قبل أن يتم ترحيله، قضى الصحافي ياسين كاكاندي عشر سنوات في الإمارات العربية المتحدة. في العام الماضي، قام كاكاندي بنشر كتاب عن تجربته وعمله في بلد مقسم طبقياً وعرقياً، إلا أن كتابه لم يصل أبداً إلى الإمارات حيث قامت السلطات بمصادرة النسخ التي أرسلها له الناشر وغيرها في المكتبات المحلية. حسب قول إحدى المكتبات المحلية، الكتاب ممنوع بشكل رسمي داخل البلاد.
من المعروف عن الإمارات منعها الكتب ذات الطابع السياسي، بينما تستمر بلجم أي محاولات لنشر معلومات تتعلق بقضايا الهجرة لتجنب اي انتقادات دولية. مؤخراً، امتنع الموزع المحلي لصحيفة النيويورك تايمز عن طباعة أحد أعداد الجريدة لاحتوائه على مقال عن انتهاكات حقوق العاملين في مقر جامعة نيويورك في أبو ظبي.
تجارب كاكاندي تعكس الواقع المتخبط لغير المواطنين في الإمارات المهددين بفقدان إقاماتهم وبيتهم في حالة خلاف مع الكفيل أو التطرق لمواضيع مثل التمييز المنظم واستغلال العمالة. هنا يخبرنا قصته كاملة:
من فصلني من وظيفتي؟
للأسف، ١ أبريل لم يكن يوماً للمقالب بالنسبة لي لأني كنت أواجه رد فعل غاضب بسبب سيرتي الذاتية التي نشرتها مؤخراً بعنوان "الكفاح الطموح: رحلة الأمل والهوية لصحافي أفريقي في بلاد المهاجرين".
بشكل تعسفي، تم إلغاء عقد عملي في جريدة "ذا ناشونال" في أبو ظبي. حصل ذلك خلال اجتماعي الأول مع رئيس التحرير الجديدة محمد العتيبة. أخبرني أن لديه خبراً سيئاً ليبلغني به فسألته مباشرة إن كان سيقوم بفصلي من العمل. اعتذر لي وقال أن رئيسي في العمل امتدح عملي باعتباري أحد المجتهدين في الجريدة. أخبرني أيضاً أن تغطيتي لشؤون الإمارات الشمالية أعجبته وكان يود أن نلتقي ونتحدث بعد استلامه لإدارة الجريدة. ثم ذكر لي ما وصله من إدارة شؤون الموظفين عن كتابي والمخالفتين اللتين ارتكبتهما. أولاً، أنني لم أحصل على موافقة من الصحيفة لنشر الكتاب، وثانياً، أن محتوى الكتاب لا يمثل المؤسسة بأفضل وجه.
استغرق الاجتماع ٣ دقائق فقط وسألته إن كان قد قرأ الكتاب. لم يقرأه. كان واضحاً أن قرار إيقاف عملي جاء من سلطة أخرى. كل ما استطعت أن أقوله له: “أعتقد أنني فهمت، لا بأس.” فكرت بمن قد يكون قرأ كتابي وأعطى أوامر للمدير الجديد بطردي، حتى دون أن يقرأ الكتاب. لحظتها ولد سؤال بلا إجابة: من فصلني؟
بعد ذلك، أخذني العتيبة إلى غرفة اجتماعات أكبر حيث تواجدت لورا كوون المديرة التنفيذية مع مديرة في شؤون الموظفين اسمها عالية. كان الاجتماع مخططاً بشكل دقيق. أولاً، قام العتيبة بإبلاغي بالقرار ثم أخذني لغرفة الاجتماعات ليقول بأن الموضوع انتهى. أخبروني أن أمامي شهر لترك البلاد وإن أردت وقتاً أطول، عليّ تقديم طلب مكتوب. كما أخبروني بأنني ممنوع من الدخول إلى مكان العمل وبأن شؤون الموظفين ستتولى إلغاء تأشيرة العمل قبل حجز تذكرة المغادرة. كل أوراق الفصل كانت جاهزة وقمت بتوقيع إحداها ثم أعطوني نسخة منها. سألتهما: هل قرأتما كتابي. أجابا بالنفي.
