محمد طارق
سافرت والدتي إلى الكويت عام ١٩٧٩ بعد أن اختيرت للانتداب إلى الكويت كمعلمة للموسيقى وتزوجت من والدي. كانت الأوضاع في مصر لا تنبأ بخير حيث تدهورت الحالة المادية لعائلات الطبقة المتوسطة. كان هنالك تغيرات سياسية و اقتصادية كثيرة على مدى العشرين سنة التي سبقتها مغيرة من خريطة الطبقة الوسطى في بمصر. كانا والداي من خريجي كلية التربية الموسيقية ومثل الحالة العامة، كانت الحالة الموسيقية في مصر من سيء إلى أسوأ. هذا ما يقوله معاصرو تلك الفترة عن آواخر السبعينات بالذات بعد وفاة عبدالحليم حافظ ونهاية "الفرقة الماسية" التي كانت من أكبر الفرق الموسيقية المصاحبة للفنانين في ذلك الوقت. لم يكن هناك مجالاً لأي أحد أن يعمل في مجال الموسيقى في مصر سوى في التعليم الحكومي بمرتب أقل من الهزيل أو ينضم للكازينوهات والكباريهات.
سافر والدي إلى الكويت في العام ١٩٨٠والتحق بوزارة التربية في الكويت كمدرس. لما يكن والداي من المغتربين الذين يكدسون أموالهم، بل كان والدي دائماً يقول أن الرزق، إن كان متاحاً، على الشخص الاستمتاع به، فما قيمة المال إن كبر الشخص على الاستمتاع به.
ولدت في العام ١٩٨٣.أتذكر أول أيام نزولي للعب في الشارع مع الجيران، كنت أسكن حينها في منطقة الفحيحيل بجانب البحر. كان الناس في الكويت يقسمون المناطق بشكل أساسي إلى منطقتين: مناطق البدو والحضر. مناطق البدو تسكنها عائلات متقاربة من قبائل معينة. أما مناطق الحضر فكانت دائماً بعيدة عنا، يمتاز أهلها بأنهم متمدنون أكثر، لا تلبس نسائهم العباءات السوداء دائماً، ويتعلم أولادهم الإناث والبنين في الجامعات ويسافرون إلى الخارج.
المدرسة
قرر والداي الحاقي بمدرسة خاصة، مع أنهم كمدرسين يحق لهم إدخالي إلى مدارس حكومية مجاناً. كانت المدارس الخاصة نوعين، مدارس أهلية تدرس نفس المنهج الدراسي للمدارس الحكومية أنشأت لمن لا يعمل في القطاع الحكومي ولا يستطيع ادراج أطفاله في المدارس الحكومية. بجانب المدارس الأهلية، كانت هنالك مدارس بريطانية وأمريكية متوفرة بشكل أساسي للمغتربين من غير العرب وفيها نسبة بسيطة من العرب. معظم أهالي الطلبة عملوا في شركات البترول التي كانت توفر لموظفيها تخفيضاً كبيراً لإلحاق أبنائهم في هذه المدارس. كما كان هنالك بعض المدارس الهندية والباكستانية التي توفر مستوى تعليمي شبيه بذلك الموجود في المدارس البريطانية ويكون ملتحقيها من الجاليات الهندية والباكستانية ولغيرهم ممن يريدون الدراسة بالإنجليزية ولا يستطيعون دفع المبالغ المطلوبة في المدارس البريطانية والأمريكية.
لم يكن في مدرستي الكثير من الكويتيين نظراً لأني أسكن في منطقة معظم سكانها من الكويتيين الذين يذهب أطفالهم للمدارس الحكومية. أتذكر وجود طالب كويتي واحد، وكنا نتحدث جميعاً بالإنجليزية، فلم نحس بفرق. الكثير من الطلاب في المدارس الخاصة لم يكونوا يألفون اللهجة الكويتية، فهم يتحدثون بالإنجليزية في المدارس وبعربية مختلطة بالكثير من اللغات مثل الهندية والفارسية ولهجات مختلفة، لغة هجينة يتحدث بها المغترب مع معظم عمال المحال والبقالات التجارية. كان الاختلاط بالكويتيين محدود حتى قنوات التلفزيون المحلية في ذلك الوقت كانت برامجها باللغة الفصحى.
