لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

الكمال المهيكل: العنصرية في الخليج

عندما نكتب عن العنصرية في المنطقة، ففي الغالب يتعلق الأمر بالأفراد الذين يدسون السم في الشعور تجاه الأجانب. ومن النادر أن يتم الاعتراف بأن الخطاب يجد جذوراً عميقة في الطريقة التي تبنى الحكومات فيها هذه الدول وتديرها. وكشف كوفيد 19، أنه حتى إذا لم يقم الفيروس بالتمييز، فإن الأنظمة تقوم بذلك.

في 23 أبريل 2020

إن دول الخليج سوف تكسب المعركة ضد كوفيد 19. وعندما تستقر الأحوال، وبعد امتصاص آثار ما وجّه إليهم من ضربات، سيجلبون طائرات محملة بالعمال من الدول الأكثر بؤساً، من أجل بعث اقتصاداتها من جديد. وماذا عن هؤلاء الذين يعيشون هنا الآن؟ لا بأس في الاستعناء عنهم.

ووظفت دول الخليج، وعلى مدى عقود عديدة، ثرواتها لبناء نموذج لنظام عنصري متقن للهجرة بحيث يتناسب مع احتياجاتها دون الأخذ في الاعتبار آثار هذا النظام على العمال، وعلى الدول التي يأتون منها. 

وقد تطورت الطريقة الأولية التي تمت بها إدارة العمالة الأجنبية إلى نظام مهيكل يرفض النظر إلى العامل أكثر من قيمته النفعية، وعندما تتوقف هذه القيمة فإن الأمر ينسحب على العمل والعامل أيضاً.

إن دول الخليج سوف تكسب هذه الحرب، ذلك لأنها جيدة دائماً في التباعد الاجتماعي. فهناك خدمات مخصصة لـ "العمالة المهاجرة" وهو المصطلح الذي يطلق على الأجانب من ذوي البشرة السمراء القادمين من الجنوب العالمي، ويعيشون ويعملون بمفردهم، ويُجبرون على حياة العزوبية، ويكسبون أجوراً أقل من أن توفر لهم حياة لائقة. إن هذا التباعد ليس محل سؤال، وفي أفضل الأحوال فهو مقبول كخيار وحيد وضروري ولا بديل له. إن التباعد الاجتماعي بين "المهاجرين" والآخرين موجود قبل مجيء كوفيد 19، وسوف يستمر بعده. وكل ما يفعله هذا الفيروس أنه يوفّر على هؤلاء "الآخرين" أي تأنيب للضمير على أي تمييز قاموا به أثناء تفشيه. 

إن انتقاد الممارسات التعسفية في الخليج لم تفعل شيئاً سوى مساعدة الأنظمة ودعمها بمسايرتها بالعمل في إطار ما تعتبره دول الخليج معيارً ما يجب أن يكون. 

ولدى إلقاءنا نظرة على القطاعات التي شهدت إغلاقاً، نجد أنها تلك التي تتطلب تفاعلاً بين ذوي الدخل المرتفع وأفراد الطبقة الغنية والعمالة المهاجرة متدنية الدخل – فتم إغلاق أية أعمال تتطلب التعامل المباشر مثل قطاعي التجزئة والضيافة. بينما ظلت الأعمال التي يشكل العمال خطورة فيها على بعضهم البعض، تعمل بشكل اعتيادي. ويتم عزلهم هؤلاء العمال ونقلهم في، باصات، إلى مواقع عملهم لمواصلة بناء الأحلام الخليجية البراقة، والتي اعتبرت بشكل أو بآخر بالغة الأهمية وتستحق المخاطرة بصحة هؤلاء العمال من أجلها. وهنا يتضح أن النية هي عدم تعريض أصحاب الامتيازات والشخصيات المعروفة اجتماعياً لخطر الإصابة بالفيروس. 