لورا قالت أنها عليها الآن قراءة الكتاب. الأشخاص الذين تولوا مهمة طردي لم يقرأوا كلمة من كتابي. إذن، من قام بفصلي؟
قال العتيبة للورا أنه يجب أن يسمح لي بمقابلة رئيسي في العمل لأنه يرغب بتوديعي. لم يكن مسموحاً لي التحرك بين المكاتب وكان على لورا مصاحبتي طوال الوقت. رئيس القسم كان منزعجاً وعبر لي عن أسفه عما حصل لي. ثم قال أن لو بيده شيء لتغيير هذا القرار لفعله. طوال فترة عملي في الصحيفة، كان رئيس القسم يؤدي مهام عمله الإشرافية. دائماً ما كان يتصرف برسمية ومحادثاتنا على الإيميل أو التلفون لم تكن أبداً ودية أو غير رسمية. في الحقيقة كنت أعتقد بأنني لا أعجبه إلا أن هذا اليوم المصيري أظهر لي أنه يحترمني ويعتبرني صديقاً له.
لورا صاحبتني بينما أودع نائب رئيس القسم الذي عبر لي عن أسفه وصدمته لخبر فصلي. ثم أخذتني لشؤون الموظفين لإتمام إجراءات إلغاء إقامتي. طوال ذلك الوقت، رسمت لورا ابتسامة كبيرة على وجهها حتى شعرت بأنها تهمش جدية الموقف وكأن عليّ أن أبتسم في المقابل على الرغم من المعاملة التي أتعرض لها. لاحقاً، صاحبتني لورا مرة أخرى لشؤون الموظفين لأسلم محتويات مكتبي والوثائق المطلوبة. بين الحّر والضغط الناجم عن خبر فصلي، كنت محتاج لأن أذهب إلى الحمام. كانت الأجواء مضطربة ولم أعلم إن كانت ستسمح لي باستخدام الحمام. فكرت إلى أي مدى سيحاولون إذلالي لذا قررت الخروج واستخدام حمامات مسجد قريب.
أخذتني لورا إلى المخرج واكتشفت أن بصمتي التي كنت أدخل بها إلى الجريدة لم تعد فعالة. لسنوات دخلت إلى هذا المكان والآن على أحد آخر القيام بذلك عني. حين خرجت، اتصلت بزوجتي وأخبرتها بقرار فصلي الذي صدمها إلا أنها هي أيضاً اعتادت سماع مثل هذه الأنباء. هكذا كانت حياتنا. اتصلت على صديق قضيت معه الليلة السابقة في أبو ظبي. قبل الاجتماع، وصلني إيميل يستدعيني لمقابلة رئيس التحرير وكنت قد توقعت النبأ السيء. تركت السيارة في البيت وذهبت إلى أبو ظبي مستقلاً الباص. قبل شهرين من فصلي، أحد زملائي في جريدة الاتحاد (الصحيفة الأخت لذا ناشونال) فصل لنشره تقارير دون موافقة من شرطة عجمان. حين فتحت ذاك الإيميل، توقعت ما سيحصل لي.
عدت إلى الشارقة بالباص، إلى مكتب الاتحاد حيث كنت أعمل. الكل تصرف بهدوء وكان البعض قد عرفوا بالقرار إلا أنهم لم يرغبوا بفتح الحديث معي. انتظرت حتى خرجن الصحافيات لأخبر زملائي بالخبر. الكثير منهم عبروا عن صدمتهم، وأنهم سيحاولون التدخل بأي طريقة ممكنة. أحد زملائي، إماراتي، قال أن له صديق ممكن أن يتحدث مع العتيبة في الموضوع وأنهم كفريق سيحاولون مخاطبة المؤسسة. آخرون قالوا أن بوسعهم البحث عن وظيفة لي في صحيفة إنجليزية منافسة.
