حقول الأرز لا تبشّر بموسم وفير بعد أن ضرب الجفاف "غانيواتا". لقد تحوّلت مساحاتها الخضراء، بشكل ملحوظ، إلى مربعات متجاورة عبارة عن منازل قيد الإنجاز. بينما لم يتبقّ إلا القليل من البيوت الطينية. هناك قطعة أرض أقيمت عليه أساسات منزل فقط، وأخرى تظهر جدران منزلٍ كاملة عليها مع بعض الإضافات الأخرى، وهناك منزل يكاد ينتهي بناؤه. تجسّد هذه المنازل بشكل مرئيّ موجات المهاجرين، آمالهم وأحلامهم التي تحقّق بعضها أو انقطع بينما كثيرٌ منها قيد الإنجاز.
إلى جانب بلدتي "غانيواتا" و"ريديغاما" تُعتبر مدينة "كورونيغالا" واحدة من أكبر المدن المصدِّرة للمهاجرين في سريلانكا، ضمن الإقليم الشمالي الغربي الذي يضم 30 مدينة وبلدة. فمن أصل مائة شركة لتوريد القوى العاملة تتوزّع على كافة أرجاء الإقليم، يوجد ما يزيد عن العشرين منها في شارع سوق المدينة الرئيس، وتتوارى مكاتبها الفخمة داخل المباني الحديثة.
أحد هذه المكاتب يقع في سقف درجيْن مرتفعين داخل المبنى، وتتولّى فيه موظفاتٍ شابات متأنقات غرفة الاستقبال. وفيما تومض كاميرات المراقبة المعّلقة على جدرانها، تجيب الشابات على بعض الأسئلة. "نعم، يمكننا تزويدكم بالرجال مجاناً دون مقابل. لا نساء يتكلمن التاميلية. بلى، هناك مقابِل". يقرع جرس السماح بالدخول فتنتقل دُفّة الحديث إلى داخل غرفة المدير الأكثر فخامة والتي تتكدس فيها رزم الأوراق وجوازات السفر على سطح المكتب، إلى جانب شاشة تُظهر ما تلتقطه عدسات كاميرات المراقبة في الخارج.
ورغم لغة المدير الإنجليزية الركيكة؛ إلا أنه يوضِح تماماً شكَّه بالمقايضة.
"تعالي بطلب عمل لنتحدث"، هكذا دون أن يقيم وزناً لأبسط أخلاقيات التوظيف. ثم يستدرك بسرعة، ربما خوفاً من إضاعة صفقة محتملة. "تطلبين رجالاً سريلانكيين؟ لا تدفعين شيئاً. نساء؟ تدفعين 3000 دولار".
هذه هي اللاّزمة التي تسمعها مراراً وتكراراً "الرجال مجاناً، والنساء بمقابل". وهو الأمر الذي يعني أن الرجال السريلانكيين الراغبين في الهجرة يدفعون رسوماً باهظة من أجل العمل وخلال عملية توظيفهم. ولذلك لا يتعيّن على رب العمل دفع أي مبلغ لتوظيفهم، أو يدفع مبالغ زهيدة.
يرتفع الطلب على النساء السريلانكيّات بينما رغبة النساء في الهجرة آخذة في الانخفاض. وتزيد الحكومة بدورها من تعقيد أمور النساء اللواتي ما زلن راغبات بالعمل في الخارج. ولذلك أيضاً صار رائجاً إغراء النساء بالسفر بوسائل تلتفّ على القرارات والإجراءات الحكومية. لقد بات رب العمل يتكفل بكافة نفقات ورسوم توظيف العاملة المنزلية.
تشير "رانجيت سيسيراكومارا" العاملة في "CHRCD" إلى انخفاض عدد النساء المهاجرات بنسبة تزيد عن 13% من عدد الرجال المهاجرين. وقد يعود ذلك إلى السياسات الجديدة المتبعة وإلى التقارير الواردة عن حالات التعسّف وإساءة المعاملة. فالخادمة التي عادت والمسامير في جسدها هي من هذه المنطقة.
والآن يتولى الوكلاء، بهدف التحفيز، دفع "ما يصل إلى 320 ألف روبيه سريلانكية، في مخالفة لقوانين مجلس التوظيف في الخارج. بينما يتعين على أرباب العمل تخصيص 800 ألف روبية عن كل عاملة يريدون توظيفها".
حاجز أبوي
في العام 2013 قامت حكومة سريلانكا بإصدار قرار "بيان الوضع العائلي" والذي يلزم الأمهات اللواتي لديهن أطفال دون الخامسة باستصدار موافقة زوجها أو عائلتها عند رغبتها في السفر إلى العمل بالخارج.
وتعتقد "ديلشاني" أنّ هذا القرار يفتح مجالاً للفساد أثناء محاولة الالتفاف عليه؛ وذلك "حينما تحتاج النساء إلى أخذ تواقيع مخاتير القرى أو من يحتل مكانهم من مسؤولين. يسري مفعول القرار حتى على أمهات الأطفال المعاقين والمزارعات رغم عدم توافر فرص عمل بديلة لهنّ في القرية. الأنكى من ذلك، أنه عندما تقبض المرأة أجراً مسبقاً،وتنفقه الأسرة، تفقد الاستقلالية في اتخاذ القرار وتُجبَر إما على إعادة المبلغ كاملاً أو العمل حتى نهاية فترة العقد".
