لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

بعد الإساءات المبرحة، السيراليونيات يشهرن أسلحتهن

الصدمات الكهربائية والجوع يشعلان نشاط ضحايا الاتجار بالبشر

في 5 أكتوبر 2023

ترجمة: هناء بوحجي

عندما يستمعن إليك، فهذا لا يعني أنهن يثقن بك. حتى أولئك العائدات اللاتي يتحدثن عن بعض ما مررن به أثناء رحلة الاتجار بهن، يقلقن من نوايا المستمع لهن. ومع ذلك فهن يبقين ويتحدثن، وبعد مرور أشهر يبدأن بناء جسور من الثقة مع بعض مواطنيهم ويرون أنفسهم حافزاً للتغيير – وأنهن من سيمنعن تكرار ما حدث لهن أن يحدث لأخريات. تعمل مرياما بوندو مع أولئك اللاتي تمت المتاجرة بهن، وتساعهن على الانتقال من الصدمة إلى الثقة ومن ثم إلى المناصرة. 

مرياما بوندو خارج مكتبها

يقع مكتب بوندو الذي تستخدمه أيضا كمكان لمعيشتها، على حدود مدينة كامبيا، الواقعة على مقربة من غينيا. وفي حين تتخذ منظمتها نساء وفتيات ضد الهجرة غير النظامية (WAG-CAIM), موقعاً استراتيجياً، إلا أن المنطقة تحمل ذكريات بعيدة عن مرحلة أبسط وأكثر أملاً  في حياتها. بجوار المكتب يقع فندق ماريا على ضفاف نهر كولينتي.  عملت بوندو كمديرة في الفندق لسنوات عدة حتى تم إغراؤها بالالتحاق ببرنامج – عرض لوظيفة في استراليا. في اليوم الذي أجرت فيه المقابلة، كان هناك نشاطات كثيرة حول مكتبها. تشارك بوندو وفريقها في نشر الوعي فيما يتعلق بالديمقراطية والانتخابات بينما تستعد البلاد لخوض انتخاباتها العامة. كانت تتجول، وتصدر تعليماتها، ومقترحاتها هنا وهناك قبل أن تأخذ مكانها للتحدث عن رحلتها إلى الكويت. تم إخلاء الغرفة دون أن تطلب هي ذلك، وبدأت الدموع تنهمر بدون توقف – ومع كل سطر تنطقه تأخذ الدموع طابعاً أخر. غضب، إحباط، هم، خوف… لكنها لا تهتم في أي جزء من حديثها بإثارة الشفقة على وضعها. عانت من صنوف المتاعب من اتجار، واستغلال في العمل، والسجن، والوصف بالجنون، ففي خلال 5 سنوات تعرضت لأكثر مما قد يتعرض له البعض في حياته كلها.

في العام 2015، تمكنت من جمع 1500 دولار أمريكي للحصول على وظيفة في استراليا. لكن عندما وصلت إلى المطار في كوناكري بغينيا، أعطيت وثائق مكتوبة بلغة لم تفهمها. كانت متوجهة إلى الكويت، وليس لديها خيار سوى المضي في ذلك. 

عندما حطت الطائرة في الكويت، أُخذ منها جواز السفر وجميع أغراضها بما في ذلك هاتفها. أُلحقت بعمل يختلف عما كان الاتفاق عليه، وأُجبرت على النوم في الحمام. «عندما طلبت منهم إعادة جواز سفري، أخبروني أنهم اشتروني وأن عليّ فقط أن أعمل.» هربت بوندو، لكن وكالة التوظيف «باعتها إلى منزل تلو الآخر»، كما تقول. بعد انتهاء أربعة شهور من العمل في منازل مختلفة دون أن تحصل على أجرها مطلقاً، أجرت محاولة أخيرة للهرب. «كان أخ المدام جندي، وهددني بمسدس واراد اغتصابي، تركت كل شي وركضت، حتى نجحت في الوصول إلى المأوى الحكومي.»

تقول إن المأوى الذي تديره الهيئة العامة للقوى العاملة في منطقة جليب الشيوخ، بمثابة محطة استراحة قصيرة وصفتها بأنها «امتياز». حصلت بوندو فيه على الطعام، وعلى مكان للنوم. «لكن لم يفرج عني. كنت عالقة هناك، ولذلك بدأت دفاعي من الداخل. استعرت هاتف أحد الأشخاص هناك وبدأت أتواصل مع محطة الإذاعة في سيراليون وأخبرتهم عن محنتنا أنا وأخواتي في الكويت، وطالبت الحكومة بمساعدتنا. كان عددنا أكثر من 200 في نهاية 2015 وبداية 2016.»

