لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

مع ما ينطوي عليه من مخاطرة بالأرواح والأجساد: الإتجار بالبشر هو الشكل الوحيد لتوظيف السيراليونيين المتجهين إلى الخليج

في بداية تقريرنا المكون من جزأين، عن سيراليون، نستكشف كيف أن جيل ما بعد الحرب أكثر عرضة للاتجار والاستغلال

في 28 سبتمبر 2023

ترجمة: هناء بوحجي

إن كنت راغباً، فهناك «برنامج» لك، برنامج مصمم بشكل يتناسب مع أحلامك. ورغم الثمن الباهظ لهذا البرنامج، إلا أنه لا يصرف نظر الفقراء واليائسين، عنه. وتعتبر سيراليون من أفقر الدول في العالم حيث يعيش أكثر من 25% من سكانها بأقل من 1,9 دولار أمريكي في اليوم، وهناك تصور بين جيل الشباب أنه لا يوجد ما يبعث على الأمل بأي تحسن في الوضع في المدى القريب. كما أن هناك نقاط ضعف متراكمة   للنساء تحديداً حيث تكون 61% ممن هن في الفئة العمرية مابين 15 – 19 قد تعرضن لتشويه الأعضاء التناسلية «الختان» وترتفع النسبة إلى 95% لمن هن في الفئة العمرية مابين 54 – 49 عاما. واستغلالا لوضع انعدام الأمان هذا، فإن الرجال والنساء الذين يروجون لهذه البرامج، هم النسخة السيراليونية من ‘بائعي زيت الثعبان‘. فهم يكونون سلسلي التعامل، ومثابرين في اظهارهم للمساعدة حتى تصل إلى المطار في كوناكري وأكرا، وتتسلم وثائق مكتوبة بلغة أجنبية وأنت في طريقك إلى بلد ووظيفة لا تعرف سوى القليل، عنهما. إلا أن هؤلاء الوكلاء يختفون، وهم في الغالب يحملون أسماء مستعارة – جون أو ميري – ، فور صعود الشخص الذي يبتلع طعم الوظيفة المرتقبة، الطائرة. 

  يعتبر الوصول إلى سيراليون مهمة صعبة بالنسبة للقادمين من كثير الأماكن الواقعة خارج منطقة غرب أفريقيا – هناك رحلات جوية، وبحرية وباصات، جميعها وضعت تحت تصرفك لتصل اليها. ومع ذلك فإن المئات من النساء يخاطرن بحياتهم وأعضاء جسدهن – حرفيا، بالنسبة للبعض منهن – من أجل القيام بهذه الرحلة، وغالباً ما يعدن محملات بوصمة عار.  

ترتدي عليمة، بدلة رياضية مخملية صفراء اللون، وحذاء أبيض لامع، شعرها مجدول حديثاً، وتضع أظافر بلاستيكية طويلة ملونة، وتضم إلى صدرها حقيبة بيضاء صغيرة مقلدة عن ماركة لمصمم معرفة، طوال رحلة طويلة تأخذها من أديس أبابا إلى أكرا ومنها إلى لونغي. ولم تنفتح عليمة على من جنبها سوى مع اقتراب نهاية الجزء الأول من رحلتها، حينما بدت منها ابتسامة مترددة. كانت نقطة انطلاقتها دبي، وكان اليوم الذي يصادف عيد الفطر، طويلاً، وكانت حريصة للوصول إلى بلدها ليلتم شملها بابنها الفتي للاحتفال بالعيد. 

كانت تنظر في داخل حقيبتها بين وقت وآخر، فيما تقوم بترتيب ضفائرها مرة تلو الأخرى بينما تنظر إلى انعكاس صورتها على شاشة هاتفها ذات الخدوش. ثم تتصفح صور في هاتفها التقطت لابنها ذو السنوات الست خلال السنوات الماضية. لقد كبر اثناء غيابها، تتنهد. تخرج جوازها من حقيبتها وتتصفحه عدة مرات. إنها حريصة على الترويج لبلدها للزائر الذي يأتي للمرة الأولى، مؤكدة أن الطعام لذيذ المذاق، وأن الشواطئ جميلة. وفي المرة التالية التي تتصفح فيها جوازها تسمح بلمحة تكشف عن وجود ثلاثة أختام، الخروج من كوناكري (غينيا) والدخول والخروج من دبي. لا يوجد ملصقات للتأشيرة. تُخرج ورقة مطوية في شكل مستطيل لتتناسب وحجم حقيبتها وتتساءل: «هذه ورقة خروجي، هل تعتقد أنني ممنوعة من العودة؟ هل سأتمكن من العودة؟»

قبل أكثر من عامين، تركت عليمة بلدها في مارس 2021 بعد أن تلقت وعداً بالحصول على وظيفة عاملة نظافة في دبي. كانت تتذكر قصتها بمحطاتها. «في دبي ضغوطات كثيرة، لم أود أن أعمل كعاملة منزل، لكنها أخبروني أن عليّ أن أدفع المال للعودة». ولذلك أخذت الأمر على عاتقتها، وهربت من مكتب التوظيف وحصلت على وظائف غريبة، حتى أصبح الوضع أصعب من أن تتحمله. تقول: «أنا مسلمة» – تعتدل في جلستها لتصبح أكثر استقامة معبرة عن اعتزازها بهذا الجانب من هويتها – وتواصل «تحملت جماعة إسلامية أنا عضوة فيها، تكاليف تذكرتي للعودة إلى بلادي. وتواصل قلقها بشأن ما تحمله وثيقة الخروج (تصريح خروج رسمي للأشخاص الذين يتجاوزون فترة تأشيرتهم) المكتوبة بلغة لا تفهمها. وتعتبر عودتها إلى بلادها محطة عبور (ترانزيت) ريثما يظهر برنامجاً جذاباً في طريقها. 

