في خضمّ أزمتها المستمرّة، تحرص قطر أشدّ الحرص على أن تظهر للعالم عدم تأثرها بالحصار الإقليمي المفروض عليها. ومع اقتراب الحصار من بلوغ الشهرين، يرفض الرباعي العربي الذي تقوده السّعودية خفض حجم مطالبه. وهذا يعني أن الحصار قد يستمر لعدة أشهر إضافية، ولعلّ أشدّ المتأثرين به هم العمالُ المهاجرون المهمشون أصلا قبل بداية هذا الخلاف.
بدلاً من التعامل مع العواقب السلبية المحتملة لهذا الحصار، أصدرت وزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية في قطر تسجيلاً لفيديو يرسم صورةً ورديةً ولا تمت إلى الواقع بصلة عن حقوق العمال فيها.
وخلال زيارةٍ جرت مؤخرًا إلى قطر، قيّمنا في موقع Migrant-Rights.org الذي يُعنى بحقوق المهاجرين كيف تؤثر وقائع الحصار على العمال المهاجرين ذوي الدخول المنخفضة.
بناءً على هذا التقييم، نذكر أبرز ثلاثة مخاوف برزت على السطح، وهي:
الإجازات القسرية
لقد طُلب من العديد من العمال المهاجرين في مختلف القطاعات والطبقات الاقتصادية أن يذهبوا قسرًا في إجازة مطوّلةٍ وغير مدفوعة الأجر. سينشر موقع Migrant-Rights.org تقريرًا معمقًا بشأن هذا الإجراء في غضون الأيام القليلة القادمة. بالنظر إلى الغموض الذي يلفّ مستقبل هذه الأزمة، وعدم القدرة على التكهن بمآلاتها، ترفض سفارات الدول الأصلية للعاملين الإفصاح عن مشكلة الإجازات القسرية إلى العلن. رغم ذلك فقد استلمنا تأكيداً من سفارتيّ دولتين آسيويتين على الأقل عن تلقي شكاوى بشأن إجبار عاملين على أخذ إجازات. وعلّق أحد المسؤولين العمّاليين على ذلك بالقول: "يُعطى البعض جزءًا من مستحقات نهاية الخدمة، ولكنّ آخرين محرومون منها حتّى. وما الذي يضمن إعادتهم إلى أعمالهم بعد مضي أربعة أو ستة أشهر يا ترى؟ أم أن أموالهم ستسدّد إليهم ها هنا إذا ما ألغيت تأشيراتهم؟".
سفارتا دولتين آسيويتين أكّدتا أنهما تلقّتا شكاوى عن إجبار عاملين على أخذ إجازات قسرية. في حين قال مسؤولٌ في السفارة السريلانكية إن الشكاوى المتعلقة بالإجازات القسرية ما تزال أقل بكثيرٍ من الشكاوى من عدم دفع الأجور.
فقدان الوظائف
لقد أعطي عاملون في قطاع البناء، ولا سيما أولئك الموظّفين لدى شركات التوريد، مهلةً تتراوح مدتها بين أسبوعين وأربعة أسابيع للعثور على أعمال بديلة أو مغادرة البلاد.
وتكشف لقاءاتنا وأبحاثنا في هذا الشأن أن المشكلة ستتفاقم مع نفاذ العرض الحالي من مواد البناء. وتستعدّ الشركات لذلك بتجميد علاقاتها مع شركات استقدام العمالة الأجنبية. أكثر العمال تضررًا الآن هم المتعاقدون من الباطن*، ما يعرّي الممارسات الاستغلالية التي تعجّ بها سلسلة توريد القوى العاملة.
تعتمد مشاريع البناء العملاقة بصورةٍ كبيرةٍ على المتعاقدين من الباطن، وذلك وفقًا لما تكشف عنه الإجابات عن استبيانات مركز موارد الأعمال وحقوق الإنسان. تتضمن الشركات المسؤولة عن بعض أكبر مشاريع البناء في البلاد: مجموعة الديار - بن لادن القطرية السعودية، والتي تشغّل 9000 عاملا مباشرةً إضافةً إلى 4800 آخرين من خلال متعاقدين من الباطن. وإس إن سي - لافالين، والتي تشغّل 1706 عاملا مباشرةً و2314 من خلال شركات توريد اليد العاملة و838 آخرين من خلال متعاقدين من الباطن.
ولشركة إنترسيرف ثلاث مؤسسات مرتبطة في قطر لديها 10417 موظفًا مباشرًا و2600 آخرين يعملون بموجب عقود من الباطن.
وبينما قد تمتثل هذه الشركات الكبيرة للمعايير السائدة، فإن المتعاقدين من الباطن، ولا سيما أولئك المتدرّجين في أدنى سلسلة التوريد، يعملون على الأغلب في نطاقٍ مرتفع البطالة.
