لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

[قصص من المنشأ]: في أرض الوطن الكل يتحوّل لوكيل توظيف

في 7 أغسطس 2017

ما إن يهبط المرء في "إنتيبي" حتى تقع عيناه على مشهد بحيرة فيكتوريا المتلألئة وهي محاطة بالخضرة والتربة ذات اللون الأحمر الداكن. تمتد أعناق الأوغنديين في الطائرة نحو النوافذ شوقاً لرؤية أرض الوطن قبل أن يحطوا بأقدامهم عليه. لا يمكن إخفاء الحماس الذي يستشعره المرء وهو يشاركههم الرحلة الجوية للعودة إلى وطنهم؛ إلى "كاتماندو" أو "كولمبو" أو "كوتشي" أو "دكا". ينظرون إلى المشاهد المفعمة بالخضرة التي افتقدوها لأعوام في المهجر، والتي تختلف تماما عن رتابة أراضي الخليج البنية.

بداخل مجمع الأقسام الموجودة بوزارة الداخلية؛ تنتشر رسائل المتاجرة

بداخل مجمع الأقسام الموجودة بوزارة الداخلية؛ تنتشر رسائل المتاجرة

بعض أولئك العائدين إلى أرض الوطن هم أنفسهم من سيساعدون آخرين على السفر إلى الخارج. إذ سيعمل هؤلاء على بيع عروض العمل والتأشيرات الحرّة "فري فيزا" مقابل رسوم باهظة (مليون إلى 2 مليون شلن)  وسيصبحون وكلاء توظيف متخفين.

في أوغندا، تعتبر هجرة العمال ذوي المهارات المنخفضة (إلى خارج إفريقيا) اتجاهًا حديثًا إلى حد ما. وما زالت الحكومات والمجتمعات المحلية والمنظمات غير الحكومية ووكالات التوظيف تتعلم كيف تتفادى الأخطاء عبر التجربة؛ ولسوء الحظ، تكلّف هذه الأخطاء بعض العمال حياتهم وسبل عيشهم. المصطلحات المستخدمة من قبل المشتغلين في هذا المجال تعد مشكلة في حد ذاتها. فعبارات مثل "خادمات للتصدير"، و"رخصة لتصدير العمال" تعكس كيف يتم النظر للراغبين بالعمل في الخارج كسلعة وليس كبشر.

لا تنكر "أتوكو غريس"، مسؤولة العمل رفيعة المستوى في وزارة شؤون الجنسين والعمل والتنمية الاجتماعية، مشكلة قلة الاستعداد للتعامل مع هذه الموجة.

وتقول بشأن العدد الكبير من حالات سوء الاستغلال المبلغ عنها: "في عام 2013، وقعنا اتفاقية ثنائية مع المملكة العربية السعودية، وقد واجهتنا تحديات". "يتم تهجير الفتيات دون تدريب قبل المغادرة. وقد شاركت الحكومة في تدريب حراس الأمن وغيرهم، بيد أنها لم تفعل ذلك مع العمالة المنزلية".

ليس هناك خبرة أو تدريب

وعندما تم الإبلاغ عن حالات سوء الاستغلال على نطاق واسع، حظرت أوغندا مواطناتها الإناث من الذهاب إلى الخليج للعمل في المنازل. لكن في مايو، صدر قرار برلماني برفع الحظر الذي كان ينص على أنه لن يتم تسفير العمال إلا إلى البلدان التي وقعت أوغندا معها اتفاقيات.  

تقول "غريس": "لقد وقعنا مؤخرًا اتفاقية مع الأردن. كما أعدنا مراجعة اتفاقيتنا مع المملكة العربية السعودية. لا نريد أن نرتكب الخطأ نفسه الذي وقعنا به أثناء توقيع الاتفاقية مع السعودي؛ لذا دعونا إلى تقديم مقترحات بإنشاء مراكز تدريب قبل السفر".

في وقت سابق، عندما كان يتم إرسال العمالة المنزلية من خلال القنوات الرسمية، كانت الوكالات نفسها من تتولى عملية تدريب العمالة قبل مغادرتها أوغندا.

"كان التدريب يتعلق باللغة، والثقافة وكيفية التصرف في المنزل وكيفية استخدام الأجهزة الإلكترونية ونحوه. ولكن لاتوجد معايير معتمدة للتدريب، بل تقوم كل وكالة بتعليم الأمور التي تراها مهمة".