«جُرحت ساقي، وبدأت بالانتفاخ، وكانت تؤلمني كثيراً. كنت أعمل بدون أن انتعل حذاءً أو البس القفازات، وأدت كل هذه المواد الكيماوية التي أستخدمها الى حدوث التهاب في ساقي كما أخبرني الطبيب فيما بعد»

قبل بضعة أشهر من عودة عليمة إلى بلاده، كانت موسو تقوم برحلة مشابهة. من دبي إلى الدوحة إلى أكرا ثم إلى فريتاون. لكنها عادة بأطراف مبتورة، ولازالت الغرز حول ركبتها اليسرى لم تلتئم بعد. ولتصل إلى منطقتها في ألين تاون، وهي منطقة مزدحمة في العاصمة فريتاون، عليها أن تترك الشارع المرصوف إلى مسار ترابي يصعب حتى على سيارات الدفع الرباعي السير فيه. وفي طريق مسدود ذو إطلالة ساحرة على شاطئ المحيط الأطلنطي يقع محل الخياطة الخاص بها. وعلى بعد خطوات من الطريق الترابي، تقع الغرفة الأمامية التي تضم ماكينتي خياطة قديمتين، من بقايا تجارتها التي كانت تزاولها قبل الذهاب إلى دبي، اهتلكتا بعد سنوات من عدم الاستخدام. توجد ستارة تفصل هذا المكان عن بقية المنزل الصغير الذي يفترض أن يضم طابقاً علوياً، إذ كانت الضوضاء تتسرب من الأعلى. كانت موسو تجلس على كرسي متحرك لايزال يحمل بطاقات عليها اسم شركة الطيران. 

في 2021، تواصلت موسو، من أجل توفير حياة أفضل لأخوتها، عبر الانترنت مع وكيل يبيع برامج لدبي بسعر 3000 دولار أمريكي. كانت صديقاتها في المدرسة قد حصلن على وظائف من خلاله وأعطينها أرقام التواصل معه. «وعدني بوظيفة خياطة، مثل ما أفعل هنا، لكن عندما وصلت إلى دبي، كان ينتظرني العمل كعاملة منزل.»

ومثل جواز عليمة، كان جواز موسو يحمل أربعة أختام. الخروج والدخول إلى فريتاون (12 أبريل 2023) والدخول والخروج من دبي. أُخذت إلى دبي بتأشيرة زيارة (أسيء استخدامها مراراً للاتجار بالأشخاص وإدخالهم الإمارات للتوظيف غير القانوني)، وتورطت بدفع غرامة ضخمة بسبب تجاوزها فترة التأشيرة، ومع ذلك كانت مترددة في العودة بدون كسب بعض المال على الأقل. عملت في وظائف غريبة، وأقامت في أماكن باستئجار سرير فقط في ديره عندما كان بإمكانها تحمّل الكلفة، فيما كانت تنام في المتنزهات عندما ينقصها المال. في نوفمبر 2022، حصلت على وظيفة كعاملة تنظيف في مطعم تديره سيدة نيجيرية. «عملت هناك لمدة شهرين، وحصلت على الطعام و700 درهم شهرياً. كنت أتدبر أمري حتى جُرحت ساقي، وبدأت بالانتفاخ، وكانت تؤلمني كثيراً. كنت أعمل بدون أن انتعل حذاءً أو البس القفازات، وأدت كل هذه المواد الكيماوية التي أستخدمها الى حدوث التهاب في ساقي كما أخبرني الطبيب فيما بعد».

وعندما تفاقم التهاب الجرح، وأصبح أسوأ وتنبعث منه رائحة كريهة، طُلب منها ألا تأتي إلى العمل، إلا أنها لم تتلق الرعاية الصحية للعناية بها. تقول موسو: «كنت خائفة جدا، لأنني لم أمتلك المال في ذلك الوقت، ولم تكن لدي تأشيرة، نمت في متنزه نايف، أخبرتني مديرتي في العمل ألا أستدعي سيارة الإسعاف لأنها كانت خائفة من الوقوع في مشاكل، لكنها لم تساعدني أيضا.» وفي هذه الأثناء قامت بتشغيل رسالة صوتية لمديرتها وهي تنذرها بعدم الذهاب إلى السلطات. وتواصل: «لكن عندما استمر النزيف، قمت بالاتصال بالإسعاف.  جاءوا مرتين إلى المتنزه لتضميد ساقي، وسألوني عن وثائقي للذهاب إلى المستشفى، لكن لم يكن لدي أي شيء.»

Musu in a blue dress, is holding a crush and sitting in a wheel chair.

عادت موسو من دبي، مبتورة الأطراف بدون أي تعويض. كلا صاحب العمل ووكيل التوظيف، لم ييساعداها في العودة إلى وطنها. إن كنت ترغب في المساعدة لإعادة تأهيلها، لطفاً، تبرع هنا مع ذكر موسو او Musu . ستستخدم العائادات في علاجها الطبيعي ولمساعدتها في إعادة تأسيس عملها كخياطة.

 

انتبه بعض السيراليونيين إلى محنتها، فأخذوها إلى مستشفى البراحة في أواخر يونيو. وتتذكر موسو تاريخ بتر ساقها – 3 مارس 2023 – إلى أن تسلسل بقية ما حدث لها في تلك الفترة، لم يكن واضحاً. طُلب منها دفع 6700 درهم إمارتي (1820 دولار أمريكي) للعلاج، ولكنها لم تتمكن من ذلك. «لم يكن لدي سجل أو وثائق طبية ماعدا بعض الصور من المستشفى (وهي ما كانت تعرضها في هاتفها). أخبروني أنه لا يمكن اعطائي سجلي الطبي إذا لم أدفع، لكن كان بإمكاني المغادرة. سمح لي بعض أخوتي وأخواتي السيراليونيين بالبقاء معهم، كما قام رجل أمريكي بإهدائي الكرسي المتحرك عندما اطلع على وضعي.»