وحتى نكون منصفين مع هذه الدول، فإنه لم يكن هناك مفر من جميع قرارات الإغلاق والحظر نظراً لضرورتها، لأنها تعتبر الطرق الأسرع التي تُشعر الناس بالخطر وتبقيهم في منازلهم. ولكن ما يمكننا ويدفعنا لتحميلهم المسئولية هنا هو التكديس المنظم لجنسيات معينة، وطبقات معينة من العمال مما يؤدي، تلقائياً، إلى جعلهم الأكثر عرضة للضرر في أية أزمة سواء أكانت صحية أو اقتصادية. ولكن عندما ننظر إلى الوجه الآخر لكل ذلك، نجد أن هذا النموذج ساعدهم على العزل والفصل والتلاعب بالتوجيهات الخاصة بالحجر الصحي، الأمر الذي يجعل الخوف الحقيقي هو عدم تعلم الدروس من وراء ذلك. على الأقل، ذلك الدرس الذي يجعل المجتمعات الخليجية أكثر إنصافاً.

ويبدوا الامر مضحكاً وربما مزرياً أن يتم إعادة العمال إلى البيئة المهيأة لحضانة الفيروس. وليس عزلهم.

عند التمعن في قراءة نشرات كوفيد 19 الصادرة في هذه الدول، نجد أنه يتم إرشاد فئة واحدة للبقاء في المنزل، والبقاء في مأمن، والإبلاغ عند الشعور بأن الأمور ليست على ما يرام، والفحص لو تمت المخالطة بأشخاص مشتبه إصابتهم بالفيروس. 

أما للفئة الأخرى، فالأمر يصبح مختلفاً، ويكون الاحتواء عبارة عن حجزٍ في غرف مزدحمة في مكان واحد كبير، وينتظرون أن يوزع الطعام والماء يومياً عليهم. وتجرى عليهم فحوصات منتظمة عن الإصابة بالمرض، فتؤخذ درجة الحرارة وأحياناً مسحة من الأنف إن كان هناك لزوم لذلك. وفي حالة الشك بالإصابة يتم نقل العامل من هذا المكان ويتم عزله. وإذا جاءت النتائج سلبية يعاد إلى مسكنه العمالي البائس للاستحمام... وتعاد الكرة. 

والمعروف أن الأعراض لا تظهر على المصاب إلا بعد أن يكون حاملاً للفيروس لعدة أيام. إلا أنه، ومع ذلك، لا يتم فحص العمال إلا إذا بدت عليهم أعراض الإصابة. ويبدوا الامر مضحكاً وربما مزرياً أن يتم إعادة العمال إلى البيئة المهيأة لحضانة الفيروس. وليس عزلهم. 

ولكن مالذي يحدث إذا ما تأكدت إصابة العامل بالفيروس وجاءت نتيجة الفحص إيجابية، وتم علاجه، والسماح له بمغادرة المستشفى؟ إلى أين يتوجهون؟ مرة أخرى يعودون للاستحمام ... وتعاد الكرة.

إن سياسات الإسكان التمييزية بشكل كبير، وضعت لصالح هذه الدول. فإن كانت إصابة أعداد كبيرة من العمال تمثل مشكلة، إلا أنه، في الوقت نفسه، من السهل جداً الاستغناء عنهم. وفي هذه الأثناء، يبقى العمال في أعمالهم للتأكّد من "استمرارية العمل"، ويتم توزيعهم في مواقع البناء والتعمير، ولتنظيف الأماكن العامة، يستمرون في ذلك حتى يعجزون جسدياً عن مواصلة العمل. 

ستسمع يومياً عن قفزات كبيرة في أرقام المصابين بالفيروس في هذ الدول. الأخبار السيئة تأتي أولاً: نعم، بلغنا أوج المرحلة الثالثة من الانتقال المجتمعي للفيروس. إلا أن الخبر الجيد المصاحب لذلك، هو أن المصابين هم فقط من العمال، وبالتالي فبالإمكان احتواءهم لأن من غير الممكن احتواء انتشار الفيروس، وفي مرحلة لاحقة أعدهم إلى بلدانهم إذا أصبح احتواءهم غير ممكناً. 