تذكر التقارير التي أعدّها موقع Migrant-Rights.org إضافةً إلى تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2016 بالتفصيل هذه المشكلة في سلسلة التوريد.
أعطي عامل تحدثنا إليه من جنوب آسيا مهلةً حتى يوم 15 آب / أغسطس كي يجد عملاً آخر. ونظرًا لحظر العمل في منتصف النهار، فإنه يعمل في ورديتين متقطعتين تنتهي ثانيتهما عند حوالي الساعة 11 ليلاً. وكان يشتكي بمرارةٍ قائلاً: "من أين سنأتي بالوقت للبحث عن عمل؟ وهل وقتنا كافٍ بالله عليكم".
المواد الغذائية
هناك في المتوسط زيادةٌ بنسبة 10 إلى 15% في أسعار المواد الغذائية. وبينما لا يعدو الأمر كونه مجرّد قرصةٍ يكاد لا يشعر بها المواطنون القطريون الأثرياء والمقيمون الذين يحظون بوضعٍ جيدٍ، إلا أن ارتفاع الأسعار يلقي بعبءٍ ثقيلٍ على كاهل محدودي الدخل من المقيمين. لقد رفعت المقاصف القريبة من مساكن العمّال أسعارها بمقدار ريالٍ أو اثنين للوجبة الواحدة. وفي هذا الصدد، يشرح أحد العمال الذين تحدثنا إليهم السبب في أن تناول الطعام في الخارج لم يعد مجديًا من الناحية الاقتصادية. يقول: "معظمنا لا يسعه تناول الوجبات في الخارج. فعليك أن تدفع بين 5 إلى 6 ريالات على وجبة الإفطار، أضف إليها 10 أو 7 أخرى على الغداء. وهذا يعني 22 أو 24 ريالاً في اليوم، أي 600 ريالا تقريبًا في الشهر. ويكاد يضاهي ذلك راتبنا بأكمله. ولذلك نفضّل شراء حاجياتنا والطهي بأنفسنا. إن هذا هو السبيل لضبط إنفاقنا على نحوٍ أفضل.
الحال يزداد صعوبةً بالفعل. فقد أصبحت أسعار كل شيءٍ أعلى بـ 10 إلى 15%. فقد كنا نحتسب حواليّ 200 ريالا أو نحوها شهرياً لمصاريف الطعام، أما الآن فعلينا أن نضع جانبًا 250 ريالاً".
يتجلّى تأثيرٌ آخر في المساكن التي تقدم الطعام. ففي المدينة العمالية بقطر، هناك مطابخ صناعية، فضلاً عن أن الطعام يقدّم إلى العاملين.
بيد أن تغييرًا قد طرأ في نوعية الأطعمة المقدّمة. يقول بيمال، وهو أحد نزلاء المدينة العمالية: "لقد اعتدنا أن تُقدّم إلينا الخضروات والفاكهة كل يوم. أما الآن، فلا طعام يُقدّم إلينا سوى اللحم مع قليل من الخضروات. أما الفاكهة فقد انعدمت تمامًا. ويصيبنا ذلك، خصوصاً مع العمل في الخارج تحت أشعة الشمس الحارقة، بتشنجاتٍ معِدِيّة".
تنحدر نسبة كبيرة من العاملين الذين تأويهم مساكن المدينة الصناعية من نيبال، وهم غير معتادين على تناول اللحم بصورةٍ يومية.
حثّ نائب مدير برنامج القضايا العالمية لمنظمة العفو الدولية، جيمس لينش، قطر على استثمار هذه الأزمة لإحداث تغييرٍ ملموسٍ في صالح العاملين المهاجرين.
حيث كتب قائلاً إن الحكومة إذا ما مضت في طريق "متابعة تعزيز الإصلاحات الجوفاء، فإن إساءة معاملة العمال المهاجرين ستكون الهدية التي ستواصل إعطاءها إلى معارضي قطر السياسيين".
ويستدرك: "مشكلة قطر أن الانتقادات التي توجه لها من قبل جيرانها قد تكون مليئة بالمعايير المزدوجة إلا أن إساءة معاملة العمال المهاجرين فيها في الأساس ليست خبرًا مفبركًا".
يضيف لينش "تنتشر السخرة في صفوف العاملين المهاجرين في قطر. فيما لم تتخذ الحكومة أية خطوات جادة للتحقق من العدد الكبير من الوفيات غير المبررة بين الشباب العاملين -ومعظمهم من جنوب آسيا- ويقومون ببناء البنية التحتية للبلاد"، على حد تعبيره.
*التعاقد من الباطن هو عبارة عن عقد باطني (عقد فرعي) يعطي لشركة ما حاصلة على عقد رئيسي تم إبرامه مع جهة ما تسمى "صاحبة الشغل " بتكليف شركة أو جهة أخرى تسمى "المتعاقد من الباطن"، بتنفيذ جزء من هذا العقد أو كله.