لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

"لحظة وصولي إلى ذاك المنزل أدركت معنى العبودية"

في 1 ديسمبر 2016

في شهر مايو الفائت كنا قد وثقنا قصة غلوريا العاملة المهاجرة من غانا التي نجت من سوء وتعسف المعاملة وتدبرت أمر رحيلها عن الكويت. وتابعنا منذ ذلك الوقت المزيد من قصص الغانيّات العالقات بعد أن وقعن في فخ الوعود الكاذبة بالعمل والراتب الجيدين في الكويت.

وبما أن مصالح دول الخليج العربي في سوق العمل الإفريقية تُعتبر حديثة النشأة نسبياً، ما تزال سبل استقدام وتوظيف العمالة فوضوية وغير منظمة بما يسهّل عمليات الاستغلال، ويزيد التعسف في معاملة القوى العاملة المهاجرة إلى حدٍّ دفع غانا لحظر سفر مواطنيها من المستقدمين تحت تأشيرة العمالة المنزلية (visa-20)، منذ أبريل 2016، حيث تقوم غانا بإنقاذ العشرات شهرياً من النساء الهاربات من التعسف وشدة الاستغلال في منازل الكويتيين. وعلى الرغم من الحظر ما زال توظيف وتوريد العمالة المنزلية مستمراً من خلال سماسرة وسطاء قادرين على إدارة العملية سراً.

وفي ذات الوقت، تُقرّ الأوساط الدبلوماسية الغانيّة أنه لا يجوز الاستمرار بعمليات توظيف العمال والعاملات إلى الكويت دون إبرام اتفاقية معها تضمن حقوقهم، خاصة أن غانا ليس لديها سفارة أو قنصلية في الكويت ترعى شؤون ما يقارب الخمسة آلاف عامل وعاملة منزلية من مواطنيها، الأمر الذي يضطرهم للتوجه إلى السفارة الموجودة في السعودية لتسوية أمورهم.

وقد قامت وسائل الإعلام الغانية بتوثيق العديد من قصص العمال العالقين في الكويت بشكل خاص، وفي دول الخليج العربي عامةً، حيث يتعرض العمال والعاملات إلى أنماط متشابهة من التعسف وسوء المعاملة.

وعود كاذبة واستغلال

في عام 2013، بدأت تظهر للعلن قصص تعرض العاملات الغانيّات للاستغلال والتعسف في الكويت، لكنها ارتفعت إلى حد كبير خلال عامي 2015 و2016. فقد أوردت وسائل الإعلام المحلية في مارس من عام 2015، أخباراً عن وجود 500 امرأة غانيّة عالقات في الكويت. وفي حين أنكرت سلطات غانا صحة هذه الأرقام توالى ظهور القصص الفردية تباعاً، ليتبين معها أن العديد من هؤلاء النسوة متعلمات ومؤهلات وذوات خبرة كنّ قد تلقّين وعوداً بالعمل في قطاعات رسمية وبساعات عمل معقولة وظروف معيشة لائقة. لكنهن وجدن أنفسهن محصورات بالعمل في الخدمة المنزلية، ومعرّضات للتجويع والضرب والانتهاكات الجنسية. وعندما يطالبنَ بإعادتهن إلى بلدهن بعد اكتشافهنّ العمل الحقيقي المحدد لهن يدفعهن الوكلاء بالعمل لتجميع أجور وتكاليف خروجهن من البلد وإعادتهن أو تدفعها عائلاتهنّ الثمن. ووفقاً لإدارة الهجرة في غانا، تمكنت 350 امرأة غانيّة من العودة من الكويت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2015.

قيل لغلوريا أنها سوف تقبض راتباً شهرياً يتراوح بين ٦٠٠ إلى ٨٠٠ دولار أمريكي لقاء العمل في إحدى شركات شحن البضائع، فاستقلت الطائرة للاستفادة من الفرصة المعلن عنها في الصحف وتبعتها مباشرة شقيقتها وإحدى الصديقات. ولم يطل الوقت حتى اكتشفن جميعاً أنهن سوف يُوظَّفن كعاملات منازل لخدمة عائلات ممتدة، وممنوعات من مغادرة منازل أرباب العمل.

أخبر رب العمل غلوريا أن عليها إما دفع مبلغ 700 دينار كويتي لترك العمل أو إكمال فترة العامين المسجلة في عقد عملٍ لم تضع توقيعها عليه أساساً. وهكذا وجدت نفسها تعمل كل يوم من الساعة الخامسة فجراً حتى منتصف الليل. تطهو الطعام وتنظف المنزل وتجالس الأطفال محرومة من فترات الراحة وأيام العطلة، مع أن قانون تنظيم العمالة المنزلية في الكويت يضمن الحق بفترات الراحة وأيام العطلة إلى جانب ضمانه حقوق أخرى، إنما كحبر على الورق! ولما فقدت غلوريا القدرة على الاحتمال، بعد مرور ما يقارب الشهرين، لجأت إلى شبكة الانترنت فوجدت طريقة للهرب من المنزل وسافرت مع شقيقتها وصديقتها ليلجأن معاً إلى مأوى عاملات المنازل حيث وجدن أنفسهن يتعرضن لشكل آخر من أشكال المعاملة المسيئة، حتى أن العاملين في المأوى لم يحاولوا أن يستردوا لهن رواتبهن وتعويضاتهن المستحقة عن عملهن. يمكن قراءة قصة غلوريا كاملة هنا.