وتخطط عدد من دول الخليج لإعادة العمال إلى بلدانهم بشكل جماعي، مع إجراء، فقط، الفحص الحراري الروتيني لهم قبل المغادرة. إن الدول الغنية تمرر المسئولية إلى بلدان الأصل التي ترزح أصلاً تحت وطأة كارثة كوفيد 19، والتي لا تمتلك سوى أنظمة صحية متواضعة لن تتمكن من استيعاب التدفق المحتمل للحالات الجديدة من الإصابات، ولا الانتشار المجتمعي الذي قد يتبعها. 

 إن الفصل الذي تقوم به دول الخليج سيؤتي ثماره. ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق في الدول الغنية الأخرى، حيث يوجد بها الأحياء المختلطة، والمرافق المختلطة العامة، ووسائل النقل العام، وحيث يكسب غالبية العمال أجوراً عادلة تمكنهم من عيشة لائقة، وحيث يكون بإمكانهم المشاركة بشكل كامل فيما تقدمه هذه الدول. 

هنا، بالإمكان بناء مستشفيات مؤقتة للعمال، بناها العمال أنفسهم على مقربة من المساكن العمالية مترامية الأطراف والقذرة دون أن يطرف جفن لأحد، اعتراضاً على هذا التمييز، بل سينظر اليه على أنه مناسب وعملي. 

وهذه هي المشكلة الأزلية ...

وباسم هذا النهج العملي، فإن دول الخليج نفذت بجلدها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. فمستشاروهم يحافظون ببراعة على استمرارية الأعمال وإدارة الكوارث، وفي عروض "Power-point" التي ينفقون عليها ملايين الدولارات، يقوم الخبراء بمدح وتلميع هذه النهج. فهم يسلطون الضوء على الانتهاكات الواضحة ومن ثم يقدمون حلولاً سهل التنبؤ بها لا تهدف إلا لتشتيت الانتباه لفترة معينة من الزمن.

ولطالما كانت الحجة المضادة المباشرة للانتقادات التي تتعرض لها دول الخليج (ولا تزال، وربما زادت الآن عما سبق)، إن هذا الوضع أفضل منه في أوطانهم. وهذه الحجة تتعمد إغماض العين عن الفروقات الدقيقة للمشاركة الاجتماعية ورأس المال. وحيث أن طموح الهجرة هي خيار لا يدركه الفقراء وغير المتعلمين، فإن الافتراض هو أن معاناتهم هذه هي من أجل مصلحتهم بشكل عام.

"مؤقتية" أشخاص دائمين  

إن قدّر لك العيش في الخليج لفترة كافية من الزمن، فسوف تدرك أنه برغم أن كل جنسية يمكن تخيلها تجدها هناك، إلا أنه لا يوجد اختلاط حقيقي. فالفصل بين المواطنين والأجانب مُحكم إلى درجة كبيرة، فمن غير المحتمل أن تلتقي أشخاصاً مختلفين تماماً عنك اقتصاديا أثناء التسوق أو المشي أو الذهاب للمتنزهات أو حتى لتناول وجبة في المطعم. 

لذلك فأنت تعيش في فقاعة تضمك مع الأشخاص الذين يشبهونك، ويصبح "الأخر" غير موجود في الواقع، فهم فقط أرقام في التقارير والبحوث. وقيمتهم تكمن في التحويلات المالية الجماعية التي يبعثونها لعائلاتهم في أوطانهم، وهي النسبة التي يساهمون بها في الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادهم. ولكن ماهي قيمتهم في اقتصادات البترول والدولار في قطر والمملكة العربية السعودية؟ كيف يمكننا تحديد مساهمتهم وملكيتهم فيما يتعلق بالثروة في الكويت والإمارات؟ 

حتى أسماؤهم غير معروفة، وإن عُرفوا فذلك لأسوأ الأسباب – أما كضحية أو كمرتكب لجريمة. حتى وفاتهم لا يتم نعيها بالأساليب المعروفة، إنها مجرد رقم آخر. 