 

ومع كل سطر تنطقه تأخذ الدموع طابعاً أخر. غضب، إحباط، هم، خوف… لكنها لا تهتم في أي جزء من حديثها بإثارة الشفقة على وضعها. عانت من صنوف المتاعب من اتجار، واستغلال في العمل، والسجن، والوصف بالجنون، ففي خلال 5 سنوات تعرضت لأكثر مما قد يتعرض له البعض في حياته كلها.

اليد الثقيلة لتنفيذ القانون في الكويت

أدى لفتها الانتباه إلى نفسها ووضعها إلى عواقب وخيمة. «تم أخذي من المأوى وإيداعي في السجن. لم أعرف حتى ما هو الخطأ الذي ارتكبته. أخبروني فقط أنني ارتكبت جريمة. أي جريمة؟ لم يكن لديهم إجابة على سؤالي. زارني مسئول السفارة مرة واحدة فقط. ومرة واحدة أيضا كان هناك جلسة في المحكمة.»

في سرد تجربتها في السجن تسترجع أسوأ مرحلة في حياتها، لكنها ترفض إنهاء المقابلة. «لم يكن هناك طعام، ولا ماء، عندما أنزف من الدورة، أُتركها تتدفق وبعدها يتم معاقبتي على الآثار التي يخلفها ذلك. كما نجبر على العمل، نغسل السيارات، حتى من أجل شرب الماء. أسوأ مافي الأمر أنهم كانوا يصعقونا بالكهرباء.»

تقول بوندو إنه تم نقلها مابين ثمانية سجون في مواقع مختلفة وفي اثنين منها تلقت الصدمات الكهربائية. «كان هناك جدار نجبر على لمسه، وعندما نفعل كنا نتلقى موجات الصعق في جسدنا كله. كان هذا عقابنا على البكاء والصراخ. هذه كانت طريقتهم للسيطرة علينا.»

في هذه السجون المكتظة حيث توضع 50 امرأة في غرفة صغيرة، كانت هناك نساء من اثيوبيا، والفلبين، وغانا، والهند والكثير من الجنسيات، وغالبتهن لا يعرفن سبب سجنهن، وأُخبرن فقط أن «لديك جريمة، ابق هنا، ومت هنا».

وتكرر أن المأوى، حيث قضت أول عدة شهور بعد هروبها من مكان عملها كان عبارة عن «امتياز». تتذكر بوندو قصتها بدون تسلسل زمني، وغالبا ما تربط مشاعر وتجربة معينة بمراحل من محنتها. «في الكويت، سترى أشخاص مختلفين، جالسين هناك ويبكون» – تقصد بـ«هناك» قاعة الوصول والمغادرة في المطار، الشوارع، المأوى، السجون، مكاتب التوظيف. أمضت نصف السنوات الثلاث التي قضتها في الكويت في سجون مختلفة، وستة شهور أخرى في المأوى، أما أطول فترة إقامة فقضتها في مركز التوقيف لمدة ثمانية أشهر. كل ذلك بسبب الإساءة التي تحملتها خلال الشهور الأولي التي عملت خلالها ولم تحصل على العدالة عندما بحثت عنها. 

حملت بوندو غضبها وسخطها معها إلى سيراليون، كوقود يؤجج ما عزمت عليه. «بدأت دفاعي في مطار لونغي. كنت خائفة من العودة إلى الوطن، لكنني كنت أرى فتيات يذهبن من هناك. كنت أقول للجميع «لا تذهبن للخليج» واعتقد الناس أنني مجنونة. لكن نحن أخوات ولدينا المعاناة نفسها. لا أستطيع الاستسلام.»

الآن، بعد مرور سنوات قليلة، أصبحت مناصرتها أكثر استراتيجية وأفضل تخطيطاً. تذهب مع فريقها إلى المدارس وإلى الأسواق في مدن مختلفة، تخبر الناس عن تجربتها، وتوعّي النساء الشابات. تتشارك القواسم المشتركة والتضامن مع لوسي.»

تشير إلى اتجاه الشمال في مكتبها قائلة «من السهل أن تعبر الحدود الغينية، وهي على بعد 10- 15 دقيقة من هنا، لكن الصعب هو ايقافهن خصوصاً عند الحدود عندما تكنّ قريبات من وقت المغادرة. لذلك تعلمت أن أتحدث معهن بطريقة منطقية.»