هوشة: عزلة الكويتيين عن المهاجرين
أتذكر جيداً يوم كنت ألعب مع أصدقائي وذهبنا لشراء بعض الحلويات من بقال قريب فاستوقفني رجل كبير في السن. كان عمري حينها 6 سنوات تقريباً، سألني عن اسمي أولاً، وإن كنت أسكن في المنطقة. كنت أرتدي حينها شورتاً رياضياً، وقال لي أنه قصير وأني كطفل مسلم يجب أن أرتدي شورتاً أطول قليلًا للركبة. لم يكن مبتسماً ولكنه لم يكن عابساً أيضاً. أحس أنه من واجبه أن يقدم لي هذه النصيحة ثم ذهب. كانت من مميزات الكويت أن كل منطقة تعيش كمجتمع صغير، البلد صغير وأحوال الناس جيدة. كان من الطبيعي أن يقف لك رجل بسيارته ويعرض عليك توصيلك إن كنت تسكن في طريقه. حذرنا كثيرون من الركوب مع من هم أكبر منا سناً ونحن صغار لأسباب معروفة للكل، ولكني ركبت بعد ذلك في سن أكبر قليلاً مع بعض الأشخاص الذين كانوا في منتهي الطيبة ولم يودوا إلا الخدمة فعلًا.
في مكان سكني لم يكن الكويتيين ودودين، كنا نتحاشى المرور بجانبهم حتى نتفادى أي عراك مرتقب بسبب وبلا سبب. "الهوشة" هي مرادف للعراك أو الجدل في لهجة الشباب الكويتيين. مستحيل أن يكون هنالك مغترب لم يمر بتلك التجربة صغيراً بشكل أساسي أو في مدرسة حكومية كما كنت أسمع من أصدقائي دائماً. كانوا في طباعهم غير ودودين، جافين بشكل كبير لكن في منتهى الطيبة، ان جاءت الفرصة للتعرف على أحد منهم، لن تجد أقرب منه للمساعدة في أي وقت.
العودة بعد الغزو
كان غزو العراق للكويت عام ١٩٩٠مرحلة مفصلية في تاريخ الكويت. ربما كنت صغيراً نوعاً ما لأدرك ما كان يحصل قبل الغزو لكني كنت على قدر من الوعي لألاحظ التغير الذي طرأ على الثقافة العامة. كمغتربين خسر والداي كل ما يملكان من مجوهرات وأموال في البنوك وسيارات لأن بيتنا سرق من قبل بعض الجيران بمساعدة الجيش العراقي. أتذكر عام 92 عندما رجعنا إلى الكويت بالطائرة، كنت أرى الآبار المحترقة والدخان المتصاعد منها. لم يكن في البيت غير بعض ألعابي القديمة. كنا حينها نسكن في الدور الثاني من سكن الوزارة وكان المبنى مكون من طابقين فقط. أتذكر جيداً عندما دخلت مع والدي إلى البيت، لحظت شعاع الشمس يدخل من سقف البيت، وكان السقف مزين بأربع فتحات من رصاص طائرات تقريباً. اخترق الرصاص السقف وطاولة السفرة التي كنا نأكل عليها، لازالت والدتي تحتفظ بغطاء الطاولة المزين بثقوب الرصاص. كان جيراننا السوريون قريبين منا وكنا على اتصال دائم بهم خلال الحرب. كان عمو محمود قد عاد من سوريا خلال الغزو لمحاولة إنقاذ ما يمكن انقاذه من ممتلكات. أسروها مع الكثير من المصريين والسوريين، وأطلق سراحه بعدها ببضعة أشهر. كان من المألوف أن تجد فوارغ الرصاص في أي باحة بجانب المباني. احتفظ ببعض منها حتى الآن.
