً عليه يدفع له كل صياد راغب بالعمل، حيثما كان، مبلغاً يتراوح بين 100 ألف و300 ألف روبيّة".

وعندما تسوء الأمور بين الكفيل والصيّادين يجد الأخيرون أنفسهم محكومين بنظام الكفالة، بقدرٍ محدود جداً من التغطية القانونية، هذا إن وُجدت أصلاً.

"لا يحتمل الصيادون البقاء هنا حال بلوغهم الثامنة عشرة من العمر وحصولهم على جواز السفر، ولا مجال للتردد أو التراجع في ظل استمرار لا اكتراث الحكومة الهندية بهم. وكذلك الحال في الخليج حيث العمل استعبادي، حتى ولو كانوا يعترفون بأهمية هؤلاء الصيادين".

يعيش الصيادون من الشراء بالدَّين المفتوح من الدكاكين ومحالّ البقالة المحلية نظراً لعدم استلامهم حصصهم مباشرة في أوقات محدّدة ومعلومة، ناهيك عن أن مقدار الحصّة بحد ذاته موضع جدل.

"سيعرفون كم يصطادون؛ إلا أنهم لا يعرفون مقدار حصة كل منهم. المقدار يحدده الكفيل منفرداً".

ويروي "الأب تشرشل" قصة الصيادين الثلاثة والستين الذين كانوا يعملون على متن 15 قارباً في منطقة الجبيل بالمملكة العربيّة السعودية. "كل القوارب ملكٌ لشركة الأمير الخالدي. لم يكونوا قد أخذوا حصتهم من الصيد طيلة سبعة أشهر. وفي الشهرين الأخيرين طالب الصيادون بالعودة إلى بلادهم. لكن الكفيل واجه الطلب بالرفض لأنه سيخضع للتحقيق في حال مغادرة هذا العدد الكبير من موظفيه المكفولين في وقت واحد، وسيُحرَم من استصدار تأشيرات لموظفين جدد. ورغم ذلك لم يدفع حصصهم المستحقة".

فوق كل هذا، تُصادر جوازات سفر الصيادين حال وصولهم إلى دول الخليج. وكل ما يحصلون عليه هو هوية بحّار. ولا يبقى ما يستند إليه هؤلاء البحارة الذين يقضون أشهراً طويلة من العزلة في عرض البحر بعيداً عن عائلاتهم، ما عدا الإيمان بالنجاة، رغم أن الإيمان ذاته ليس بمنأى عن المخاطر.

"الدين والإيمان أمران ملازمان للصيادين، إلا أنه محرم عليهم حمل أي رمز دالّ على ديانتهم المسيحية. تعتبر الحالة في قطر أفضل فيما يتعلق بالحريات الشخصية؛ حيث بإمكانهم ممارسة شعائرهم الدينية في حُرمة منازلهم. أما في السعودية فيتعرضون للمداهمات".

"لا يملكون في غربتهم وبعدهم عن عائلاتهم وخارج حاضنتهم الثقافية سوى الإيمان، وأنت تسلبهم إياه! الرموز تمكنهم من رؤية الله. ورغم حاجة اقتصادك لعملهم تحرمهم حق الحياة"!