ولم يتصل أحد من الشرطة للتحقيق في وضعها، سواء عندما جاءت سيارة الإسعاف لمساعدتها، أو عندما دخلت المستشفى. تمكنت فيما بعد من جمع ما يكفي من المال لشراء تذكرة السفر، وذهبت لإدارة الهجرة من أجل العودة للوطن. وتزعم أنه برغم من اتصالها بسفارة سيراليون، إلا أنها لم تمد لها يد المساعدة. وبعد حوالي شهر من بتر ساقها، وصلت موسو إلى فريتاون. كانت حركتها مقيدة بدرجة بكبيرة، بسبب افتقارها للعلاج الطبيعي من جهة، وبسبب أن بيتها غير مجهز لاستخدام الكرسي المتحرك. تنظر بإعجاب إلى ماكينة خياطتها المعتمدة على دواسة القدم، وتقول: «بإمكاني الاعتناء بنفسي، لكنني احتاج ماكينة أخرى، وليس لدي المال لذلك.» كانت موسو تتحدث بصوت خفيض، وتبدو متعبة جداً، وتتألم كثيراً إلى درجة لا يمكن سماعها. كانت أمها تجلس، باكية، على كرسي بدون مسند في زاوية الغرفة. كان شقيقيها عبدول (20 عاما) قلقاً، ويغتنم أية فرصة ليشارك براية في الحديث الدائر. ولم يرتدع مما تعرضت له شقيقته، فهو لايزال يخطط للسفر، «كنت أتمنى أن أسافر للخارج أيضا، من المفترض أن تبعث شقيقتي المال من أجل برنامجي لتساعدني».

تعتقد أسماء كبارا، الصحافية الاذاعية، والمدافعة عن حقوق المرأة، بوجود درجة من العناد التي تدفع النساء والرجال للوقوع في المشاكل، فهم يسافرون برغم وجود الأدلة على الإتجار بالبشر. «إنهم يعتقدون أنهم لن يتمكنوا من النجاة من أوضاعهم إلى في بلدان أخرى. فهم يودون أن يركبوا الطائرة ويسافرون. يؤكد على هذا الاتجاه، رؤية الشابات في المطارات.»

وتقول إن كل ما يحتاجه الأمر، وجود «محتالين» هنا، ليستغلوا هذه الرغبة والطموح. «يذهبون عبر غينيا، لأنه قد يتم ايقافهم هنا. تحتفظ الفتيات بالأمر سراً. لست متأكدة إن كانت الحكومة تتخذ إجراءات كافية لإيقاف ذلك. عندما تكون هناك مشكلة، ربما، فهم فقط يتفاعلون مع المشاكل».

 

«إذا استطعت جلب 10 اشخاص أخرين ممن قاموا بالتسجيل لهذا البرنامج، بعدها ستدفع مبلغ أقل من هؤلاء الأشخاص.»

المخطط الهرمي

مهما كانت النية، فإن هذه البرامج تحقق أهدافها. تقول كاتي ميلازو من منظمة أمل العالم الدولية (WHI) وهي منظمة إغاثة وتنمية مسيحية تعمل مع المجتمعات الضعيفة والمستغلة، إن البرامج في أغلبها مخطط هرمي، وهناك الكثير من نقاط الضعف في النظام السياسي ما يمكن الاستفادة منه، وبعض السياسيين يستفيدون من ذلك سواء أنشأوا هذا النظام أم لا. 

«هناك من يأتي إلى المدرسة الثانوية قائلاً «مرحبا، بإمكاننا أن نبعثك، كما تعرف إلى أمريكا أو إلى أي مكان آخر. ادفع الرسوم، واجلب بطاقة هويتك، وأخبرنا باسم أهلك، وعنوانك، المعلومات الأساسية‘». لكن الأمر لا ينتهي هنا ويأخذ البرنامج منعطفاً جديداً عندما يقوم هؤلاء المؤجرون من قبل المتاجرون بالبشر، بإغواء النساء الشابات بشكل أعمق. «إذا استطعت جلب 10 اشخاص أخرين ممن قاموا بالتسجيل لهذا البرنامج، بعدها ستدفع مبلغ أقل من هؤلاء الأشخاص.»

يتمكن هؤلاء المشبوهون من الوصول للمدارس بإبراز بطاقات هوية والادعاء أنهم آتون من السفارة الأمريكية، أو أي من المنظمات الرسمية المحيطة. انهم يبيعون الحلم، والمغامرة الرائعة التي ستغير حياتك إلى الأفضل. لكن يتم أخذ هؤلاء الشابات والشباب إلى أماكن خارج حدود سيراليون ويُتركون هناك لإعالة أنفسهم. والآن تجاوز الأمر تركهم في مالي أو موريتانيا إلى أن وصل إلى الخليج.

تقول كاتي، إنه تم ضبط أحد العصابات قبل شهور قليلة. فقد كان رجلا من شرق أفريقيا يتحدث بلكنة وسلوك سيراليونيين مزورين، يبيع برامجاً. «قمنا بإرسال أحداً للتسجيل للبرنامج وتصوير فيديو لكل شيء، لنفعهم ما يحدث. بدأ الأمر بأنه مغامرة رائعة، سوف تتغير حياتك، سوف تذهب إلى أمريكا أو إلى دبي. كانت الفتاة (17 عاما) على وشك الدخول في كلية التمريض. لكنهم أخبروها أنها ستعمل ممرضة في دبي. وكانوا على علم أنها لم تبلغ السن القانونية. وتظاهرت امرأة أخرى بأنها والدتها. تركوها لتبقى معها بعض الوقت، ثم طلبوا منها المغادرة للمحافظة على خصوصية الآخرين، وبذلك تم فصلهما. ومع كل مرحلة من مراحل المقابلة كانت تقترب من مقابلة الشخص الرئيسي. وهكذا عرفنا أن الرجل الذي هو وراء الجرائم المنظمة، من شرق أفريقيا.»

قامت منظمة أمل العالم الدولية بأخذ هذه المعلومات إلى الحكومة، وتم ضبط العصابة. ثم واجهوا تحديا آخر. «بعد ذلك، واجهنا مشكلة التمييز بين الضحية والوسيط في هذه الحالة. ولكن في الحقيقة فإن كثير من الوسطاء هم ضحايا أيضاً. كانوا في هذا الوضع بعد أن خُيروا إما بدفع هذه الرسوم، أو أنك معنا الآن وعليك مساعدتنا في توظيف كل هؤلاء الأشخاص الآخرين.»

