في تاريخ 29 مارس 2017، أطلقت وزارة الداخلية السعودية، بالتعاون مع 19 جهة حكومية، حملة لتعقب وضبط من تعتبرهم من "مخالفي أنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود" وترحيلهم تحت مسمى "حملة وطن بلا مخالف". وقد بدأت هذه الحملة بمهلة امتدت 120 يوما أعطت فيها السلطات فرصة للمخالفين لتصحيح أوضاعهم تمهيدا لترحيلهم طواعية، تلتها مرحلة شرسة من حملات الضبط الميداني في شتى أنحاء السعودية جارية حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
ووفق آخر إحصاء لوزارة الداخلية في 12 فبراير 2018، بلغ عدد الموقوفين بعد انتهاء المهلة أكثر من 592 ألفا، رحلت السلطات ما يقرب 132 ألفا منهم بينما لا يزال أكثر من 175ألفا منهم ينتظرون انتهاء إجراءاتهم تمهيدا لترحيلهم.
وقامت وزارة الداخلية بتوثيق عملياتها الميدانية عبر وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي كتويتر وسناب تشات. وقد نقلت قناة MBC مقطعا لعمليات المداهمة من قبل فرق الضبط الميدانية نرى فيه عددا من انتهاكات حقوق العمالة، مثل اقتحام فرق الضبط البيوت عنوة بعد خلع أبوابها لمجرد اشتباههم بأن ساكنيها هم من المخالفين دون الحاجة لأمر قضائي أو جنائي.
وهذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها الحكومة السعودية، ممثلة بوزارة الداخلية، على حملة تصحيح لأوضاع العمالة، فقد رعت الدولة عدة حملات تصحيحية كان أعنفها عام 2013 حين رحلت السلطات السعودية نحو مليونين ونصف من العمالة الوافدة. وقد أصدرت هيومان رايتس ووتش تقريرا حول الخروقات في حملة 2013، فصلت فيه انتهاكات جسيمة بحق العمالة الوافدة إبان احتجازها إلى لحظة ترحيلها، شملت اعتداءات جسدية ولفظية من قوات الأمن والمواطنين السعوديين، ومصادرة أموال وممتلكات وظروف احتجاز غير إنسانية. وإن كانت الحملة الجديدة شهدت ولا تزال تشهد نفس انتهاكات حقوق العمالة، إلا أنها تختلف عن سابقاتها في أن ليس من بنودها تصحيح وضع العمالة بغرض البقاء في السعودية ونقل الكفالة والعمل قانونيا، فكل مخالف يسلم نفسه للسلطات طواعية عليه مغادرة البلاد على ألا يمنع من العودة للسعودية بطريقة قانونية إن استطاع.
ولئن كانت المهلة فرجت معضلة بعض العاملين العالقين وسمحت لهم بمغادرة البلاد على مضض، إلا أنها في الأصل قائمة على مبدأ منحاز للكفيل، وتلقي اللوم والمسؤولية في مخالفة الأنظمة على الوافد الذي بالكاد يملك سلطة حول وضعه القانوني في البلد.
وقد استفاد حوالي 758 ألفا من العمالة الوافدة من المهلة المعطاة، غادر منهم 733 ألفا البلاد. وبالرغم أن وزارة الداخلية أعفت المخالفين من رسوم تأشيرة (فيزا) الخروج النهائي ورسوم مخالفات نظام الإقامة والعمل، إلا أن هذه الاستفادة كانت ممزوجة بحزن وخسارة عميقين، إذ أن عددا كبيرا ممن عدوا مخالفين ليسوا إلا ضحايا نظام الكفيل أو أنظمة العمل السعودية التي لا تقدم لهم الحماية الكافية. ففي مقابلة مع قناة الإخبارية الرسمية السعودية، ذكرت عاملة منزلية أنها مكثت في السعودية أحد عشر عاما بلا وثائق قانونية لأن كفيلها، بإهماله، لم يصدر لها تصريح إقامة، واضطرت أن تبقى في البلاد بصفة غير شرعية حتى أعلن عن المهلة.