كانت أول سنتين بعد الرجوع صعبة. لم يستطع الكثير من المغتربين العودة بسبب خسارتهم ممتلكاتهم وأموالهم. حتى الدولة لم تكن تملك شيئاً وقتها لتعوض ما نهب. لم أستطع الذهاب بعدها إلى المدرسة البريطانية، فالتحقت بمدرسة باكستانية في المنقف وكانت ناظرة المدرسة تدرسنا نصف المواد بينما تولت شابتان فلسطينيتان مهمة تعليمنا العربية. لم يكونا في سن التعليم الجامعي وقتها، إلا أنهما قاما بالمهمة ومازلت مديناً لهما بما تعلمت. كان فصلي متكون من ٤ أشخاص بينهم ابن الناظرة وكنت العربي الوحيد وقتها، فصارت حصص العربية والدين وقتاً لحوارات لطيفة مع مدرستي الجميلة. لازلت أحتفظ ببعض شرائط الكاسيت الدينية التي أعطتها لي لأسمعها، كان اسمها أستاذة أمل.
أما عن الكويتيين، فمن رحل منهم توجه إلى ثلاث وجهات: دول قريبة مثل السعودية، وأخرى أبعد مثل مصر ولبنان وسوريا، وثم إلى أمريكا وبريطانيا. بالطبع، واجه هؤلاء مرحلة تحولية مع عائلاتهم في الخارج. لاحظت بعد الغزو ازدياد عدد الطالبات الكويتيات في المدارس المختلطة مثل البريطانية والأمريكية.
نظرات غير ودودة
كشاب مغترب، أخذت تجربتي منحى آخر. تعرضت لمواقف كثيرة وبدأت أحتك مع الكويتيين بشكل أكبر. تعرفت على صديقي "علي" بعد "هوشة" ثم أصبح من أقرب أصدقائي. كما تعرفت على فتاتين كويتيتين مازالت علاقتي معهما مستمرة عبر الإنترنت وأرى صورهم وصور أطفالهن كما التقيت بهم في ٢٠٠٦ في آخر زيارة لي للكويت.
كنت دائماً أخاف من الشرطة، لم يكن وقتها من المألوف أن توقفك سيارات الشرطة لكنني كنت أتوجس من نظراتهم الغير ودودة. أتذكر المرات التي كنا نعود فيها إلى البيت متأخرين فنجد أن نقاط التفتيش في الشارع لا توقف سوى المغتربين. التزم والدي بالقوانين دائماً وحثنا على تجنب المشاكل، إلا أنه كان يستوقف دائماً من أجل الاطلاع على أوراقه الرسمية بينما يلقي علينا رجال الشرطة ذات النظرات المريبة دون أي مبرر. لربما كان سبب ذلك أن والدي اقتنى سيارة جميلة لا يرى رجال الشرطة أنها تليق بالمهاجرين البسطاء.
كما في دول أخرى، تواجدت "الواسطة" بقوة في الكويت فالشخص ذي المركز المرموق تُسهل أموره. عرف والداي ذلك من خلال سنوات الغربة التي عشناها وأتذكر كيف كانت "الواسطة" تسهل استخراج "كرت الزيارة" الذي يمكنني من زيارة عائلتي بعدما انتقلت إلى مصر من أجل الجامعة. وقتها، كان استخراج "كرت الزيارة" يأخذ بضعة أيام بدلاً من الأسابيع.
كانت الكويت وطني حتى مجيئي إلى مصر للدراسة الجامعية. عشت هناك ١٨ عام متواصلة باستثناء بضعة شهور كل عام. ذهلت بالتغيرات التي حصلت بين ٢٠٠١ و٢٠٠٦. تغير الساحل المطل على الخليج بداية من الفحيحيل القديمة وحتى السالمية. عشنا بجوار البحر في الفنطاس في بدايات الألفينات ولم يكن فيها سوى البحر والرمل وقتها ثم في عام ٢٠٠٦، لم يتبق لنا فيها مكان.
أحن كثيراً إلى الكويت، فقد قضيت أحلى سنين عمري وطفولتي فيها: المدينة الترفيهية، السالمية القديمة، أسواق الفحيحيل، السوق القديمة، المهبولة، حولي، أسواق الهنود والفلبينيين في الفحيحيل. أفتقدها جميعها وسأفتقدها دائماً لأنها أزيلت وحولت إلى أماكن أكثر رفاهية ومجمعات تجارية لا طابع لها.