تقول أس آر ميريام، زميلة كاتي، إن هؤلاء الأشخاص الذين يسمون أنفسهم وكلاء، يذهبون للمجتمعات الضعيفة حيث يدير الناس أعمالاً صغيرة، لأن عليهم توفير المال للدفع. «يعتبر البرنامج وسيلة للخروج من سيراليون، فأنت لا تعرف حتى إلى أين أنت ذاهب حتى تستكمل الدفع وتصل إلى المطار». وصدمتك تكون كبيرة عندما تعرف أنك لست ذاهباً إلى كندا أو استراليا كما وُعدت وإنما إلى السعودية أو الكويت. عندها يكون قد فات أوان التراجع. 

وحتى خطط مكافحة الاتجار بالبشر، تحولت، وبسرعة إلى فرص للإتجار بالبشر. على سبيل المثال، تعطي المنظمة الدولية للهجرة، مساعدات لهؤلاء الذين تعرضوا للاتجار وتام تهريبهم إلى مالي أو بلدان أخرى، للعودة إلى بلدانهم. لذلك يقوم المتاجرين بالبشر بتركهم في هذه الدول التي تقدم فيها هذه المساعدات. وفي الغالب يكنّ أمهات شابات أو أطفال. سوف يذهبن إلى هناك ويبدأن في التسول. ومن بعدها سيتجهون إلى المنظمة الدولية للهجرة للحصول على ما تقدمه لهم وهو عبارة عن 1000 دولار أمريكي، التي يذهب جزء منها إلى المُتاجر نفسه. وتقول ميريام إن المنظمة على علم بهذه الحيلة، وقامت بمحاولات للتأكد من أن المحتاجين المؤهلين فقط يحصلون على المساعدة التي يستحقونها. 

وفيما يتعلق بالإتجار بالأشخاص، خصوصاً حالة السيراليونيين الذين يتم الإتجار بهم عبر البحر إلى أكرا، كما ذكرت تقارير MR  سابقا تؤكد أسماء أن الفساد المنتشر بين خفر السواحل والمسئولين الآخرين هو ما يسمح بحدوث ذلك.«المجتمع لا يناقش الأمر على أنه مشكلة حقيقية. لدينا مشكلة في التصرف وليس نقص في المعلومات.»

تقول برنيسيس، زميلة إس آر ميريام وتعمل في ليبيريا، إنه لا يتم مراقبة الحدود بشكل متعمد تقريباً. وفيما يتعلق بالإتجار بالنساء من سيراليون إلى غانا، وليبيريا ومن ثم إلى الخليج، «أتعرف، هناك من المسئولين ما يقولون ‘سوف أتجاهل الأمر إن كان هناك دفع‘… أعني هل من الممكن أن يكونوا في البحر لمدى 12 يوم ولا يراهم خفر السواحل؟»

وتشير ميريام إلى أن السؤال الأكبر هو من الذي يراقب مسار الإتجار هذا، وما مدى تورطهم، أو كيف يمكنهم الاستفادة من التعمد بتجاهلهم. 

«عملت هناك لمدة عام، لم يدفعوا لي راتب أبدا خلالها. كما أنهم لم يعطوني الطعم المناسب والكافي، كان الأطفال يضربونني، ولم أتمكن من السيطرة عليهم. ذات يوم عضني الولد.»

نشأة الأخوة

تبقى أنماط الاستغلال متشابهة إلى حد كبير، إلا أن الحدود الجغرافية آخذه في التوسع، وذلك بحسب أحد الخبراء ممن تحدثت إليهم MR. تقول لوسي توراي، التي تعرضت هي نفسها للإتجار، وتعمل حالياً مع المجتمعات الريفية للقضاء على هذه المشكلة في مهدها، إن الشباب الضعفاء خصوصاً النساء، لا يرون مستقبلا لهم في البلد، ويعتقدون أن الذهاب إلى الخارج مهم جدا لتوفير المعيشة لعائلاتهم. وترى لوسي، التي أنشأت شبكة مناصرة العمال المنزليين (DoWAN) في 2020، فور عودتها من لبنان، أحيانا نفسها كضحية، وأحيانا كناجية، لكن بغض النظر عن ذلك فهي تشكل قوة.  وتوفر DoWAN التي تعني الأخوة باللغة المحلية، تيمني، مركزاً للتدريب في ماكيني للنساء من أمثالها – اللاتي يرين أنفسهن أحيانا كضحايا وأحيانا كناجيات، على حسب ما يتعرضن له خلال اليوم. 

أميناتا، وهي تعمل ضمن مركز الأخوة لديها ماكينة الخياطة المفضلة لديها في مركز التدريب، في الصف الأول بالقرب من النافذة، حيث يدخل الكثير من الضوء الطبيعي. ترتدي أميناتا نظارتها فقط عندما يكون عليها أن تخيط، أو أن تركز على إدخال الخيط في الإبرة، أو تثبيت البكرة أو تبطين القماش. الملاحظ أن خنصر يدها اليسرى كان بارزا طيلة الوقت ويبدو جزء منه مفقود. في اليوم الذي روت فيه قصتها، كانت تقوم بتغيير ملابس أطفالها. أطفالها الذين ظنوا أنها ماتت عندما انقطعت عنهم أخبارها. كان ذلك مباشرة قبل تفشي داء الإيبولا في سيراليون. 

أغراهم صديق زوجها واستدرجهم لبرنامج، قاموا بتمويله من خلال بيع منزلهم. وصلت إلى الكويت من خلال غينيا – أبيجان – اثيوبيا، لكنها ظلت لفترة قصيرة في البيت الذي أخذت اليه. لا تتلاشى ابتسامة أميناتا، وإنما تمهد للضحك والقهقهة، كما لو أنها تقوم بتسلية جمهور أمامها. «بابا الذي اشتراني من المكتب، باعني لامرأة في السعودية، قالها إنها أخته. كان أول ما فعله أن صادر هاتفي قائلا إنه اشتراني، وأنني كنت عبده وليس هناك حاجة للتحدث مع أطفالي. لم أكن أعرف مكاني، لكنني رأيت مصانع النفط الكبيرة قبل ذهابنا إلى المدينة التي يعيش فيها.»