كل يوم تفتح بوندو جرحها النازف الذي لا يندمل أبداً، بأن تترك نفسها لضعفها وتشارك تجربتها من أجل أن تبطل بعض دورات الاستغلال. «يستخدم المتاجرون بالبشر الدراجات، وتجلس النساء وراءهم. تلبسن ملابس محلية وليس كأنهن على أهبة المغادرة… من سيعرف أنهم يتاجرون بكِ؟»

نقطة اللاعودة. بمجرد أن يعبر ضحايا الاتجار هذه النقطة، لن يكون هناك الكثير مما يمكن للمسؤولين والناشطين المحليين عمله

تتدخل في هذه اللحظة. «سأتصل بأختي – «تعالي، إلى أين أنتِ ذاهبة؟» ومن هنا يبدأ الحديث.» لكن ذلك يضع بوندو في مرمى تجار البشر. «ذات مرة اقتحموا مكتبي ودمروا كل شيء. عندما كنت في السوق آخر مرة سمعتهم يستفسرون عني، ومن أنا.»

بحسب لوسي وبوندو فالفساد منتشر، وبعض المسئولين عن إنفاذ القوانين في الغالب تحت سيطرة المتاجرين بالبشر، ليتظاهروا بالجهل في الوقت الذي يبدو واضحاً أن النساء يتعرضن للمتجرة بهن. ولإثبات ذلك هناك نقاط تفتيش كل كيلومتر، والشرطة لا يكترثون حتى بإخفاء طلبهم المال (رشوة) من المتاجرين لتمريرهم. 


«كان هناك جدار نجبر على لمسه، وعندما نفعل كنا نتلقى موجات الصعق في جسدنا كله. كان هذا عقابنا على البكاء والصراخ. هذه كانت طريقتهم للسيطرة علينا.»

تتفهم بوندو الإحباط الذي يصيب العائدات، وقد تعرضن للضرب والخيبة، وأصبحن أكثر فقراً مما كنّ عليه في السابق. ولأن ليس لديهن مهنة أو دعم لكسب معيشتهن، فهن عرضة للانسياق وراء برنامج آخر، إلى هجرة أخرى غير مدروسة. 

على سبيل المثال، يوجد في شبكة مناصرة العمال المنزليين (DoWAN) نحو 100 امرأة – من ضحايا الإتجار – استفدن من هذه المرافق ولايزلن كذلك. هذه النساء هن من يروين القصص الآن ويوعين أقرانهن، ويكافحن بنشاط، الاتجار بالبشر. ولتحويل قصة الفقر واليأس إلى أخرى من القدرة على التحمل والتعافي. لكنها ليست ممارسة مضمونة.

تقول لوسي توراي «عملت معنا جينيفر على توعية الناس، لكنها نفسها وقعت في الفخ وانتهي بها الأمر في عمان. بدأت تتصل بي، وتريد العودة. كانت محظوظة وتمكنا من ذلك، لكنه من الصعب جداً إعادتهم من هناك.»

أمضت لوسي 18 شهراً في لبنان، وعادت إلى سيراليون في منتصف 2020، وخلال السنوات الخمس الأخيرة عملت بما يعادل ما يمكن أن تفعله في عمرها كله. تتحدث لوسي بسرعة مرتبكة، تتعثر الكلمات في بعضها كلما أرادت أن تتحدث عن المزيد مما مرت به في تجربتها، وعن النساء اللاتي عملت معهن. 

تعتبر لوسي هي المتعلمة الوحيدة في عائلتها، وعملت كمعلمة. اتصل بها أحد المهربين من خلال عمتها وعرض عليها وظيفة مربية لدى عائلة في لبنان براتب قدره 500 دولار أمريكي في البداية على أن يُرفع إلى 1000 دولار فيما بعد. «كان ذلك المبلغ كبيراً بالنسبة لنا. كنت متحمسة جدا، جدا. كان عمر ابنى 3 سنوات، وابنتي لم تتجاوز الثلاثة شهور من عمرها. تركتها مع عمتي هنا. كان لدى زوجي وظيفة في ذلك الوقت فتمكنّا من توفير 400 دولار أمريكي دفعناها للرجل.» 

كانت عملية هجرتها بكاملها، سلسة – بل سلسة جدا، كما تتذكر.

«حسنا، هناك تواصل بين الشرطة وإدارة الهجرة لأنه عندما تذهب لاستلام الجواز، من المفترض أن يقوموا بإجراء مقابلة معك، لكن، وبسبب أن لهمم (المتاجرون بالبشر) اشخاص يعملون لصالحهم في إدارة الهجرة، فهم فقط يتصلون بهم ويخبرونهم بمجيء هذه المرأة وأنها «مسافرة من طرفي». والشيء نفسه يتكرر في كل خطوة. للفحص الطبي، ترخيص السفر، عند الحدود، كل ما علي المتاجرين هو القول أنها «مسافرة من طرفي»، ويحصل المسئولون على عمولتهم في مقابل ذلك. والأمر نفسه يتكرر مع الشرطة. الجميع متورط في عملية الإتجار بالبشر.»

