لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الطيران من داكا: مَخرج مستحيل

في 19 ديسمبر 2016

كعادته التي تسبق كل إقلاع يطلب طاقم الطائرة من الركاب إغلاق هواتفهم. وكعادتهم قبل الامتثال وقطع الاتصالات يتأفف المسافرون تمنعاً وكسباً لبضع دقائق إضافية يودِّعون فيها أحباءهم للمرة الأخيرة. فمن يدري متى سيتمكنون ثانية من التحدث مع أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وأصدقائهم؟ سوف تمضي على الأقل بضعة أيام قبل أن يحصلوا على شريحة هاتف في بلاد أخرى. وربما يستعيرون هاتف أحدٍ ما، غريب أو زميل جديد، لإيصال خبرٍ سريع عن وصولهم بالسلامة.

في وقت متأخر من بعد ظهر ذاك الخميس بمطار "حضرة شاه جلال في داكا" كانت هناك ثلاث طائرات ممتلئة تماماً متجهة إلى مدن مختلفة في منطقة الخليج العربي، وكان جمال في الرحلة الذاهبة إلى الدوحة حيث يفترض أن يستقل هناك طائرة أخرى تأخذه إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية. وهو المهاجر المتمرس الذي أمضى سبع سنوات في السعودية، تلتها خمس أخرى في الإمارات العربية المتحدة، وها هو في طريق عودته إلى السعودية من جديد.

في الطائرة جلس خلفه راكب مستجدّ على السفر لم يتمكن من التعامل مع حزام الأمان إلا بالاستعانة بابن بلده الجالس في المقعد المحاذي له عبر الممشى، بينما تقبض يده على مصنف ورقي أخضر اللون طُبع عليه اسم وكالة التوظيف بخط واضح وعريض، وحقيبة سوداء صغيرة وجواز سفر ونسخة من تأشيرة الدخول ومحفظة. وطيلة الوقت كان يضع مقتنياته الثمينة، حتى أثناء الغداء، في حضنه لا في المقعد المجاور الفارغ ويضغط فوقها بيده اليسرى، ليأكل لقمة زبدة بالملعقة دون أن يعرف ما هي، ملطخاً وجهه الذي تجمع ملامحه بين السرور والاشمئزاز من الطَعم في الوقت ذاته. وليبدأ هكذا فترة أخرى من حياته مليئة بتجارب جديدة وغريبة.

 

أما جمال فقد بدا قلقاً ومشغول البال، لكن ليس بسبب المكان إذ سبق له أن قام بمثل هذه الرحلة عدة مرات، رغم أنه لحظ أمراً مختلفاً هذه المرة.

صورة توضيحية. تصوير: فيصل أكرم

وبلغة هندية ممزوجة بالبنغالية علّق متسائلاً "هناك الكثير من النساء البنغاليات مسافرات، أليس كذلك"؟

وبدا قلقه مشوباً بشيء من الاستهجان. "أتحدثينني عن التأشيرة الحرة؟ إنها ليست جيدة"! لعله كان يفكر بهموم الوصائية أو يتذكّر ما كان قد واجهه سابقاً في دول الخليج العربي! أو على الأرجح للسببين معاً.

على الرغم من أنه هو ذاته يسافر بتأشيرة حرة

ليست حرة الفيزا هذه، صح؟

بسخرية يجيب: "Aat lakh beez hazaar taka free".

فبعد أن ساعده شقيقه الذي يعمل في مدينة الطائف للحصول على التأشيرة، كلفته في بنغلاديش 820 ألف تاكا (حوالي 10.500 دولار أمريكي). اقترض لأجلها مائتي ألف تاكا وسدد بقية المبلغ من مدخراته. و"يتوجب عليّ الآن تسديد 20 ألف تاكا شهرياً لمدة عام كامل، لأعود بعدها حراً"!.

ويردف قائلاً "لقد ذهبت مرتين للعمل في إحدى الشركات بعقد عمل عادي. ولكن بلا جدوى، حيث لا يمكن للمرء أن يتقاضى ما يكفيه، بينما بالتأشيرة الحرة من الجائز أن تكسب مائة ألف شهرياً أو لا تكسب شيئاً على الإطلاق".

يطلب زجاجة "تايغر" فيحصل على علبة "فوسترز" بدلاً منها. فيقول بالانكليزية متحسراً "هذه آخر فرصة للمرح، لا يمكننا الحصول عليها في السعودية".

تارة يريد أن يمزح وتارة يعتريه القلق وتارة أخرى ينتابه الفضول حول حياتي، لكن أكثر ما يشغل باله هن أولئك النساء الخائفات في طريقهن إلى بلاد غريبة.

تصدير المواطنين

مارست بنغلاديش كل الضغوط الممكنة لفتح أسواق الخليج العربي أمام مواطنيها، سعياً منها لتوقيع مذكرات تفاهم مع دول مجلس التعاون الخليجي. وهي البلد الذي يعاني من مشاكل متنوعة (زيادة سكانية وفقر مدقع وبطالة وقلة فرص العمل ومن آثار التغير المناخي).

وكما هو حال البلدان الأخرى المصدرة للعمالة تشكل عائدات التحويلات المالية للمهاجرين نسبة 7.9% من إجمالي الدخل المحلي. وفي موسم 2015/2016، ورد من بلدان الخليج وحدها ما يقارب نسبة 60% من التحويلات المالية البالغة قيمتها 14.93 مليار دولار.