كان على أميناتا القيام بجميع الأعمال المنزلية، والاعتناء بطفلين. «ولد وبنت. كلاهما مجنونان». أشارت بأصبعها إلى راسها. تقول ضاحكة وهي تهز اصبعها الخنصر، أو ما تبقى منه: «عملت هناك لمدة عام، لم يدفعوا لي راتب أبدا خلالها. كما أنهم لم يعطوني الطعم المناسب والكافي، كان الأطفال يضربونني، ولم أتمكن من السيطرة عليهم. ذات يوم عضني الولد.». وتم طردها من المنزل بأصبعها النازف وبالقطعة التي كانت تتدلى منه. 

تم إنقاذها من قبل أحد المارة في الطريق، وقدم لها المساعدة الطبية. «كانت سيدة طيبة جدا ماما الكعبي، رأتني أبكي في الشارع فساعدتني. بعد ذلك، اصطحبتني إلى مزرعة في الكويت». عملت أميناتا في المزرعة إلى جانب عاملات أخريات من مدغشقر، وأثيوبيا، والفلبين. كانوا يعملون بنظام النوبات لساعات طويلة يوميا مع وجود وقت للراحة، وحصلوا على المأوى والطعام – نعم، حتى برغم انها لم تدفع راتبي، حتى وإن كانت ساعات العمل طويلة. «المرأة السعودية كانت تجوعني، لذلك كانت ماما الكعبي امرأة جيدة بالمقارنة». وتضحك بعينين لامعتين وتضيف: «اعطتني تذكرة العودة إلى بلدي، ووعدتني أن ترسل المال إلى حساب زوجي المصرفي». وبعد مرور كل هذا السنوات، لم يتم استلام هذه الأموال بعد. 

كانت تذكرة أميناتا إلى مطار كوناركي، بقيت في المطار، تنام على ‘الأرض الصلبة ‘لمدة أسبوع، حتى ساعدها أحد مواطني بلدها في العودة إلى بلدها. «كان أطفالي يبكون عندما رأوني، ظنوا أنني ميتة، كانوا سعداء بعودتي، لكن لا سلام في البيت فزوجي يشعر بالمرارة، لقد خسر المال» 

تتعلم أميناتا الآن الخياطة وتأمل في إنشاء مشروعها وتعويض بعض مما فقدته بسبب هجرتها إلى الكويت

تتعلم أميناتا الخياطة الآن، وهي تأمل أن تؤسس ‘تجارة ‘قريبا، مثل زميلتها في مركز DoWAN  كادياجو كامارا. وكانت كادياجو قد عادت من الكويت قبل تفشي الجائحة في 2020. كانت قد وُعدت بوظيفة في محل بقالة بلندن، وصدقت ذلك حتى رأت وثائقها في مطار كوناكري، مع 50 امرأة أخرى من ماكين. وانتهى بها الأمر في الكويت.

«أخذنا أحد الأشخاص من المطار، وذهبنا إلى مكتب وكيل التوظيف. في مبني أسود بالكامل. قمنا بالاستعداد، والاستحمام، وأجبرنا على لبس الزي الموحد. وتم تدريبنا على بعض الأعمال المنزلية، ومن ثم تمت مواراتنا عن الأنظار في غرفة سرية في المبنى. حتى تم بيعي…»

عملت في منزل بثلاثة طوابق، يعيش فيه 45 شخص، وكانت هي عاملة المنزل الوحيدة. قيل لها في المكتب أنها ستستلم 2 مليون ليون، لكن صاحب العمل قال لها فيما بعد أنها ستستلم 1,5 مليون ليون. «قالوا انهم لن يعطوني راتبي نقدا. قال صاحب العمل أنه سيقوم بإرساله إلى سيراليون. لم يكن لدي أي تواصل مع عائلتي لمدة عام، وأخيرا عنما تحدثت معهم قال والديّ أنهما لم يتسلما أي مال». وعندما رفضت العمل قبل أن تستلم رواتبها، تم تهديدها بحياتها، لكنها حصلت على أجر في مقابل العمل للفترة المتبقية من العقد. عندما أصيبت بمرض شديد، أعادوها إلى مكتب التوظيف، ومن هناك تم إعادتها إلى بلادها، لكن ليس قبل مصادرة مدخراتها. 

تضحك أميناتا، بروح دعابة لا تمتلكها الأخريات وهي تصف المكان بأنه ليس مكانا لتعلم المهارات فحسب، وإنما هو مكان تستطيع النساء فيه مثل أميناتا، وكادياجو، ومرياما (تم تهريبها إلى عُمان) وزينب (تم تهريبها إلى لبنان)، اللقاء من أجل التعافي، والتصالح، والتحدث عن تجربتهن بدون أن يتعرضن للنبذ أو النقد. «عندما آتي إلى هنا، أنسى ألمي.»

إن معرفة ما يحدث عندما يبدأ الشخص في برنامج، أو ينتهي به الأمر في دولة خليجية، هو أمر منتشر على نطاق واسع، فهناك ما يكفي من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي والمقابلات في الإذاعة، ومع ذلك فإن الأشخاص المرتقبين لايزالون على استعداد لتجربة الرحلة من بدايتها. إلا أن لوسي، ومرياما بوندو (ناشطة وناجية أخرى) لهما وجهة نظر أخرى. أحيانا الأمر لا يتعلق بما ممكن أن يحدث، لكن في الواقع أن يتدخل بعض الأشخاص ويقدمون بدائل، وأمل بأن تاكون الأمور مختلفة لو أنهم بقوا وذهبوا عن طريق القنوات الاعتيادية. 

تقول ميريام مرددة ما أوضحته لوسي فيما بعد «هناك مستوى كبير من الفقر، لذلك فإنهم سيتمسكون حتى بأي تحسين صغير من شأنه أن يحسن وضعهم ليذهبوا». حتى 5% يعتبر أفضل مما هم عليهم هنا. 

كل هذا يتحول إلى لوم للضحية من قبل المجتمع والمسئولين وكذلك من أصحاب الامتيازات. أما أولئك اللاتي يعدن ويتحدثن عما تعرضن اليهـا فيتهمن بالكسل أو الانخراط في سلك الدعارة، مما يقود النساء إلى المزيد من المخاطرة والاختباء لتفادي الوصمة. 