محنة لوسي في لبنان مشابهة لما تمر به الآلاف في كل المنطقة. كانت الطريقة التي تصرفت بها حيال ما مرت به قد غير حياتها وحياة كثيرين غيرها. «توفيت العمة، وحطمني ذلك. كان عليّ العودة إلى بلدي من أجل طفلتي. لكن لم يسمح لي بذلك. ومن هنا بدأت معركتي.» إن قصة لوسي الناشطة في لبنان انتشرت على نطاق واسع، بما في ذلك رفضها الصريح للقنصل العام السيراليوني في بيروت التي لم يكن له دور فعال كمسئول، وكذلك الحملة التي نظمتها من أجل إعادة مواطنيها إلى وطنهم، وإدارتها لمأوى، بالإضافة إلى الأغنية التي كتبتها ولفتت بغنائها أنظار الكثيرين بمن فيهم رئيس بلادها. وخلال زيارته إلى لبنان، تمكنت لوسي من كسب لقاء معه ودعت إلى إعادة نحو 200 امرأة عالقة خلال فترة ذروة تفشي الجائحة. 

عندما صدرت أغنيتها، بفضل مساعدة صحفي فرنسي أصبح الآن صديقا مقربا لها، بدأت التبرعات تتدفق عليها. «مع الكثير من لفت الانتباه جاء الكثير من التبرعات. أنا فقيرة في بلدي. لكني أرى أننا يجب أن نستخدم هذا المال من أجل إنشاء بيت نخصصه للاهتمام بالأخرين لأنني أعرف ماذا يعني أن تكون في الشارع (بدون مأوى). قضيت أربعة أيام في الشارع عندما كان البرد قارساً في لبنان. أعتقد أنني كنت سأفقد حياتي. يجب ألا أقول شيئا عن حياة الشارع لأنني في كل مرة أتذكر الأمر سأشعر بالألم الشديد.» تسرد لوسي كل شي بصيغة الفعل الحاضر (المضارع)، كما لو أنه يحدث الآن، وعلى عكس بوندو التي تعبّر دموعها عن مشاعر كثيفة، فإن حزن وهمّ لوسي يظهر في لمعة تكسو عينيها، وكأنها تنأى بنفسها عن الذكريات التي تطوف في راسها. 

كان المأوى المؤقت الذي تشكل في لبنان بذرة لمأوى DoWAN الذي أنشئ فيما بعد في سيراليون.  على جانب الطريق السريع ماكيني، يقع مبنى متواضع به أربع غرف بمساحات مختلفة. ومطبخ يعمل بالحطب في المبنى الخارجي. هذا هو المركز الذي يوفر مكاناً آمناً للكثير من النساء من ضحايا الاتجار والناجيات – والانتقال بين مرحلتي الضحية والناجية نادرا ما يكون في خطوات محددة أو مباشرة. غالباً ما يتم تعريف أولئك اللاتي يتعرضن للاتجار على أنه البعض يكنّ في مرحلة التعافي، والبعض الآخر يصاب بالتبلّد جراء الصدمة، أما من يتعافون بشكل جيد فيتجهون لتوعية أقرانهن. إن كسب ثقة الضحايا والناجيات ليس سهلاً، لأنهن تعرضن للخيبة من قبل أقرب الناس لهن. كما أن العمل مع الرجال أكثر صعوبة. «أنهن لا يطلبن المساعدة. فرد الفعل لديهن يظهر في تعاطي المخدرات مثل إدمان الكحول والمخدرات أو أي شيء آخر، أو استخدام العنف مع شركائهم الحميمين. هنا في سيراليون، لو ذهبت لمعالج وشرحت له الأمر طلبا للمساعدة قد يقول عنك أفراد عائلتك أنك مجنون. وهذه وصمة عار كبيرة جدا، جدا، والآن حتى وإن كنت تقول شيئاً مهما فلن يستمعوا اليك. لن أقول إنني ذاهبة إلى جلسة للصحة العقلية وإنما عوضا عن ذلك، سأقول أنني ذاهبة إلى اجتماع…»

يقدم المركز تدريبات على كثير من المهارات – الحاسوب، الطبخ، الخياطة، جدل الشعر، والأهم من ذلك أنه يقدم المساعدة لأولئك اللاتي لازلن تحت تأثير الصدمة مما تعرضن له في الخارج. وبرغم أن كل هذا يمثل رؤية لوسي، إلا أن مشروعها الشغوفة به هو أن يكون لديها مزرعة. فهو بالنسبة لها علاج ومكاناً تهرب اليه. لدى لوسي (33 عاماً) التي أصبحت أمّا للكبير والصغير، مستوى عالٍ من الطاقة. فهي في لحظة تتفقد أطفالها في عمر المدارس الابتدائية، وفي اللحظة التالية تتفقد المؤن المخصصة لعدد لا يحصى ممن يمرون بالمركز، الذي لم يعد فقط مكاناً للعائدات وإنما لأولئك الذين يبحثون عن شذرة من الأمل وليس لديهم من يلجأون اليه. 