ورغم أن الوكالات مرخصة من قبل وزارة الخارجية، إلا أن الحكومة لم تكن تشرف على التدريب كما لم يتم إبلاغها به.

توقف التدريب تماما؛ رغم بدائيته، حال بدء تنفيذ قرار الحظر. ويقول وكلاء التوظيف الذين تحدثنا إليهم إنه لم يقدم أي منهم وظائف لعاملات المنازل.

من غير المفاجئ أن يكون الحظر غير فعّال، ومواصلة العمّال السفر إلى الخارج. فعندما يكون لديك أعمام وأصدقاء يرتبون لك مسألة العمل والفيزا، لمَ الحاجة إلى وكلاء التوظيف إذن؟

لا توجد لدى الوزارة أرقام محددة لعدد الشكاوى المستلمة؛ إلا أن "أتوكو" تصرح أنها تتلقى الكثير من الشكاوى من أسر الضحايا. "عادة ما يذهبون عبر كينيا أو تنزانيا إلى دول الخليج. ثم تخبرنا العائلات بأنهم عالقون هناك بدون تأشيرة، أو في وضع سيء".

"لا يمكنني العودة، لن يكون لي أي قيمة إن عدت إلى أوغندا بهذا الشكل. وأحتاج إلى مال لرد ديوني. كل ما أحتاج إليه العثور على وظيفة أخرى".

النجاح ولكن بأي تكلفة؟

"غادر معظم المهاجرين بشكل غير قانوني. وقد سمعوا عبر صديق أو قريب عن فرص متاحة لهم". تقول "غريس موكاوايا"، المديرة التنفيذية لمنظمة Platform for Labour Action، وهي منظمة غير حكومية تقدم المساعدة القانونية والتثقيف للعمال في سوق العمل المحلي وكذلك العمّال المهاجرين. "إن التعاون مع هؤلاء الأشخاص المتواطئين في الكذب يؤدي بهم إلى المغادرة والتورط في المشاكل".

حديث قبل المغادرة مع حراس الأمن داخل وكالة توظيف

حديث قبل المغادرة مع حراس الأمن داخل وكالة توظيف

ظل الحد الأدنى للأجور في أوغندا 6000 شلن (أقل من دولارين)، ولم يتغير منذ تحديده في عام 1984.

وتضيف "موكاوايا": "لا أحد يحصل على راتب بهذا القدر. ولأنه منخفض للغاية؛ لذا لا يمكن للمرء أن يتفاوض بشكل عادل. [قبال ذلك] فقد بدأ الناس يسمعون عن فرص. إذ منحت الاتفاقية الثنائية مع السعودية بوجه خاص تطلعات جديدة للأوغنديين؛ حتى مع إيقافها".

"الكثير من المهاجرين يعانون والكثير أيضا يستفيدون. فمن ينجحون تتغير حياتهم. وقصص النجاح تشجع المزيد من الأشخاص للقيام بالمثل".

يعمل ابن عم "موكاوايا" أيضًا في أبو ظبي. "كان يحصل على 2000 شلن يوميًا هنا. ثم ذهب إلى هناك ويحصل الآن على مليون شلن. ويقول "أنا أعمل بجد، ولكني أحصل على الفتات. وسأبحث عن وظيفة أخرى". وتشير إلى أنه لم يقل أبدًا إنه سيعود.

انتقل عثمان وصديقه حديثاً إلى أبو ظبي وتواصل مع منظمة Migrant-Rights.org.  كان ما وُعد به هو راتب 2000 درهم لقاء العمل حارس أمن؛ ولكن ما حصل عليه هو 500 درهم للعمل في مخبز. وعلى الرغم من صراعه مع صاحب العمل وتقطع السبل به في الغربة، إلا أنه لا يريد المغادرة.

"لا يمكنني العودة. لن يكون لي أي قيمة إن عدت إلى أوغندا بهذا الشكل. وأحتاج إلى مال لرد ديوني. كل ما أحتاج إليه العثور على وظيفة أخرى".

سيتغلب عثمان وابن عم "موكاوايا"، حالهم كحال الآلاف من المهاجرين إلى الخليج من قبلهم، على المصاعب ويسردون قصص النجاحات عندما يعودون في النهاية إلى الوطن. وحتى ذلك الحين، يفعلون كل ما في وسعهم للنجاح وسط هذه الظروف السيئة للغاية.

بشكل عام، يذهب العديد من المواطنين إلى الشرق الأوسط كعمال منزليين، من خلال أماكن العبادة كالكنائس والمساجد. وقد ازدادت هذه الموجة منذ الحظر.