مع تقديري لمحاولاتهم مساعدتي، فهمت أنهم لم يقرأوا الكتاب. كنت أعلم أن دعمهم لي سيختفي حين يعرفون بأن كتابي يناقش العنصرية والإتجار بالبشر. لن يأخذ أحدهم المخاطرة. وهذا ما حصل بعد أسبوع، حيث قال مدير في صحيفة أخرى لزميل لي أنني صحافي جيد يرغب بتوظيفه إلا أن كتابي يناقش العنصرية في الإمارات. وأضاف هذا المدير أن لا أحد سيقوم بتوظيفي ومحاولة تجديد إقامتي في الإمارات العربية المتحدة.
الكثير من زملائي في المهنة قدموا لي التعازي. فهمت لحظتها أن فقدان وظيفة يشابه فقدان شخص مقرب إلا أن التعبيرات جاءت بدافع الأدب لا بدافع الدعم. من لم يقرأوا الكتاب وعدوا بقراءته. أحدهم قال: "لم نأخذ كتابك على محمل الجد إلا أننا الآن سنقوم بقراءته.” زميل آخر كان قد قرأ كتابي بنسخة إلكترونية وأخبرني أن عليّ أن أفخر لأن فصلي جاء بعد قرار شجاع مني لمناقشة قضايا يعرف عنها الجميع إلا أنهم يسكتون عنها خوفاً من المصير الذي تلقيته. وأضاف: “ياسين، لم يتم فصلك لتقصيرك أو فسادك أو لأي سبب سيء. فصلوك لأنك كنت صوتاً ضد العنصرية وهذا شيء حميد.”
في النهاية، كنت سعيداً بالتشجيع من زملائي وأخرين في صحف أخرى لأن دعمهم خفف من قلقي تجاه مستقبل غير معروف. لكن لم يكن كل متصل بهذا اللطف. إحدى الصحافيات في جريدة غريمة أخبرتني بأن هذا الكتاب أسوأ ما قمت به في حياتي، مضيفة بأن لا أحد في الدول العربية المجاورة سيقبل بتوظيفي لأنهم لا يحبون اي انتقادات عن العنصرية وبالتالي كل تجربتي ومعرفتي في المنطقة ستضيع. ثم أضافت بتعبير شائع: “لا تتغوط حيث تأكل".
فصلي لم يكن مفاجئاً بل كان في التحضير. في نوفمبر، كل زملائي في ذا ناشونال والاتحاد وقنوات تلفزة أبوظبي وقعوا عقود عمل جديدة بزيادات للإماراتيين والرواتب ذاتها لغير المواطنين. كنت الوحيد الذي لم يحصل على عقد جديد. وكلما استفسرت، أعطوني حججاً مختلفة. كانت لورا قد أعطتني جواباً واضحاً إلا أنه لم يكن صادقاً. قالت أنهم نسوا تحضير عقد لي وأن علي الصبر حتى ينتهون من تحضيره.
بعد ستة أشهر، لم أحصل على عقد عمل. إن علمت الإدارة بأن عقدي متوقف بسبب الكتاب، لماذا لم يقرأوا الكتاب إذن؟ ربما لأنهم لم يستطيعوا الحصول على نسخة في الإمارات. مكتبتان وعدتا بجلب نسخ من الكتاب خلال شهر، فقررت أن أطلب نسخة لأرى إن كانت ستصل. علمت لاحقاً بأن المكتبتان امتنعتا عن أخذ طلبات لنسخ كتابي بالقول أن النسخ نفدت. تحدثت لامرأة تعمل في مكتبة وقالت لي بأن كتابي ممنوع في الإمارات. الناشر بعث لي نسخاً مرتين دون أن تصل أياً منها وأصدقائي الذين اشتروا نسخاً من "أمازون" لاحظوا وصول النسخ إلى الإمارات دون أن تصل إلى بيوتهم. كل هذه النسخ المصادرة من قبل ممثلي صاحب السلطة الذي قرر فصلي دون الإفصاح عن هويته. لديه نسخ كثيرة من كتابي إلا أنه لم يسمح بأي منها للمسؤولين الذين قاموا بمهمة فصلي. كان الكتاب ممنوعاً كأنه كتاب إباحي.