تعاني لوسي من التعرض لما يهيج استعادة ما مرت به، لقد بدأت مساعدة الناس في الوقت الذي لم تشفَ فيه تماما من صدمتها. «أنت تستمع لخمس قصص من خمس نساء، لكن لكل منهن، هذه هي قصتها الوحيدة. فأعاني خمس مرات مما يهيج ذكرياتي. لذلك أحب العمل في المزرعة. فهو المكان الذي أهرب اليه، أدرك أنني ما زلت ضحية…»

لوسي تتحدث عن الأرض وعن انتاج المحاصيل المختلفة

تدرك لوسي كضحية/ناجية، سبب تفشي الاتجار بالبشر، لكنها لاتزال ترى فرصاً موجودة للعمل والاستدامة. «بعد الحرب مباشرة، لم تكن هناك آلية لإعادة المتضررات، وتوفير العلاج، ولا يزال هذا واضحاً في المجتمع حتى الآن.»

وتشعر لوسي بذكائها الواضح في ملاحظاتها، أن تسهيل الحصول على التعليم، وطرق التعامل مع الجوع، من شأنه أن يقطع شوطا طويلا للوصول إلى جذور مشكلة الاتجار بالبشر. 

تتخذ لوسي قرية مابري – غير البعيدة عن مركزها وبيتها في ماكيني – كحالة للدراسة. «لا توجد مدارس في القرية. وعلى الأطفال أن يمشوا مسافة 10 كيلومترات للذهاب للمدرسة و10 كيلومترات أخرى للعودة على الطريق الرئيسي. لذلك فإن الصغار لا يذهبون إلى المدارس، وعندما يكبرون بما يكفي للاعتماد على أنفسهم في الذهاب إلى المدرسة، يصبحون قد تخلفوا عن الركب بشكل لا يمكن إصلاحه.» أما العائلات التي لاتزال ترغب في تعليم أبنائها، فتقوم بإرسالهم إلى أقاربهم المقيمين في مدن ومناطق أخرى، لتلقي تعليمهم هناك. وهو المكان الذي يصبح فيه الأطفال عرضة للاتجار بهم، إذ يُدفع الأطفال للتسول بعد أن يتم تعريضهم للإصابة بإعاقات، وكذلك لعمالة الأطفال. وتقول لوسي، أنه في الغالب لا يعرف الأهل الذين تحملوا كلفة إرسال أبنائهم إلى أقربائهم ما يوجهه الأبناء هناك. 

«وحتى إن علموا بالأمر فإنهم لا يقومون بأي تصرف حياله. هناك أيضا تعدد الزوجات، فالرجال لديهم 5-6 زوجات، والكثير من الأطفال الذين لا سبيل للاهتمام بهم جميعهم. البعض ينجبن 15 طفل، 10 أطفال، 12 طفل … لذلك فالمسئولية أكبر من القدرة على توفير الاهتمام لهم. فلو هرب الأطفال من هؤلاء الذين يسيئون التعامل معهم أو من المتاجرين بالبشر، يقوم الأهل بإعادتهم في مقابل كيس من الأرز كتعويض. وبسبب أن الجميع تربطهم ببعضهم صلة قرابة، فحتى لو كانت هناك قضية في المحكمة يتم اسقاطها دون أي اعتبار لما يحدث فيما بعد.» العلاقة بين المسئولين عن انفاذ القوانين وتجار البشر لا تقبل الشك. وتدرك لوسي مخاطر توليها هذا الامر. «أنا قلقة دائما بشأن سلامتي وسلامة أطفالي». إلا أن هذا القلق بدلا من أن يشل حركتها، يمدها بالمزيد من الأفكار، مثل نادي الأمهات (أنظر أدناه)

«ولذا فإن هؤلاء الأطفال الذين يتم جلبهم إلى المدينة لا يذهبون إلى المدرسة بل يتم إجبارهم على العمل في السوق – سوف يعملون تحت الشمس طوال اليوم ولن يكسبوا نظير ذلك حتى 10 دولار. هؤلاء هم من يتم استهدافهم للذهاب إلى الخارج.»

وكانت مابري، القرية التي تبنتها لوسي، إن جاز القول، قد خسرت عشرات من الأرواح بسبب تفشي داء الإيبولا والكوليرا. وتعتبر النظافة مشكلة كبيرة، كما هو الوصول للتعليم اللائق. وتولت الآن أمر توفير مرافق للمراحيض، ودفع الحكومة لإنشاء مدرسة قريبة من القرية. فهناك أكثر من 1000 مقيم في القرية، ولو تمكنت لوسي من تحقيق ذلك فهي تأمل في توسعة النموذج ليشمل قرى أخرى في مناطق أخرى. 