أما زميلها "تيتوس ويمالاسري" فتنتابه مشاعر متباينة حيال "بيان الوضع العائلي". ويقول: "فصل الأمهات عن أبنائهن عمل قاسٍ. لقد سبق لي أن عملت في التدريس وشاهدت معاناة أطفال النساء المهاجرات. لا يمكننا أن ننكر ذلك".
"لكننا صادفنا في ماغولبوكونا القريبة من كولومبو عدداً من الرجال الذين يجبرون نساءهم وأسرهم للهجرة ضدّ رغباتهن. وما إن يقبضوا رسوم توقيع عقد العمل حتّى يسارعوا بوضعها في جيوبهم والتمتّع بالحرّية وشرب الخمر واللهو، بينما يتعرّض الأطفال إلى الإهمال".
وفي الواقع، تبدو هذه القرارات الحكومية مجرّد إسعافات أوّليّة لمشاكل عميقة الجذور.
"الدولة هي المستفيد الأكبر من الهجرة. فكما نرى، لا يستطيع المهاجرون تحقيق أهدافهم حتى بعد مرور 10 إلى 15 عاماً، فيما تستمر الحكومة بتلقي التحويلات المالية من الخارج. الحكومة هي التي يقع على عاتقها مسؤولية رعاية الأطفال وضمان سلامتهم".
وتبلغ التحويلات المالية إلى سريلانكا 7.5 مليار دولار سنوياً، بما يعادل 65% من احتياطيّ العملات الأجنبية للبلاد.
وتذكر "ديلشاني" أن مراكز إصدار "بيان الوضع العائلي" تخصص 10 موظفين للسعودية وحدها، ورغم ذلك فمن الصعب أن تحصل على ردّ من المسؤولين في المملكة.
ويشير رئيس منظمة محامون بلا حدود، "سوجيوا لال داساناياكي"، إلى حصول تراجع طفيف في أعداد الأشخاص المغادرين للعمل في الخليج خلال عامي 2014 و2015، وذلك وفقاً لأحدث الإحصائيّات المتوافرة.
"في عام 2015، بلغ عدد المغادرين 263.307. بينما في عام 2014 وصل إلى 300.703. أي بما يمثل انخفاضاً بنسبة 12.4%".
ويعزو أسباب الانخفاض إلى مجموعة عوامل متضافرة. من الركود الاقتصادي في الخليج، مروراً بالتقارير الواردة عن الانتهاكات والتعسف في المعاملة، وصولاً إلى اشتراط الحصول على "بيان الوضع العائلي".
"انخفض عدد المغادِرات الإناث إلى 90.677 امرأة في عام 2015، مقارنة بـ 110.486 في عام 2014، أي بنسبة 17.9%. وفي المقابل انخفضت نسبة الذكور المغادرين بمقدار 9.2% فقط". أي من 190.217 مغادراً في عام 2014 إلى 172.630 في عام 2015. بينما انخفض عدد المغادرين إلى الشرق الأوسط بنسبة 13.5%".
ويقول إن "حوالي 57% منهم مصنفون كعمالة غير ماهرة وعمال منازل. 2.4% مصنفون كأصحاب مهن ومختصّين. وما يقارب 31.2% منهم مصنفون كعمال ماهرين".
ويلفت "سوجيوا" إلى أن نسبة 64.3% من أصل 242.431 هاجروا إلى الخليج في عام 2015 هم من الذكور. بما يعكس تغيراً ملحوظاً في التناسب بين المغادرين الذكور والمغادرات الإناث، حيث كان عدد النساء المهاجرات أكبر في السابق.
ما تزال قطر والمملكة العربية السعودية هما الدولتان الأكثر اجتذاباً للمهاجرين، من الجنسين.
عام 2014: 80480 إلى السعودية، قطر 84622، الكويت 43552، وإلى الإمارات 50347
عام 2015: 74910 إلى السعودية، قطر 65111، الكويت 38451، وإلى الإمارات 43601
ورغم الانخفاض الشامل في معدلات الهجرة، وكذلك انخفاض الجدوى من الوكالات، فقد أصدر مجلس التوظيف في الخارج تراخيص جديدة لـ 116 وكالة توظيف، إضافة إلى تجديد تراخيص 997 وكالة أخرى.
ومن اللاّفت في هذا الصّدد تراجع نسبة الاستعانة بخدمات وكالات التوظيف من قبل الرّاغبين في هجرة العمل خارج سريلانكا من 59% إلى 44%. ويؤكد "سوجيوا": "بات واضحاً أن العمال المهاجرين يستخدمون قنوات أخرى".
ويقول: "إنه تحدٍ كبير يبرز في وجه الحكومة. والسبب في ذلك يعود إلى الرغبة بالالتفاف على القرارات المعيقة مثل بيان الوضع العائلي"، على حد تعبيره.