أما العمال فقد ارتفعت بالنسبة لهم تكلفة الهجرة بما لا يتماشى مع مستوى الأجور التي يتقاضونها.

تقارير صحيفة "دايلي ستار":

تبين في دراسة عام 2015 أن معدل تكلفة الهجرة الوسطي للفرد الذكر بلغت 380 ألف تاكا ومائة ألف تاكا للأنثى في عام 2014.

الدراسة التي أعدتها "وحدة أبحاث حركات اللجوء والهجرة"، لصالح جامعة داكا والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، كشفت أن المهاجرين الذكور يقومون بتحويل 200 ألف تاكا سنوياً لبلدانهم مقابل 80 ألف تاكا قيمة تحويلات الإناث المهاجرات.

أي أن العامل الذكر يحتاج إلى عامين لاستعادة تكاليف هجرته بينما تحتاج المرأة المهاجرة إلى عام وثلاثة أشهر..".

ومن ناحية ثانية، قامت السعودية في وقت مبكر من هذا العام برفع الحظر عن استقدام العمال البنغاليين والذي امتد لست سنوات، ليستفيد منه 11 فئة من العمال المدربين وغير المدربين بمن فيهم الفئات الأكثر ضعفاً من عمال الزراعة والبناء والذكور من عمال المنازل.

ولم يكن الحظر قد شمل عاملات المنازل اللواتي يكاد يصل عددهن إلى 60 ألف عاملة في المملكة العربية السعودية. وتقدر بنغلاديش العدد الإجمالي للعاملين في المملكة بـ 1.3 مليون عامل وعاملة رغم أن إحصائيات المنظمة الدولية للهجرة الأكثر تحفظاً تحددها بـ 976.223 عامل. ووفقاً للسفير البنغلاديشي في السعودية، غولام موشي، تدخل ستة آلاف عاملة منزلية إلى السعودية كل شهر، حيث الحد الأدنى لأجر العاملة البنغالية 200 دولار مقابل 400 دولار للعاملة الفيليبينية.

بينما تتحفظ بنغلاديش على ذكر قسوة الواقع في المملكة، تتقدم للملك السعودي بالشكر على ما تعتبره قراراً سمحاً، متناسية أن عجز العمالة السعودية هو ما يجعلها بأمس الحاجة لاستقطاب العمال من الخارج، خاصة وأن الدول الأخرى المصدِّرة للعمالة، التي تتخذ موقفاً ناقداً لسياسات العمالة المهاجرة المتبعة في المملكة، لا تُظهر مثل هذا الحماس لإرسال العمال إليها. إضافة إلى أن امتنان بنغلاديش يتجاهل سوء معالجة السعودية لأزمتها الاقتصادية التي خلَّفت عشرات آلاف العمال العاطلين عن العمل والمحاصرين.

وكان قرار رفع الحظر قد صدر إثر لقاء بين الملك السعودي سلمان ورئيسة وزراء بنغلاديش شيخة حسينة في شهر يونيو 2016.

 

معضلة الإناث

سوبريا مدربة في منظمة "OKUP" غير الحكومية في داكا، وتنشط بين المهاجرين في تسع مناطق من بنغلاديش. وتقدم مع فريق عملها تدريبات ما قبل المغادرة للمهاجرين إضافة إلى تعليم عائلاتهم.

ومع ذلك ما تزال الصور النمطية والآراء المسبقة عن النساء المهاجرات راسخة بقوة في بنغلاديش. وما استهجان جمال سوى شكل ملطَّف مما تواجهه سوبريا خلال عملها يومياً.

"لا يُنظر إلى المرأة المهاجرة نظرة إيجابية. وقد وجدنا أن مَن يخترن الهجرة هن اللواتي يعانين من تردي أوضاعهن الشخصية. المطلقات والأرامل أو المتورطات في زواج فاشل. إذ يشكل السفر من بنغلاديش إنقاذاً للكثير منهن مهما يكن الثمن، ولذلك يغدو ممكناً لهن تحمّل تلك الوصمة".

ولهذا السبب تركز منظمتها جهدها على تدريبات ما قبل اتخاذ القرار، لأنه ما أن يتخذ المرء أو المرأة قرار الهجرة يفقد أسباب قوته. ويتعين عليه بنفس الوقت دفع مبالغ مالية كبيرة للوسطاء أو الوكالات. حيث تدفع المرأة الراغبة بالهجرة ألف دولار وسطياً ويدفع الرجل 3 آلاف دولار.

أما التدريب الذي جعلته حكومة بنغلاديش إلزامياً فخالٍ من أي توجيه يتعلق بالحقوق أو بالخلفية الثقافية لبلدان العمل، ويقتصر على تعليم اللغة (لمدة ثلاثين يوماً). الأمر الذي تظهر آثاره جلية لدى مئات النساء اللواتي ينتهين ضعيفات غير قادرات على التكيف في بلدان تنعدم أو تكاد تنعدم فيها آليات حماية عاملات المنازل.

ولذلك يحق لنا أن نتساءل لماذا لا تجد تلك المخاوف التي تشغل بال أناس مثل جمال صدى واسعاً لها في أروقة السلطات وأوساط صانعي القرارات؟!