تقول مريم عن ازدراء المسئولين لمحنة الذين تم الاتجار بهم وتهريبهم، «يقول المسئولون لماذا أنتم بهذا الغباء؟ لما تبيعون كل شيء من أجل شي أفضل قليلا؟ لذلك فهناك شعور عام بأنك أوصلت نفسك إلى هنا، ولماذا علينا مساعدتك… فأنت ركبت في الطائرة أو ركبت القارب، أو مشيت إلى هنا، أو ركبت سيارة الأجرة، لا أحد أجبرك على شي، انت اخترت أن تقوم بذلك»

وتقول إن مالا يمكن فهمه، هو أن هناك تلاعب عاطفي، فالاتجار ليس فقط دفع شخص ما إلى داخل شاحنة واختطافه. وإنما هو نظام معقد، والمسئولون ليسوا على وعي تام به. معظم من تمت مقابلتهم قالوا إن أغلب المهاجرين إلى الخليج هن من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 19 – 35 عاما. وهن من يغادرن فور تخرجهن من الثانوية العامة، أو بعد أن يخلّفن أطفالاً ويسعين إلى للمساهمة في العبء المتزايد عليهن في إدارة الاسرة. أما الأصغر عمراً فهن من يتم إغواؤهن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بالحصول على حقائب من تصميم شركات عالمية، ونمط الحياة الفاخر التي يروج لها «وسطاء الاتجار بالبشر.» 



«يقول المسئولون لماذا أنتم بهذا الغباء؟ لما تبيعون كل شيء من أجل شي أفضل قليلا؟ لذلك فهناك شعور عام بأنك أوصلت نفسك إلى هنا، ولماذا علينا مساعدتك... فأنت ركبت في الطائرة أو ركبت القارب، أو مشيت إلى هنا، أو ركبت سيارة الأجرة، لا أحد أجبرك على شي، انت اخترت أن تقوم بذلك»

يقول جوزيف توراي، المدير بالإنابة في الشمال، بوزارة الرعاية الاجتماعية، إنه ليس من السهل التغلب على قوة الاقناع لدى المتاجرين بالبشر. ويقول إن هؤلاء اللاتي يتم تهريبهن – ويميزهن عن هؤلاء اللاتي وافقوا على الذهاب حتى بوعود كاذبة – يتم الاتجار بهن أيضا. ومهما كان المصطلح المستخدم، فهناك زيادة في أعداد الذين يذهبون إلى الخارج دون فهم ما قد يصيبهم هناك. «في سيراليون تحديداً، من النادر جداً أن تعتمد الفتاة على نفسها مالياً، وهذا التوق للاستقلالية هو ما يستخدمه المتاجرون بالأشخاص.»

يقع مكتب جوزيف على مقربة من منطقة سوق ماكيني، وهي عبارة عن خلية نحل من الأنشطة التي لا تقتصر فقط على تجارة السلع. فهناك يتم تحديد النساء المحتملات اللاتي يتم الترويج للبرنامج لهن، كذلك تتواجد هناك الناشطات مثل لوسي وبوندو لنشر الوعي عن الاتجار بالبشر، ويعتمد المسئولون كثيرا على هؤلاء النساء ليس فقط لمعرفة آخر اتجاهات الاتجار، وإنما أيضا للتدخل في إدارة الحالات. 

ويستدرك مفكراً بأن «الفقر هو أكثر الأسباب التي تتكرر وتخاطر النساء بسببه، ولكن، مع أن الفقر المدقع حقيقة، لكن السؤال هنا هو، إذا ما كنت قادرا على توفير المال للدفع للمتاجر بالبشر، فلماذا لا تستخدمه لشيء آخر هنا، كالبدء في تأسيس شركة مثلا؟»

وهو يعترف أن تجار البشر لديهم القدرة الكافية على الاقناع لبيع الحلم إلى أبعد ما يمكن أن توفره رسوم البرنامج. على مكتبه التعامل مع الضحايا الإتجار بعد عودتهم، وهناك تحديات لا تستطيع الحكومة الاستجابة لها، ولكن يتعين على منظمات مثل تلك التي تديرها لوسي وبوندو أن تتدخل. «بسبب تعرضهم للوصم والتهميش من قبل عائلاتهن، كما تعلم ومن مجتمعاتهن… فهن يحتجن للدعم. وبالنسبة لنا كوزارة، ليس لدينا الإمكانيات اللازمة للتعامل مع كل هذه التحديات. فالتمويل الذي نحصل عليه من الحكومة الوطنية قليل جدا، ولا يأتي بانتظام. وفي الوقت الحاضر، ليس لدينا العديد من الشركاء للعمل على الاتجار بالبشر.»

 

«قبل الحرب لم يذهبن إلى أي مكان، وخلال الحرب كن يذهبن فقط إلى دول المنطقة، أما الآن فأصبحن يذهبن إلى أماكن بعيدة ... أنهم لا يرون أملاً هنا»

يأس جيل ما بعد الحرب

تعيش جانيت نيكل وهي عضوة أخرى في فريق WHI، وتعمل في سيراليون منذ نهاية الحرب قبل عقدين من الزمان. وتقول إن السيراليونيين شديدي الثقة بالآخرين، لدرجة أنهم يحفظون أموالهم لدى آخرين بدون ضمانات، وربما يفسر ذلك الخداع المتفشي باسم العمل والفرص. وتضيف أن هناك ممارسة طويلة الأمد للبنانيين الميسورين المغتربين فيها، بتوظيف سيراليونيين للعمل لأسرهم وأصدقائهم في لبنان. «الاتفاق هو أن تأخذ ابنتي للعمل في لبنان وتعطيني في المقابل كيساً من الرز. وحتى هنا، فإن الموظفين اللبنانيين يعاملون العمال المحليين معاملة سيئة. البعض، يقوم أيضا بتوظيفهم في شركاتهم في مناطق أخرى في العالم العربي.»