كل ذلك، لسبب أنهم عمال "زائرون" "مؤقتون". هناك افتراض بأن لدى العمال المهاجرين في الخليج خطط قصيرة الأمد: يدفعون رسوم التوظيف، يكسبون أجراً ليس بمقدور بلدانهم أن توفره لهم، يقضون شهوراً لتسديد دين رسوم التوظيف هذه، البقاء لعامين من أجل توفير بعض المال، ومن ثم العودة إلى بلدانهم. وهذا الافتراض ليس انعكاساً لأحلام العمال، وإنما هو السيناريو الوحيد الذي تود دول الخليج أن تصدقه، وبالتالي فهو يصبح الأساس لكل الخطابات في هذا الشأن.

إليك حقيقة ممتعة، وقد يكون هذا صحيحاً للبعض وليس للغالبية. من النادر أن يهاجر العمال لعامين أو ثلاثة أعوام. فالاستثمار الذي ينفقونه على الصعيدين المالي العاطفي لا يمكن أن يؤتِ ثماره في هذا الوقت القصير. فهناك ديون لابد من أن تُسدد، ومساكن لتُبنى، وأطفال ليذهبون إلى المدارس، وزيجات لتتم، وأعمال ليتم الاستثمار فيها. إن الهجرة هي خطة حياة. وربما يقضون فترة قصيرة في عمل واحد ويعودون إلى أوطانهم بأمل الهجرة من جديد... وهكذا. 

فالفرص في بلدانهم تصبح أقل جاذبية بالنسبة لهم، وكلما تقدموا في العمر زادت المسئوليات. ولا يوجد مجال كبير لزيادة الأجر، أو التطور الوظيفي في العمل في الخليج، ولذلك فبعد مرور أربعة أو خمسة أعوام لا يحصلون حتى على التقدير اللائق لخبرتهم. فيطويهم النسيان. 

مراراً وتكرارا، عندما نقابل العمال من ذوي الدخول المتدنية الذي يعانون من صعوبات، نستمع لقولهم بأنهم أمضوا ما بين 10 إلى 15 عاماً في وظيفة معينة، وأحياناً حتى 30 عاماً دون الحصول على زيادة تذكر في أجورهم. ولذلك فكل ما يعتمدون عليه هو مراكمة سنوات الخدمة لتوفير مكافأة نهاية خدمتهم من أجل حماية أنفسهم بعد التقاعد. ووصف هؤلاء بالمؤقتين، هو صفة اقترحتها دول الخليج وقبلتها المنظمات الدولية. ولذلك فإن النادر أن نسمع عن طلب للإصلاح. مرة أخرى يساعد ذلك الدول بمسايرتها بالعمل في إطار ما تعتبره معياراً لما يجب أن يكون. 

الأمر الآخر، هو أن إطلاق صفة المؤقت عليه ينطوي على معنى مخادع – فكيف تُعرّف المؤقت إذا لم يوجد خط فاصل يمكن عبوره للتحول إلى صفة الدائم؟

يحصل العامل على رأس مال اجتماعي في موطنه إن كان محظوظاً، إلا أنهم محكومون بالاعتقاد أنهم لا يمكن أن يحققوا ذلك في الخليج، حيث يقضون أغلب سنوات أعمارهم. ولذلك فهم سيقبلون، حتى وإن كانت حياتهم معرضة للخطر، بالإقامة في أماكن مزدحمة، ويحصلون على الفحص المجاني ويتسلمون معونات الطعام، بل سيرون ذلك أقصى حق لهم يتسنى لهم الحصول عليه.

ترجمة: هناء بوحجي