وفي قصة أخرى من هذا النوع، وجدت مآمي ياء ذات الـ 18 عاماً نفسها معزولة لدى أسرة كويتية بعد أن كانت قد وُعِدَت بالعمل في أحد المتاجر. وإثر شجارٍ وقع بينها وبين ابنة رب عملها سلَّمها الأخير لقسم الشرطة الذي أمر وكالة التوظيف بترحيلها. وبدلاً عن ذلك أرادت الوكالة التوسط لـ "تسوية" الوضع مطالبةً مآمي بتهذيب سلوكها ومحاولةً إقناع رب العمل بإعادتها للعمل لديه. علمت مآمي أن الوكالات تقوم بحبس أعداد كبيرة من العاملات في غرف صغيرة سعياً لدفعهن من خلال التخويف نحو العودة للعمل ثانية، ويلجأ بعضها إلى حرمانهن من الطعام والشراب، بدلاً من أن يوفر لهن ملاذاً آمناً، ولمثيلاتهن من النساء الهاربات من التعسف.

واتى مآمي الحظ حين التقت برجل غاني أثناء وجودها في الوكالة وأخبرته بقصتها، فقام بإعلام سفارة غانا في السعودية التي نجحت بإنقاذها، وتمكنت من العودة إلى بلدها في يوليو 2014، لتروي ما حدث معها ومع بنات بلدها، إذ كانت الوكالة تحتجز امرأتين غانيتين إحداهن حامل. ويعتبر الاغتصاب، بتأكيد من سفير غانا، جزء من السلوك العنفي الممارس ضد هؤلاء النساء، وكذلك إجبارهن على ممارسة الدعارة وفق ما ورد في أحد التقارير الإعلامية.

عاملوني معاملة لا تليق حتى بالحيوانات

وأجـبروني على الخـدمة مثل عبدة لديهم

وفي مايو 2015، تم تدوال صور لطيفة آدامز، البالغة 18 عاماً من العمر، بعد أن أنقذتها سفارة غانا في السعودية.

"بدأت ملحمة لطيفة بقبولها عرضَ توظيفٍ كممرضة في الخليج حيث يتعين وفقاً للوعود أن تتشارك في السكن مع نساء أخريات من غانا، وأن تُقلّها حافلة من وإلى مكان العمل. وعندما رأت أنها ستنتهي للعمل خادمة في المنازل طلبت إعادتها إلى بلدها ولكن طلبها ذهب أدراج الرياح. ووجدت نفسها يوم وصولها إلى الكويت في وكالة التوظيف محشورة مع تسع فتيات في غرفة صغيرة تضيق بهن، وبين الحين والآخر تؤخذ إحداهن من الغرفة إلى رب عملها الجديد. "لقد أخبرنني أنه قد تمّ بيعي لعائلة كويتية كي أعمل لديها كخادمة". وحينما اتصلت بوكيل توظيفها الغاني طالبها "ألا تثير أي ضجة"!

لطيفة في غانا أثناء تعافيها من إصاباتها. (المصدر: citifmonline).

لطيفة في غانا أثناء تعافيها من إصاباتها. (المصدر: citifmonline).

عندما تتذكر لطيفة ظروف حياتها لدى رب عملها تقول "تعرضت لديهم للضرب والإهانة والتجويع. والحبس الدائم في المنزل. حتى عندما يدخلون إلى الحمام كانوا يحتفظون بمفاتيح الأبواب معهم. جدران المنزل كانت بمثابة سجن لي".

كانت تعمل 20 ساعة يومياً تقوم خلالها بمختلف أنواع العمل من الغسيل والتنظيف وطهي الطعام ومجالسة الأطفال، دون يوم عطلة واحد. حتى أنها ممنوعة من استخدام الدوش إذ كان رب عملها يملأ لها طشت ماء صغير لتستحم! وإذا وجدت "المدام" قلة نظافة في المنزل كانت تضربها بعصا المكنسة أو تعليقة الثياب إلى حدٍّ أدى إلى إصابتها بالإغماء في إحدى المرات. الحال الذي تصفه لطيفة بالقول "لقد عاملوني معاملة لا تليق حتى بالحيوانات وأجبروني على خدمتهم كأنني عبدة لهم"!