تتعرض العائدات خاليات الوفاض لوصمة عار كبيرة، لذلك يتم الاتجار مرة أخرى بالفتيات على أمل كسب ما يمكنهم من سداد الديون القائمة. ولا تنتهي الحلقة الفارغة. «حتى الشرطة كانوا يهددونا أحيانا، خصوصاً عندما نلح من أجل الملاحقة القضائية. سوف تتلقى مكالمة من مسئول يطلب منك إما أن تلغي القضية أو الاستعداد للمواجهة. مثل اليوم، عندما كنا على الطريق السريع، وجدنا الشرطة يطلبون منا المال. مالذي سيوقفهم من فعل الشيء نفسه مع المتاجرين بالبشر؟ بإمكانهم أخذ المال من أي أحد، وليس فقط المتاجرين. الأمر سهل جداً جداً.»

 

«أنت تستمع لخمس قصص من خمس نساء، لكن لكل منهن، هذه هي قصتها الوحيدة. فأعاني خمس مرات مما يهيج ذكرياتي. لذلك أحب العمل في المزرعة. فهو المكان الذي أهرب اليه، أدرك أنني ما زلت ضحية…»

بذرة وبرعم وطريق للخروج من الفقر المدقع

في أصل كل هذا تكمن المشكلة الأساسية، الجوع. «ففي سيراليون يواجه 70% من السكان مشكلة كبيرة في توفير الخبز اليومي. فهم يكسبون نحو 60 دولار شهرياً، بينما كيس الأرز يكلف 40 دولار… أترى! إنهم يعيشون في فقر مدقع، وسيفعلون أي شيء في مقابل الحصول على وجبة واحدة. أنهم يائسون وسوف يسمحون لأبنائهم أن يتخذوا قرارات محفوفة بالمخاطر. الكثير من الناس يتضورون جوعاً. ولذا لو جاءهم أحد وقال إنك ستكسب 200 دولار أمريكي، وبمبلغ 200 دولار ستفعل الكثير في سيراليون. حينها فقط ستقول العائلة أنه ربما يتم التضحية بالابنة، حسناً لكن إذا لم تمت فسننجو نحن جميعا مما نحن فيه.  لهذا السبب نحن نستهدف النساء، نادي الأمهات، لأن الأطفال سيستمعون اليهن. نناقش الكثير من خلال النادي، مشكلة الاتجار بالبشر، الجوع، وكيفية الحصول على وظيفة. الكثير من هؤلاء النساء هن أنفسهن ضحايا الاتجار بالبشر.»

تقع قرية مابري قبالة الطريق السريع ماكيني. وقبل دخولك القرية ستجد كوخ جمعية بوندو النسائية السرية، والغابة الممنوعة لجمعية بورو الذكورية السرية. في هذه الأماكن ينشئ الأعضاء الجمعيات. وهناك قدسية معينة لكيفية الإشارة لهذه الأماكن، بما يشير إلى القوة التي تمتلكها الجمعية. وتعقد اجتماعات نادي الأمهات في وسط القرية في مبنى مربع به درابزين وسقف. وتجتمع النساء والأطفال هنا بشكل منتظم. ذات يوم نظمت لوسي جولة للأعضاء وعائلاتهم، في المزرعة والقرية، خرج الجميع بكامل قوتهم. كان هناك موسيقى ورقص بشكل تقليدي لجمعية بوندو. 

أعضاء نادي الأمهات يعملون معًا بعد الحصاد

«قمنا بتقديم الدعم لهم (نادي الأمهات) بالشتلات» وهم دعمونا بالأرض. على مدار العامين الماضيين، تمكنا من تغطية أكثر من 100 فدان من الأرض – وهي أرض مملوكة للقرية، وتستخدم دائما لأغراض الزراعة لكن ليس بشكل رسمي، فالقرويين لم يحصلوا على أي دعم. والآن استطعنا أن تثبت لهم أن المشروع ليس مستدام فحسب وإنما مربح ايضاً. ويعتبر تزويد هذه العائلات بالغذاء هو الأولوية.» ويتم إعادة استثمار الأرباح في الأرض لدعم النساء من ضحايا الإتجار أو كدن أن يقعن فريسة للمتاجرين بالبشر. 

تم شراء أول 17 شتلة من الأرز بتمويل من التبرعات التي استلمتها لوسي عندما بدأت عمل المناصرة. وحالياً قاموا بإعارة 80 شتلة، كما يوجد لدينا 100 شتلة أخرى في التخزين. لكنهم لازالوا يعتمدون على الجرارات والكسارات المستأجرة. وتستخدم الأرض أساساً لزراعة الأرز، وأيضا الكاسافا (نوع من الخضروات)، والبطاطا والخضروات، وتقوم النساء ببيع المنتجات بأنفسهن في السوق. وكما توضح لوسي دورة الزراعة، فهناك تدفق مستمر من النساء والرجال بأدواتهم يسيرون إلى أراضيهم الواقعة إلى الأمام. إن رؤية تجاح نادي الأمهات، والأخرين يقومون بتقليد أساليبهم يثير فرحة لوسي. 

