"صرخت بأعلى صوت لكنه أغلق الباب ولم يسمع صوتي أحد. مرت 23 سنة على هذه الحادثة لكن لن أتمكن من محوها من ذاكرتي ما حييت"، تقول "إيمي"*.
مثل العديد من العاملات المنزليات، غادرت "إيمي" وهي في سن التاسعة عشرة قريتها في الفلبين متجهة إلى الكويت لتساعد أسرتها في تغطية الأعباء المالية. "كنت يافعة جدا، ولم أكن أدرك مدى خطورة العيش مع غرباء، حتى و لو كانوا أرباب العمل"، تقول "إيمي".
"كانت الأمور مختلفة تماما حينها، في 1993 كانت الكويت لا زالت تعاني مما تكبدته من أضرار بسبب الاجتياح العراقي وحرب الخليج. لم أكن أعرف أين أذهب ولمن ألجأ. مركز الشرطة اليوم يقع على مسافة خمس دقائق من المنزل، لكن في ذلك الوقت كنت سأحتاج نصف ساعة أو أكثر لأصل لأقرب مركز شرطة".
وكما هو الحال مع العديد من العاملات المنزليات، قصة "إيمي" تتضمن التعرض لتحرش جنسي؛ اعتداء تمكنت من الهروب منه لكنها لا تزال متأثرة بما حدث حتى يومنا هذا.
قامت "إيمي" بتزييف عمرها الحقيقي لكي تحصل على تصريح للعمل وسرعان ما عثرت على فرصة عمل مع أسرة كويتية. تقول: "كان يسكن في المنزل ثلاثة أبناء وبنتان، أما والدهم فقد كان متوفياً. كانت معاملة البنتين لي جيدة، و كان أحد الأولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة. أما "علي" ابن الـ 17 عاما، فقد كان مدمنا للمخدرات".
كانت "إيمي" تتقاضى 50 دينارا كويتيا في الشهر، أي ما يعادل 6000 بيزو (عملة الفلبين). لكنها تقول "غادرت الكويت ولم تكن لدي أي مدخرات لأحملها معي. كنت أقوم بإرسال 40 دينارا كويتيا إلى والدي في كل شهر. لم يكن المبلغ كبيرا، ولكنه ساعدنا في تلبية احتياجاتنا الأساسية. وكانت قيمته تساوي أكثر في الفلبين".
تصف الفتاة المنزل الكبير، والأوقات الممتعة التي كانت تقضيها مع عاملتين منزليتين من سري لانكا، وعلاقتها الجيدة مع بنتي صاحبة المنزل بالقول "كان كل شيء طبيعياً حتى حل ذلك اليوم الذي عرفت فيه سبب ما كان يجري، طريقته الغريبة في التحديق بي، وكيف كان ينظر لشعري دائما، لم أفهم أيا من هذه التصرفات إلى أن جاءت اللحظة التي هاجمني فيها".
كان يوماً عادياً قامت فيه بإنجاز المهام الروتينية كإعداد الطعام، وتنظيف المنزل، والاعتناء بالأخ الصغير المقعد، ثم الاسترخاء في ديوانية السيدات. تقول "إيمي" إن نظراته لم تُثِر شكوكها في البداية ولم تعر الموضوع اهتماما: "كان ينظر لي وعيناه ترتعشان. حينها لم أفكر كثيرا في الأمر فقد تزوجت أسرته من أبناء عمومهم؛ لذلك فقد اعتقدت أنه ورث نوع من الإعاقة أو ربما كان تحت تأثير المخدرات التي كان يتجرعها".
كانت ديوانية النساء تقع خارج المنزل من أجل الحفاظ على خصوصية الأسرة. وقد تم تخصيص مكان آخر للرجال، ومخزن في الجزء الخلفي من المنزل. جاء "علي" إلى ديوانية السيدات للمرة الأولى وأخذ ينادي باسم "إيمي" ثم طلب منها أن تحضر له أشرطة من المخزن. تقول "كان المخزن معزولا وكان الوصول إلى ذلك الطابق سيستغرق حوالي 15 خطوة".
وتضيف "ايمي" موضحة "بعد بضع لحظات دخل علي هناك". سألته "إيمي": "علي، أي أشرطة تريد؟". فلم يرد عليها. ظل ينظر إليها وعيناه المحمرتان ترتعشان، ثم أغلق الباب وراءه، وظل واقفا دون أن ينبس ببنت شفة.
"لم أكن أدري ماذا علي أن أفعل. حينها فقط أدركت أنه لم يكن يريد الأشرطة بل يريدني أنا". تختنق "ايمي" بالعبرة وتمتلئ عيناها بالدموع.
كانت الطاولة الحاجز الوحيد الذي يفصل بينهما. وبدأ "علي" بالتحرك اتجاهها. تقول "إيمي": "بدأ يطاردني وأنا احتمي بنفسي بالطاولة واتحرك حولها. لقد كان مشهدا شبيها بما يحصل في الأفلام! لبرهة بدأت تجول في خاطري فكرة القفز من النافذة في حال وجدت الباب مقفلا. ولكن من ألطاف الله أنه لم يقم بغلق الباب".