وحين تمكنت لطيفة ذات مرة من الهرب بعد تعرضها للإهانة والضرب ولجأت إلى الوكالة، أخبروها هناك أن عليها "التحلي بالصبر" محذرين إياها من مخاطر الهروب! وحال قدوم رب العمل إلى الوكالة لاصطحابها إلى المنزل مجدداً انهال عليها بالضرب أمام موظفي الوكالة الذين لم يحركوا ساكناً.

ولم يكن إنقاذ لطيفة من هذا الوضع أمراً سهلاً، فقد جاء من خلال حادث انفجار غاز في المطبخ أدى لإصابتها بجراح وحروق شديدة، زاد سوءها أن رب العمل أبطئ بإسعافها رغم أنها كانت تتوسل أخذها للعناية الطبية. وفي النهاية أُدخِلَت لطيفة إلى المستشفى لكن حروقها الخطيرة أدت إلى نقلها لمستشفى آخر حيث مكثت 33 يوماً. ومع شدة الآلام التي تحملتها وحيدة دونما أحد يرعاها لم يكن يدور في ذهن لطيفة آنذاك إلا الانتحار.

أُحيط سفير غانا في السعودية بقضية لطيفة فأتى لنجدتها. وتبين وفقاً لتصريحاته أن المستشفى الكويتي لم يقدِّم لها حتى مضادات الالتهاب الحيوية. واتخذ إجراءات إعادتها إلى غانا حيث خضعت لعدة عمليات جراحية في بقاع مختلفة من جسدها ما بين عنقها وفخذيها.

وبعد شهرين من عودة لطيفة أنقذت السفارة امرأة أخرى كانت قد دفعت مبلغاً لأحد وكلاء التوظيف كي تحصل على عمل في الكويت، ودفعت من مالها الخاص ثمن تذكرة الطيران. وحال وصولها إلى مطار الكويت صودِر جواز سفرها ووُضعت في إحدى الغرف مع نساء أخريات لمدة سبع ساعات إلى أن أتى أحد موظفي الوكالة لاصطحابها. وبعد يومين من محاولاتها الفاشلة للاتصال بعائلتها في غانا استسلمت وذهبت إلى منزل رب عملها: "منذ دخولي إلى ذاك المنزل أدركت معنى العبودية".

كانت تعمل 20 ساعة في اليوم إلى أن تمكنت من ربط هاتفها بشبكة الانترنت وطلب المساعدة من المجموعات المحلية التي أمّنت لها وسيلة التواصل مع السفارة الغانية، وتمت إعادتها إلى بلدها في نهاية الأمر.

كل العمال المهاجرين عرضة للاستغلال

عبداللاي الباقي في الكويت. (المصدر: 2:48 AM blog).

عبداللاي الباقي في الكويت. (المصدر: 2:48 AM blog).

لا يقتصر توريط القادمين من غانا ومحاصرتهم في الكويت على العاملات النساء، فالرجال مثلهن يتلقون العروض والوعود بأعمال متواضعة في الشركات الكويتية أو في مجال الحراسة، ثم يجدون أنفسهم منتدبين للعمل في المنازل كسائقين أو في ما هو أسوأ كرعاة في الصحراء منقطعين عن بقية العالم. وبما أن القوانين الكويتية تعتبر الرعي جزء من العمالة المنزلية فلا حق للرعاة بأن يشملهم قانون العمل الكويتي.

وقد روى أحد العمال الغانيين واسمه عبداللاي ما حدث معه لإحدى المدوَّنات الكويتية كي يثبت للناس أن "العبودية لم تنته بعد".

سابقاً كان عبداللاي يكسب جيداً في غانا من خلال عمله بتدريس اللغة الإنكليزية والرياضيات لأطفال المدارس. لكنه في الكويت جوبه برب عمل يحاول احتجاز رواتب عمله لعدة أشهر! وبعد أن كان موعوداً بتقاضي راتب ألف دولار شهرياً، لم يتلقَّ سوى 70 ديناراً كويتياً، أي ما يعادل 230 دولاراً فقط! وبلا كهرباء في مكان إقامته، ويعمل تحت قيظ الشمس في العراء حيث تصل درجة الحرارة في بعض الأحيان إلى 60 درجة خلال فصل الصيف. ويذكر عبداللاي أنه شهد بأم عينه زملائه وهم يضربون من قبل رب العمل وأنه مضطر لتحمّل كل هذا الاستغلال حتى نهاية عقد عمله طيلة عامين، لكونه ممنوعاً من تغيير رب عمله أو مغادرة الكويت بدون إذن منه.

ومن جهته، يذكر سفير غانا إلى السعودية أن سفارته تتلقى ثلاث أو أربع قصص مشابهة من عمال المنازل يومياً. ويضيف: "يتفشى هناك، على نحو واسع ودون محاسبة، نمط واضح من الاغتصاب والاعتداء الجسدي وإساءة معاملة عاملات المنازل الغانيّات".