«Topia mamma Lucy» يسألون لوسي عن صحتها، فتجيبهم بسرعة واحداً واحداً – «Topia Fatmata» «Topia Sama» – مع الحذر من الدخول في حديث معهم. تقول ضاحكة «من لديه الوقت لحديث طويل!» وتضيف «هم يروننا نحن العائدون من الشرق الأوسط نعمل في المزرعة، ونكسب المال، وهذا يحفز الأخرين على فعل الشيء نفسه، وإن لم يكونوا معنا.»

وبعيد عن إعارة الشتلات بدون احتساب فائدة عليها، تتسلم الأمهات أيضا دعما للرعاية الصحية من أجل أطفالهن بسبب بقص المرافق في القرية. القرية خلية نشاط. يتم بناء المراحيض بأيد عمال محليين، وفي مكان آخر يتم تجهيز جوز النخيل لاستخراج الزيت منها، وأيضا في مكان آخر يتم خض الزيت يدوياً. نجاح لوسي الأكبر هو انخفاض الجوع بشكل كبير في المجتمع منذ القيام بهذه الأنشطة الزراعية. تقول لوسي إنه عندما يتعلق الأمر بالزراعة فقد تعلمت ذاتياً «لذلك عندما يكون لدي شغف بشيء ما، أبدأ بسؤال الناس وأبذل قصارى لأعرفه بشكل جيد.»

تعتبر المزرعة ومركز DoWAN امتداداً لبعضهما. تتنقل النساء بسهولة بين تعلم مهارة في المركز إلى العمل في الأرض عندما يتطلب الموسم ذلك. ويعتبر دعم المزرعة الكامل للمركز وأن يكون مستداماً ومكتفياً ذاتياً، هو هدف لوسي الأكبر «سوف أحقق ربحا من المزرعة وسأستخدم هذا الربح لرعاية وتمويل المنظمة.»

حنى عندما تقوم لوسي بتسخير قوة النساء في المجتمع، فإن ماكميد كامارا (ATJLF) يعلّق على النساء وعلى ضعفهن وقابليتهن للتعرض للإتجار بهن.  ويقول إنه في حين أن صوت الحركة النسائية ونساء سيراليون كان عالياً جداً وقدمن مساهمات هائلة في عمليات ما بعد الحرب، إلا أنهن لاتزال القوة التي يملكنها قليلة. 

«إن الحديث بصوت عال والدفاع عن حقوقهن شيء، لكن التحدي يكمن فيما إذا كان يتم الاستماع لهن واحترامهن. فيما يتعلق بالسياسات، هناك بعض التطور، لكن عندما يأتي الأمر للسلامة والكرامة على مستوى المجتمع، فلايزال هناك الكثير مما يجب عمله.»

نادي الامهات يؤدين فقرة احتفالية في ساحة القرية

 

"لذا دعونا ننسى الأشياء الصغيرة كالكلمات التي يستخدمها (أصحاب العمل) – مثل «القرود السوداء»، «رائحتك كريهة» «أنتِ لستِ إنساناً»، عندما يقصون شعرك ويجعلونك تستخدم أدوات مائدة منفصلة … كل هذا يؤثر على الصحة العقلية لعاملة المنزل، لكنها لا تعتبر مهمة. لا أحد يتكلم عن هذه الأشياء «الصغيرة». الجميع يتحدثون عن الأشياء الأكبر. ما لا يفهمه الناس هو أن هناك ربط بين هذه الإساءات اللفظية النمطية، وكيفية النظر لمن يقعون ضحية المتاجرة بهن.
"

عندما تجرم الصور النمطية، الضحايا

يعتبر فهم التسلسل الهرمي العرقي والتمييز الذي ابتلى به العمال المهاجرون في الخليج أمر بالغ الأهمية لتقوية سبل حمايتهم وإضعاف قبضة المتاجرين بالبشر على الضعفاء والهشين. تعتقد لوسي أن أغلب نقاط الضعف آتية من الصورة النمطية التي لا أساس كبير لها في الحقيقة، لكنها راسخة إلى درجة لا يمكن لأحد أن يشكك فيها. ويؤدي ذلك إلى سياسات وتدابير لمكافحة الإتجار بالبشر تكرر رواية ليست حقيقية بالكامل.