تقول "موكاوايا" في نبرة تعلوها الحسرة: "قد يحصل عامل أوغندي في الشرق الأوسط على صفقة لجلب العمال المنزليين.  سمعت أنهم يحصلون على ما يصل إلى 300 دولار مقابل كل عامل. ويتواصلون مع الأئمة والدعاة الدينيين والقادة المحليين لمساعدتهم في جلب عمال مقابل حصول كل منهم على نصيب من الصفقة. الأمر الذي يجعلهم يشجعون النساء على قبول هذه الوظائف دون أي إدراك لعواقبها".

وتأتي العبارات المعسولة كالتالي: "عمّتي! لقد وهبك الله نعمة عظيمة، وسيرسلك إلى (...)".

بعد المكْث عامًا في شوارع "كمبالا" دون وظيفة، يكون تصديق هذه العبارات أمرًا سهلاً.

المُتاجر مقابل الوكيل

الإتجار منتشر بشكل مهول. وتستخدم كلمة وكيل كدرع لعدم لفت الانتباه للمتاجرين بالبشر.

يدير"نوح مايامبالا" وكالة توظيف توفر بشكل أساسي حراس أمن لدولة الإمارات العربية المتحدة. هو غير راضٍ عن إلقاء اللوم دائما على وكلاء التوظيف فيما يتعلق بمشاكل العمالة المهاجرة.

"مايامبالا" أيضا هو الأمين العام للجمعية الأوغندية لوكالات التوظيف الخارجية. قبل أسابيع من رفع الحظر، عقدوا ورشة عمل في أحد فنادق "كمبالا" الراقية. وخلال استراحة القهوة وجدناه وزملاءه يتحدثون بعمق فقمنا بمقاطعة حديثهم.

"حاولنا (نحن الوكالات) تنظيم أنفسنا؛ ونعمل على رصد الوضع، ونقوم بالضغط من أجل رفع الحظر، بعد أن يتم تضمين بعض الشروط طبعاً".

يواصل "مايامبالا" الدفاع عن مجموعته: "قدمت أوغندا رسميًا عاملين منزليين إلى السعودية فقط. وقد بدأنا للتو العمل في هذا المجال، حيث لم يكن لدينا أي خبرة سابقة. ثم بدأ المتاجرون في التدخل سريعًا. لا يمكنك معرفة من عانى بسببهم حتى عبر الوكالة المرخصة".

"المُتاجر" بالنسبة لهم دائما ما يكون شخصاً لا أحد يعرف اسمه أو شكل وجهه وغالبا ما يكون مشكلة ناس آخرين ولا داعٍ لأن يهتموا لها.

سألناه "إذًا هل يعني ذلك أن جميع الوكالات تتبّع معايير أخلاقية، والعمال الذين يقومون بتسفيرهم لا يواجهون أية مشاكل؟"

قوبل سؤالنا بصمت قاسٍ، وانتهت المقابلة.

في الحقيقة، قامت الجمعية بخطوات استباقية على نحو أسرع من الحكومة نفسها. إذ نظموا زيارات استطلاعية إلى الأردن والتقوا باتحاد وكلاء التوظيف هناك.

يشعر "موكاوايا" بأنه على الرغم من وجود مشاكل دائمة مع وكلاء التوظيف، إلا أن التدريب سيساعد العمال على معرفة إلى أين هم ذاهبون ونوع العمل المتوقع منهم القيام به على الأقل.

"معظم الفتيات لسن مسلمات؛ ولكنهن يضطررن إلى ارتداء الحجاب ولا يتم إخبارهن بذلك في وقت سابق".

من الجهل إلى الصراع

"تكمن المشكلة في أن الحكومة لا تروّج لقائمة وكلاء التوظيف المرخصين. إذ توجد لديها قائمة متوافرة في مقر الوزارة؛ ولكن كم من الناس سيتجشمون عناء الذهاب إلى الوزارة للاطلاع على القائمة؟ من المهم تثقيف العمال بشأن استخدام القنوات القانونية لتفادي التعرض للاستغلال. وينبغي أن تكون القائمة متاحة في مكاتب المجالس المحلية بالقرى".

يقول "موكاوايا": "عندما نحصل على شكاوى، لا يعرف معظم العمال حتى اسم من أخذهم، وإلى أين أخذوهم".