تتذكر لوسي حالة أخرى لمقيم لبناني في فريتاون، يأخذ، مراراً، سيراليونيات إلى الخارج، وتوفيت أحدهم مؤخراً، ولم يتخذ أي إجراء حيال هذا الشخص. «هذه القصة سيئة جداً… كيف ماتت الفتاة. لقد اصطحبوها للعمل هناك، وبعد شهرين، مرضت، ثم اكتشفوا أنهم لا يقدمون لها الطعام، لا يقدمون أي شي لها، وعندما قال الزوج انكم لا تقدمون لها الطعام، أجابوا بأن منزلهم ليس مطعماً! كانوا يعطونها شريحة واحدة فقط من الخبز في اليوم. كما طلبوا من الزوج إرسال الدواء لها. كان لديهم نفوذ وسلطة، أما نحن فلا نمتلك المال لنعين محام. وإذا ما ذهبنا إلى الشرطة، فنجن لا نملك المال، وهم يملكونه، فالشرطة سيستمعون لهم. وتواصل السيدة اللبنانية أخذ الفتيات من هنا، تواصل الاتجار بهن.»

تروى جانيت حادثة وقعت مؤخراً لابنة مدبرة منزلها ذات الـ 22 عاماً. «انهت دراستها وحصلت على شهادة التسويق، ورغبت في الذهاب إلى الخارج. استصدرت جواز سفرها، واستكملت الفحص الطبي، وكانت بانتظار الحصول على التذكرة. كان مقيماً لبنانياً يقيم في فريتاون، يقوم بتوظيف ممرضات، ومضيفات مطاعم في قطر. لم يكن لديها خبرة في ذلك، لكن مع ذلك عرضت عليها الوظيفة. وعندما ذهبن لإجراء المقابلات معهن، أُخذت واحدة منهن وكانت ترتدي الحجاب على انفراد وقيل لها أن ليس هذا ما تفعله الفتيات المسلمات، ونُصحت بعدم الذهاب. وكان ذلك بمثابة إشارة لها، فهمتها والغت خطتها. قبل الحرب لم يذهبن إلى أي مكان، وخلال الحرب كن يذهبن فقط إلى دول المنطقة، أما الآن فأصبحن يذهبن إلى أماكن بعيدة … أنهم لا يرون أملاً هنا.»

وبحسب ماكمد كمارا ، المدير السابق لصندوق تراث العدالة الانتقالية الافريقية ATJLF ، فإن «جيل ما بعد الحرب هو الجيل الذي تم التخلي عنه. ويتجلى ذلك في عدد من الطرق. عدم ادخالهم في السياسات الحكومية المتعاقبة/ وفي التنمية الاجتماعية الاقتصادية، والوطنية. فالكثير من هؤلاء الشباب يشعرون أنهم منفصلون ومستبعدون». ويقول إنه في الوقت الذي يكونون فيها في أكرا يُستثمر المواطن السيراليوني بشكل وثيق في القضايا الواقعية. يدعو الشعار السائد لمرحلة ما بعد الحرب إلى التسامح والنسيان، إلا أن هذا الشعار تمت ترجمته إلى نسيان الحرب. 

«يبدو أننا نسينا عمدا أو لا شعوريا الجيل الذي خرج من الحرب. فآبائهم جربوا الحرب بشكل مختلف. لكن إذا لم تنظر خلفك وتتأمل ما حدث فلن تستطيع المضي إلى الأمام. معظم الناس لا يعرفون الضرر الذي أصاب نسيج المجتمع. فهذا الشعار (سامح وانسَ) جيد، لكن له في الحقيقة نتائج عكسية في بعض الأحيان – فنسيان الجذور يؤدي إلى نسيان هؤلاء الذين خرجوا من الصراع، ونسيان كيفية منعهم من التراجع أو العودة إلى الحرب.»

يتحتم على جيل ما بعد الحرب التعامل مع ما هو أكثر من الفقر أو قلة الفرص. ويخشى ماكميد ألا يكون ذلك سوى البداية. «نحن من خلال الصندوق ATJLF عملنا مع مبتوري الأطراف بسبب الحرب، ممن دفعوا إلى التسول. ربما يكونون قد تسلموا بعض التعويضات المادية، لكن ليس هذا ما كانوا يريدونه. فهم يريدون لأبنائهم أن يروا مستقبل مختلف وأن يتم دعمهم. لكن يبدو أن الحكومات المتعاقبة قد نسيت أمرهم، وربما يشعرون أنهم حصلوا على تعويضات وعليهم المضي قدماً. كما أن المنسيين من قبل المجتمع يشكلون أهدافاً جاهزة للمتاجرين بالبشر والمهربين، وهناك تأثيرات متزايدة من قبل الجهاديين أيضا في منطقة غرب أفريقيا بما في ذلك سيراليون. في هذه اللحظة نحن نتحدث في الوقت الحالي عن الإتجار بالبشر.»

«هناك استياء وسوء تواصل كبيرين. فالجيل الشاب لا يشعر بفوائد الديمقراطية، كما أن هناك لامبالاة تجاه السياسة وعمليات التنمية. فهم لا يعتقدون أن البيئة المحيطة مواتية لتحقيق أحلامهم، ويفضلون البحث عن الإحساس الفوري بالرضا الذي يوفره لهم السفر إلى الخارج.»

«يتوجب على الحكومات أن تذهب إلى ما هو أبعد من الخطابات، فالتفاعل مع الشباب خصوصاً النساء هو احتياج الساعة. الحكومة الجديدة شابة ومتنوعة ولابد أنهم يفهمون ذلك مما يشكل فرصة لهم. نود أن نراهم يحولون الفهم إلى أفعال.»

 

 

«يبدو أننا نسينا عمدا أو لا شعوريا الجيل الذي خرج من الحرب. فآبائهم جربوا الحرب بشكل مختلف. لكن إذا لم تنظر خلفك وتتأمل ما حدث فلن تستطيع المضي إلى الأمام. معظم الناس لا يعرفون الضرر الذي أصاب نسيج المجتمع.»

يشعر القس سيديكي الذي يدير مأوى متعدد الاستخدامات ومكون من ثلاثة طوابق، بافتقار البلد للتوعية والاستباقية في الأمور. «مثل الملاريا نعالج المرض بالأدوية لكننا لا نتجنب الإصابة والعدوى بالمرض. الأمر نفسه مع الإتجار. نحن بحاجة لاستخدام التلفزيون والإذاعة بشكل أفضل، نستفيد من الناجين والعائدين ليحكوا لنا قصصهم.» يستقبل القس في المأوى الذي تصطف فيه غرفاً بطول شرفة ضيقة، فيما يسكن وعائلته في الطابق الثاني منه، العائدات، وأغلبهن من عُمان. «هناك من مارس الضغط عليهن ممن هو مقيم في عُمان ويقوم بأعمال سرية. عندما وردتنا حالات كثيرة، قررت أن أِجر المكان هنا لتوفير مأوى لهن. لقد استقبلنا 110 امرأة على مدى عامين، وقدمنا لهم استشارات نفسية بشأن الصدمات.»