أما أروموجام، وهو عامل هندي من ولاية تاميل نادو قدم لجدة ليعمل حمالا في سوق الخضار، فقد منحته المهلة قليلا من الأمل. فبعد أن أجبره كفيله على العمل لساعات طويلة شاقة مقابل راتب ضئيل، ولأن وسائل الشكوى والعدالة واسترداد الحقوق للعمالة بالكاد تكون موجودة أو ناجعة في البلاد، اضطر للهرب من ظروف عمله. وفي عمله الجديد في محطة وقود أصيب إصابة بالغة بعد أن صدمته سيارة مسرعة، فقد على إثرها رجله اليمنى. ولأن كفيله شكاه لوزارة العمل، ووضع "بلاغ تغيب" في سجله، فإن القانون منعه من مغادرة البلاد حتى يسوي أوضاعه مع كفيله. وبذلك ظن أروموجام أنه سيبقى في السعودية إلى أجل غير مسمى، ولكن حملة وطن بلا مخالف فرجت كربه، إذ أتاحت له إسقاط بلاغ التغيب واستطاع بدوره أن يحصل على تأشيرة خروج نهائي.
هذا وتقدر السفارة الهندية أن 67% من العمالة الهندية المستفيدة من المهلة هي عمالة ذات وضع قانوني مشابه لأروموجام، وعليها بلاغ تغيب من الكفلاء، وأتاحت لهم الحملة فرصة المغادرة من البلاد بعد أن علقوا فيها ولم يجدوا طريقا للمغادرة.
وقد أهمل العديد من الكفلاء مسؤولياتهم القانونية ولم يجددوا إقامات عمالهم، مما جعل هؤلاء العمال في وضع غير قانوني كما حصل لمئات العاملين في شركات المقاولات كشركة بن لادن وغيرها. وقد أوردت صحيفة أن شركة مقاولات في الدمام لم تجدد إقامة المئات من العمال لديها مما جعلهم بين ليلة وضحاها غير قانونيين، بل ورفضت الشركة إعطائهم جوازاتهم وبقية أجورهم، ورغم ذلك اصطفوا في طوابير في السفارة الهندية ليستخرجوا جوازات بديلة من سفاراتهم علهم يستفيدوا من المهلة ويحصلوا على تأشيرة خروج نهائي.
ولكن حصول العمالة المخالفة على جوازات قد لا يعني بالضرورة حصولهم على تأشيرة خروج نهائية من وزارة الداخلية، فقد أخبرت القنصلية العامة للفيليبين عددا من مواطنيها العاملين في سعودي أوجيه ممن لم تجدد الشركة إقامته، أنهم يعدون من العمالة العالقة في السعودية وبالتالي لن يستطيعوا الاستفادة من المهلة والحصول على تأشيرات خروج نهائي إلا بموافقة من صاحب العمل.
ومما فاقم أوضاع العمالة أن حملات الضبط الأمنية الميدانية استمرت خلال المهلة، فقد أكد طلال الشلهوب، المتحدث باسم إدارة الجوازات في وزارة الداخلية السعودية أن طلعات قوات الأمن للبحث عن مخالفين لن تتوقف، مما جعل المخالفين عرضة للاحتجاز والترحيل حتى وإن كانوا في طريقهم لتصحيح أوضاعهم أو ينوون فعل ذلك. وقد أوردت صحيفة الحياة أن وزارة الداخلية ضبطت حوالي 100 ألف مخالف في الأربعين يوما الأولى من المهلة، معظمهم سيتم ترحيله.
المرحلة الثانية:
وفور انتهاء المهلة، بدأت قوات الضبط حملاتها بكثافة، ورافقها زخم إعلامي ضخم وخطاب متوعد بأقسى العقوبات. هذا وقد ذكرت وكالة رويترز للأنباء أن العديد من العمال الوافدين ممن يريدون المغادرة لم يغادروا إما لبطء الإجراءات من الجهات المعنية في السعودية أو لأن لهم حقوقا مالية لم يحصلوا عليها بعد.
أما من لم يغادر لأنه يريد استرجاع حقوقه المالية فهم كثر. ويلما، عاملة التجميل الفليبينية، كانت قد رفعت قضية عمالية على كفيلها في السابق وكسبتها، إلا أن كفيلها لم يعد لها جواز سفرها أو حقوقها المالية. وبينما كانت تنتظر استرداد حقوقها من كفيلها، انتهت إقامتها مما جعلها في وضع غير قانوني. وعندما حلت المهلة، أرادت استغلالها والخروج من البلاد، إلا أنها لم تمنح تأشيرة خروج نهائي.