"لم أكن أدري ماذا علي أن أفعل. حينها فقط أدركت أنه لم يكن يريد الأشرطة بل يريدني أنا"
هربت "إيمي" إلى خارج الغرفة وبمجرد وصولها إلى الدرج تمكن من الإمساك بكتفها الأيمن بقوة حتى تمزق قميصها مما ترك خدوشا في عنقها وحتى الجزء العلوي من ذراعها اليمنى.
"لا أصدق أني تمكنت من إبعاده عني والركض على الدرج دون أن أسقط، بدأت أصرخ و أنادي أخته كالمجنونة".
كان "علي" لا يزال على مسافة من "إيمي" التي أخذت تطرق باب غرفة أخته، وبمجرد فتح الباب أصيبت الأخت بحيرة و ذهول شديدين بعد أن وقع نظرها على "إيمي" و هي تبكي . "چذّابة [كذابة باللهجة الكويتية] چذّابة"، كانت "إيمي" تنقل ما قاله "علي" حينها، "لن أنسى أبدا نبرة صوته وكيف كان يصرخ چذّابة! لقد صدقت شقيقته كلامي وأمرته بالخروج. ثم رجتني أن لا أخبر الشرطة. كان المنزل في الفروانية. كل شيء كان بعيدا. كيف كان بإمكاني الهروب أصلا".
وقعت محاولة الاعتداء هذه سنة 1995، بعد عامين من انتهاء عقد "إيمي". وبعد الحادثة اضطرت إلى البقاء لمدة أسبوع آخر حتى تمكنت العائلة من حجز تذكرة طيران لها للعودة إلى الفلبين. "لم أتمكن من النوم. وأحتفظت بسكين في جيبي و أخرى تحت وسادتي. كان هذا الأسبوع الأصعب في حياتي". "لقد حذرت العاملات الأخريات اللاتي يعملن معي، ونصحتهن بأن يلزمن الحذر ويغادرن في أقرب وقت ممكن. لا أدري حتى هذا اليوم ماذا حدث لهن".
"لن أنسى أبدا نبرة صوته و كيف كان يصرخ چذابة"!
حتى هذا اليوم، لا زالت تلك الحادثة محفورة في ذاكرة "إيمي". لم تشأ أن تخبر عائلتها لكي لا يقلقوا عليها. كما أن صاحبة المنزل وبناتها طلبن منها عدم إبلاغ الشرطة خشية أن يتم الزج بعلي فى السجن. لكن "إيمي" لم تكن مهتمة أصلا بالإبلاغ عن علي فكل ما أرادت الحصول عليه في ذلك الوقت هي تذكرة العودة إلى وطنها.
أخذت "إيمي" عهداً على نفسها بأن لا تعود أبداً إلى الكويت، لكن حاجتها لإعالة ابنتيها ووضعها المالي المتردي جعلها تضطر إلى مغادرة وطنها من جديد في عام 2006. كانت "إيمي" خائفة حينها. تقول: "وكأن الأمر أشبه بالخوف المرضي، لكن تغير الوضع في الكويت، حينها كان الوضع خطيراً بالفعل".
لقد عادت "إيمي" إلى الكويت واستطاعت أن تبني علاقة جيدة مع أصحاب عملها مما جعلها تشعر بالراحة. استغرق الأمر سنوات لتستجمع "إيمي" قواها و تقرر المضي قدما. ومع حاجتها الشديدة لدعم أسرتها استعادت رغبتها في مواصلة العمل وتحسين ظروف عيشها.
تضيف "إيمي": "لقد علمتني التجربة أنه لا يجب علي أن أثق أبدا بالغرباء. حتى يومنا هذا لازالت تراودني كوابيس بسبب هذه الحادثة. لكن علي أن أمضي إلى الأمام".
و تشير التقديرات إلى أن 56 في المائة من مجموع حالات الانتحار في الكويت في عام 2013 وحده ارتكبتها عاملات منازل. وفى الشهر الماضى قررت الفلبين وقف إرسال العمالة إلى الكويت إلى حين الكشف عن نتائج التحقيق في أسباب وفاة نحو ست عاملات فلبينيات مهاجرات. لقد كان العثور على جثة عاملة فلبينية فى ثلاجة داخل شقة غير مأهولة أحد أهم الأسباب التي أدت إلى قرار التجميد. وقد غادر أصحاب العمل الذين ارتكبوا الجريمة الكويت تاركين وراءهم لغز جريمة نكراء لم تحل رموزها إلى يومنا هذا.
تتساءل "إيمي" "مالذي يمكننا القيام به؟"، قبل أن تجيب "إذا كان الناس يعاملوننا كخادمات وليس كبشر، فلن يتغير أي شيء".
* تم تغيير الأسماء لأسباب متعلقة بالخصوصية.