«لذا دعونا ننسى الأشياء الصغيرة كالكلمات التي يستخدمها (أصحاب العمل) – مثل «القرود السوداء»، «رائحتك كريهة» «أنتِ لستِ إنساناً»، عندما يقصون شعرك ويجعلونك تستخدم أدوات مائدة منفصلة… كل هذا يؤثر على الصحة العقلية  لعاملة المنزل، لكنها لا تعتبر مهمة. لا أحد يتكلم عن هذه الأشياء «الصغيرة». الجميع يتحدثون عن الأشياء الأكبر. ما لا يفهمه الناس هو أن هناك ربط بين هذه الإساءات اللفظية النمطية، وكيفية النظر لمن يقعون ضحية المتاجرة بهن.»

يصبح فيما بعد من السهل أن نعلق على هذه الإساءات الصغيرة اتهامات أكبر. المهاجرة الضعيفة تصبح، فيما بعد بغلا، وأيضا ضحية، لأنها تحتاج المال، وجواز سفرها في قبضة الكفيل، أو الوكيل أو المتاجر بالبشر.

تقول لوسي «مثلما يتحدث الناس عن عاملات المنزل الأفريقيات بأنهن يمارسن الدعارة. أو أن الأفريقيين هم تجار مخدرات. هذه ليست مشكلات مهمة في بلدنا. لا أحد يعرف كيف يصنع مخدرات هنا. أنه يُصنّع ويُستهلك في الدول المتقدمة. لكن عندما يقعون في قبضة القانون، لا أحد يلاحق  «المالك»، الشخص الذي يمتلك المخدرات. فهم فقط سينظرون للعامل المهاجر كتاجر مخدرات، أو عاهرة.»

تقول منسقة التحالف العالمي لمكافحة الاتجار بالنساء (GAATW) باندانا باتانيك إن هذا إجراماً قسرياً، وأن الحالات المحتملة لـ «الإجرام القسري» تتطلب حساسية ورعاية. «الأشخاص الذين يجبرون على ظروف معينة بسبب بوعود كاذبة، من الممكن أن يجبروا على القيام بأنشطة إجرامية من أجل البقاء. الآن هل ترونهم كمجرمين أم ضحايا الاتجار بالبشر؟»

 «البعض يُسالون أسئلة أكثر من آخرين في نقاط تفتيش الهجرة، ليس بناء على جنسياتهم وإنما ايضاً على لون بشرتهم، وعلى طريقة ملابسهم، وعلى جنسهم، وعمرهم… إلخ. مداهمات الشرطة تتم بشكل روتيني على المناطق التي يسكنها المهاجرين الفقراء. حتى في مجتمعات المهاجرين أنفسهم، هناك صورة نمطية لمجموعات لتكون أكثر احتمالا لتكون إجرامية أكثر من أخرى.»

تقول باتانيك في حديثها عن المعايير والممارسات الدولية، إن برتوكول باليمورو (بروتوكول منع، وقمع ومعاقبة المتاجرين بالأشخاص، خصوصا بالنساء والأطفال، المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة  عبر الوطنية UNTOC) لا يذكر الأجرام القسري بشكل صريح، ولا مبادئ عدم المعاقبة التي يجب تطبيقها عند التعامل مع المجرمين القسريين. «لكن هذه المشاكل تمت مناقشتها بالتفصيل في الكثير من تقارير الأبحاث خلال العقد الأخير.  وأوصى الفريق العامل التابع لمؤتمر الدول الأطراف UNTOC (2009، 2010) بضرورة الاعتراف بالإجرام القسري وأن يتم تطبيق مبدأ عدم العقوبة. الكثير من وكالات إنفاذ القانون بمن فيهم الانتربول اعترفوا بظاهرة الجريمة القسرية.»

على الرغم من أن الخطابات والسياسات المتعلقة بمكافحة الاتجار تشمل وبشكل متزايد، الضحايا والناجيات، إلا أن لوسي لا تثق في العملية. « أشعر أنهم يذهبون إلى هنام لعمل المقابلة – كيف تذهب، وكيف تأتي؟»

لقد تم تجاوز التفاصيل الدقيقة في القصة الحقيقية. «يريدون أن يعرفوا عن الاغتصاب، والإساءة الجسدية. في حين أن الصدمات اليومية لها ذات الأهمية. الأطفال يبصقون عليّ، المدام تناديني بالقردة… تتعرض لتجريدها من الإنسانية بشكل يومي.  مثل لو أعطاني والدي كوبا من الماء وقال أن هذا عقاب، فلن تعتبره عقاب. لكن إن كان عليك أن تمسك الكوب لساعات وساعات، فإن الضغط على ذراعك سيتحول إلى عقاب قاسي. الأمر نفسه مع هذه الأشياء «الصغيرة» اللاإنسانية. أنها تصيبك بالشلل. وعقلك يكف عن العمل.»