لا نريد مغادرة المملكة حتى نتابع قضيتنا
أما محمد فاروق فقد تحدث نيابة عن نحو خمسين من زملائه في العمل في شركة مقاولات في جدة قائلا "لا نريد مغادرة المملكة حتى نتابع قضيتنا." وأكد فاروق أنه وزملاءه لم يتلقوا مستحقاتهم المالية والتي يصل بعضها لمئة ألف ريال (26,666 ألف دولار) من كفيلهم منذ عام 2015 ورفعوا قضية لدى وزارة العمل. ومنذ ذلك التاريخ، يعيش العمال في ظروف صعبة بعد أن فرغت مدخراتهم، وانتهت إقامتهم، وخسروا تأمينهم الصحي. وكل ما يحصلون عليه من غذاء ومواد أساسية يتلقونه عن طريق مساعدات من الأهل والأصدقاء، فقد ذكر فاروق أنه "تلقى مالا من زوجته بعد أن باعت ذهبها في بلده الأم فقط كي تعينه على البقاء [في السعودية] ليتابع قضيته."
وقد أوردت وكالة الأسوشيتد برس في تقرير لها أن معظم المعتقلين تم ضربهم من قبل رجال الأمن ومن حاول الهرب منهم أطلقت قوات الأمن النار عليه. إضافة إلى ذلك، فقد أخبر العديد من المعتقلين أن رجال الأمن سرقوا أموالهم ومدخراتهم وتقاسموها بينهم. هذا وأضاف صادق أحمد في تصريح للأسوشيتد برس بعد ترحيله لبلده إثيوبيا أن "زنزانته التي أودع بها كانت من القذارة بمكان الأمر الذي أدى لإصابة بعض النزلاء بالمرض، لقد كانت زنزانتنا أشبه بمرحاض."
التغطية الإعلامية
الجدير بالذكر أن الخطاب الرسمي الحكومي شدد منذ بدء الحملة على البعد الإنساني، مذكرا أن الحملة هي ليست إلا هدية من الحكومة للمخالفين تمنحهم حرية العودة إلى أوطانهم دون عقوبات أو رسوم تأشيرات. لكن ما يخفيه هذا الخطاب الإنساني المظهر، هو تحميل المسؤولية واللوم على العمالة الوافدة على الرغم أن لا يد لها في أوضاعها القانونية التي تحكمها أنظمة الكفالة والعمل المجحفة بحقهم والتي تخول الكفلاء ورجال الأعمال بالتحكم بتأشيراتهم وإقاماتهم.
وبالرغم من ذلك الخطاب الإنساني، فإن عبارات المسؤولين الأمنيين لم تخل من ألفاظ مخلة بالآداب أو ألفاظ تهجمية، فقد اعتبر مسعود العدواني، مدير شرطة جدة، عمليات الضبط والاعتقال "تطهيرا" لمدينة جدة وعد بيوت المخالفين "أوكارا". والأوكار لفظ غالبا ما يطلق على مقار عصابات اللصوصية أو شبكات الدعارة. كما تعجب طلال الشلهوب، المتحدث باسم إدارة الجوازات، في معرض حديثه عن حملة وطن بلا مخالف من أي سعودي "يشغل عاملا هاربا" فهؤلاء المخالفين بنظره "يحملون الأمراض المعدية و[فيروس] الإيدز".
هذا ولم يأل أصحاب الرأي والكتاب في الصحافة العربية في السعودية جهدا في استخدام ألفاظ نابية وتهم مرسلة للعمالة الوافدة. فقد وصفت أمل بنت فهد الكاتبة في جريدة الجزيرة المخالفين بالخبثاء، أما الدكتور محمد العوين فقد عد المخالفين مصدرا من "جرائم السطو والسرقة والاختطاف والتعدي وترويج المخدرات والخمور والقوادة،" بينما اعتبرتهم صحيفة الاقتصادية في كلمتها اليومية "خطرا محدقا" يصل خطرهم إلى "التعدي البدني على المواطنين والمقيمين ورجال الشرطة والأمن العام" مغفلة بذلك الانتهاكات الجسدية المباشرة التي يتعرض لها هؤلاء من قبل رجال الأمن ومتناسية مع ذلك قلة حيلتهم وضعف قوتهم في وجه قوة جهات الأمن الجارفة.
وكانت الصحيفة الوحيدة التي نهجت نهج المدافع عن حقوق العمالة المسلوبة هي سعودي جازيت الناطقة بالإنجليزية. فقد تابعت الصحيفة قضايا العمال من نواح شتى، وغطت جزءا من تظلماتهم بصفة فريدة، وتم الاستفادة منها بصفة خاصة في هذا التقرير. ودافع خالد المعينا، رئيس تحرير الصحيفة، عبر قلمه بالإنجليزية في سعودي جازيت وبالعربية في صحيفة مكة عن حقوق العمالة، منتقدا نظام الكفالة وجشع الكفلاء مطالبا بالاستماع لتظلمات العمالة الوافدة وبمعاقبة الكفلاء المسيئين في خطاب نادرا ما يرى في الصحافة السعودية.