يشعر القس أنه ربما كنّ يأملن أن تكون عُمان مجرد محطة عبور، وذهبن إلى هناك، فرغبتهن ليست كذلك. وتتراوح أعمار العائدات من عمان مابين 20 و24 عاما. يقول إن العديد من النساء اللاتي تمت المتاجرة بهن، لديهن آباء خسروا أملاكهم اثناء الحرب، ولايزالون يعانون من الصدمة بسبب ذلك. لذلك فالأبناء يحاولون تقديم التعويض لهم بكسب المال. «الوكلاء يبيعون مقصد (دول) أكثر منه وظائف. وآخرها دبي!، فهم لديهم الآن برنامج إلى تركيا، ويفكرون أنهم يستطيعون الذهاب إلى تركيا ومنه ينتقلون إلى ألمانيا/أوروبا.»

يرى القس أيضا، أن توقيع الاتفاقية الثنائية بين سيراليون والسعودية قد تجعل الأمور أفضل. وتتفق معه بوندو بأنها قد تكون مفيدة في نهاية الأمر، لكن حتى تدخل حيز التنفيذ فلن تكون سوى أداة أخرى في يد المتاجرين الذين يتصدون لعمل الناشطين. «هم يقولون، أنظروا، الحكومة تريد لكم الذهاب إلى الخارج، ولذلك لا توجد مشكلة في برنامجنا.»

يقول سيديكي «هناك شبكة قوية من الوكلاء – حوالي 300 إلى 400 منهم، لكن من الصعب تتبعهم، وفي المعدل هم يطلبون نحو 1300 دولار أمريكي. من تجربتي، أن 2% فقط من النساء اللاتي يرسلوهن إلى الخارج يتمكنّ من الحصول على عمل لائق. أما اللاتي يخجلن من العودة، فهن يبقين حتى يتجاوزن مدة التأشيرة ولا يستطعن دفع الرسوم والغرامات التي تتراكم؛ فهن لم يعدن يعملن لكفيلهن وبالتالي يسلكن طريق الدعارة.». وبالنسبة للادعاء الأخير، فهو لا يمكن دليل قاطع، لكنه يقول إن هذا ما يراه ويسمعه.

ويقول منتقدا بشكل خاص الجمعيات السرية لسيراليون (أنظر الشريط الجانبي) «لا أحد يتناول هذا الموضوع ويتحدث عنه. ولذلك ليس فقط أن الشابات تتم المتاجرة بهن، وإنما عندما يعدن تلاحقهن وصمة كبيرة وتبقى معهن.»، لذلك عندما ترغب العائدات في الرجوع إلى بيتهن، فهن يفعلن ذلك في جنح الليل كي لا يراهن الجيران وهن عائدات بقصص خائبة. كما أن هناك من يخترن الحديث وإطلاع الآخرين عما تعرضن له من محنة، مثيرين ضجة في وجه النبذ والتهديد، مثل ماريما، وبوندو ولوسي توراي.

سياسة هجرة العمالة في سيراليون 2022

تدرك سياسة هجرة العمالة 2022 أن هناك قلقاً كبيرا حول «وكلاء التوظيف شبه القانونين أو المجرمين بشكل صريح، المرتبطين غالباً بشبكات التهريب والاتجار بالبشر.» وتنص السياسة على أن الوكالات غير القانونية تأخذ العمال إلى آسيا من خلال وسائل احتيال، وتتركهم عالقين في الشرق الأوسط. «وتشمل المخاطر والأضرار المرتبطة بالتوظيف من خلال وكالات خاصة وشبكات غير رسمية، دفع رسوم باهظة، عبودية الدين، استصدار تأشيرات مزورة، مصادرة وثائق السفر، وعدم الأمانة فيما يتعلق بطبيعة وظروف الوظائف الاضافة إلى العقود غير الآمنة والاتجار بالأشخاص.»

كذلك تعترف السياسة بعدم قدرة الدولة على تنظيم عمل الوكالات، الأمر الذي يترك مواطنيها في «وضع هش إلى حد كبير.»

تشمل التقييمات الرسمية الأخرى ما يلي:

أظهر البحث أنه عندما تكون القنوات للهجرة القانونية محدودة، يميل العمال للاعتماد على شركات التوظيف غير الشرعية من خلال شبكاتهم الاجتماعية.

هناك ما يكفي من الأدلة على انتهاك حقوق بعض المهاجرين السيراليونيين والمهاجرين المحتملين، من قبل وكلاء التوظيف وأصحاب العمل. ويواجه العمال المهاجرون من سيراليون تحديات مختلفة في مراحل متعددة من رحلة الهجرة، منها ما قبل المغادرة (منذ اتخاذ القرار حتى التحضير للهجرة)، وخلال فترة الخدمة (أثناء العمل في بلد المقصد)، والعودة والاندماج من جديد في المجتمع. ونتيجة لنقص المعلومات الموثوقة حول الهجرة للتوظيف، فإن بعض المهاجرين منخفضي المهارة يتخذون قرار الهجرة دون النظر إلى اثاره السلبية على المصالح الشخصية والعائلية. كذلك فإن المهاجرين والمهاجرين المحتملين يتعرضون للاستغلال والانتهاك خلال عملية التوظيف الذي عادة ما يتم من خلال وكالات التوظيف الخاصة والشبكات غير الرسمية.

ويبلغ إجمالي التحويلات المالية السنوية إلى سيراليون حوالي 168 مليون دولار أمريكي، ما يعادل 12% من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك فإن الحجم الحقيقي للتحويلات المالية بما في ذلك التدفقات من خلال القنوات الرسمية وغير الرسمية إلى سيراليون، يعتبر كبيراً.



العمل الفني: اسماء كلوش