قرار فصلي لكتابة سيرتي الذاتية يهدف لترهيب أي كاتب أو صحافي يرغب بمناقشة قضايا العنصرية والاتجار بالبشر واستغلال المهاجرين في الإمارات. رسالتهم أن الأغنياء فقط يسمح لهم بالكتابة عن الحياة الفخمة في دبي لأن قصص المهاجرين من أمثالي تهدد الحكام. كما فهمت من هذه التجربة، كلما خاطر الكاتب أكثر، تزداد قوة القمع التي سيواجهها من قبل السلطات. كنت أعي هذه المخاطر حينما بدأت بمشروع الكتاب إلا أن القصص التي يحتويها تستحق هذه المخاطرة. كلما قاموا بتكميم صوت مثل صوتي، يشعر هؤلاء بقوة زائفة على كل من يريد نشر قصص المهاجرين الفقراء. يظننون أن وظائفنا تكفي كرشوة للصمت والتغاضي عن مشاكل المجتمع. بإمكاننا أن نشاهد دون أن نتكلم. إن سمحنا لهم بتكميم أفواهنا فإننا نتنازل عن أخلاق مهنتنا. نتحد مع الاستغلاليين ضد مواطنين ومهاجرين يعملون من أجل حياة في الإمارات.
كصحافيين، علينا ألا نترك المهاجرين الفقراء وحدهم يحاربون من أجل حقوقهم. الكثير من هؤلاء غير متعلمين وتصعب عليهم الأمور. كم من القصص قررنا أن نضعها في تقارير سريعة أو نرميها في القمامة حتى لا نغضب السلطات ويتم فصلنا. هنالك عمال يموتون فجأة في مشاريع بناء ضخمة وعمالة منزلية تقتل في بيوت الكفلاء. بعضهم يقرر التخلص من حياته بالانتحار وقصصهم يتناساها الإعلام الذي يدعي بأن الكتابة عن حالات الانتحار أمر محظور.
العمال الفقراء لا يعانون وحدهم من قضايا تحتاج لمن يكتبها. وافدون مثلي في الإمارات واجهوا مشاكل كثيرة مثل التمييز والإقصاء والاستغلال. لا وقت أفضل من الآن للحديث عن هذه القضايا بينما يقوم العرب بالمطالبة بحقوقهم وبسلطة جيدة في فترة تنويرية متصاعدة. رغم اختلافاتنا الوطنية والعرقية والدينية ورغم ضعفنا الاقتصادي بسبب دولنا الفقيرة، إلا أننا نساهم في نمو الإمارات ومن حقنا أن يتم التعامل معنا بكرامة ومساواة وعدالة مفترضة وكونية في مجتمعات القرن الـ ٢١. كانت العاملة في شؤون الموظفين تريد مني الرحيل بأسرع وقت ممكن وكأنها ستحصل على نقاط إضافية أن انتهى هذا الموقف العصيب. حتى قبل أن يتم إلغاء تأشيرة العمل، اتصلت بي عدة مرات تطلب معلومات السفر لحجز تذكرة لي. كما أخبرتني أنني سأحصل على التعويض عبر حسابي البنكي في أوغندا. عاملوني وكأنني حيوان خطر جداً لم يرغبوا في تواجده في المكتب أو حتى في البلد. أخبرتها بأنني عشت في الإمارات لأكثر من ١٠ سنوات تمثل كامل تجربتي الصحافية وبأن نصف تلك المدة قضيتها في الصحيفة.
“لماذا تريدين إرسالي إلى بلدي بأيدٍ خالية في رحلتي الأخيرة من الإمارات بينما تدين لي الصحيفة بتعويضات.” في تلك اللحظة، تدخلت لورا وأخبرتهم بأن عليهم دفع تعويضاتي خلال فترة إقامتي الأخيرة في الإمارات.