يعمل "موسيس بينوغا" منسقًا لفرقة العمل الوطنية المعنية بالإتجار بالبشر. يتكون مكتبه من رجل واحد داخل مجمع مترامي الأطراف يضم الأقسام المختلفة لوزارة الداخلية، بما في ذلك قسم إصدار جوازات السفر. في مدخل المجمع يوجد ملصق كبير يمنح للأشخاص نصائح ضد الإتجار. وعلى الجانب المقابل لتلك اللافتة توجد خيمة يصطف فيها المئات من المواطنين للحصول على أوراق جواز سفرهم.

مثل أغلب الأماكن في أوغندا، تجد فيه فضاء مجتمعياً نابضاً بالحياة؛ النساء يرتدين فساتين ملونة والرجال ببدلاتهم الرسمية الأنيقة. الغرباء يصبحون أصدقاء في دقائق معدودة. وتنشأ روابط سريعة بينهم بسبب اسم القبيلة أو ابتسامة أو وجهة مشتركة.

التأقلم مع الحياة في الخليج لا يزال يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للأوغنديين الذين اعتادوا أسلوب حياة اجتماعية نابضة بالحياة. ويساهم التدريب قبل المغادرة على المواءمة بين هذه التوقعات والواقع.  

التأقلم مع الحياة في الخليج ما يزال يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للأوغنديين الذين اعتادوا أسلوب حياة اجتماعية نابض بالحياة. وسيعمل التدريب المناسب قبل المغادرة على المواءمة بين التوقعات والواقع

التأقلم مع الحياة في الخليج ما يزال يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للأوغنديين الذين اعتادوا أسلوب حياة اجتماعية نابض بالحياة. وسيعمل التدريب المناسب قبل المغادرة على المواءمة بين التوقعات والواقع

في ظل هذه الأجواء، من السهل إلى حدّ ما فهم السبب الذي يجعل "بينوغا" يشعر بأن المشاكل التي تواجهها العاملات في دول مجلس التعاون الخليجي هي من صنع العاملات أنفسهن وصاحب العمل على حد سواء.

يتابع "بينوغا": "إن الأوغنديين ليسوا على دراية بالعمل هناك. وحتى أولئك الذين يذهبون من خلال الوكالات ليست لديهم معلومات صحيحة. ولذلك فتوقعاتهم تكون بعيدة عن الواقع الذي يكتشفونه [متأخرين] بسبب عدم حصولهم على معلومات كافية. فهم لا يفهمون الثقافة أو متطلبات العمل، كما أن هناك مشكلة كبيرة تتعلق بالقوت اليوميّ. إذ لا يقال لهم إنهم سيحصلون على خبز فقط. بالنسبة للأوغنديين، إذا لم نأكل الأوغالي (وجبة الذرة)، نشعر أننا لم نأكل شيء. وفي ثقافتنا يُعتبر تناول بقايا الطعام إهانة".

"معظم الفتيات لسن مسلمات ولكنهن يضطررن إلى ارتداء الحجاب. ولا يتم إخبارهن بذلك في وقت سابق".

ويرى "بينوغا" أن إحاطة أرباب العمل وتهيئتهم للتعامل مع العمال قبل التوظيف لا يقل أهمية عن تهيئة العمال قبل المغادرة.

"يتوقع من العمال القيام بكل شيء دون راحة أو طعام كافيَيْن. ويُجبرون على العمل حتى أثناء المرض. في الواقع، تشترط العديد من العقود على العمال في المملكة العربية السعودية دفع رسوم التوظيف في حالة عدم إنهائهم للعقد".

وعلى الرغم من أن التوظيف غير النظامي يعتبر جريمة في حد ذاته ويعزز الإتجار (التوظيف من خلال وسائل الخداع وإغراق الأشخاص بالديون لاستغلالهم)؛ إلا أنه لا يعتبر إتجارا إلا إذا قدم أحدهم شكوى.

"تعمل العديد من وكالات التوظيف العربية هنا بشكل غير قانوني على استخدام الثغرات. وهناك نوعان من التراخيص المتاحة. أحدهما داخلي والآخر خارجي. ويقول "يحصلون على ترخيص داخلي ويعثرون على العمال ويرسلونهم إلى الخارج من خلال التعاون مع المجرمين ".

وسط الجموع الكبيرة وتحت مظلة ملصقات الإتجار، لا بد أن يصطدم المرء بالضحايا المحتملين والمتعاونين في الإتجار. وفي الوقت الحالي، تمتليء الأجواء بالأمل، حيث إن سراب أحلام الثروة والنجاح في الخليج أقوى من التقارير التي تفيد العكس.