نمضي قدما أم نتراجع للوراء: مالذي ينتظرنا في الاعتيادي الجديد؟
عندما نصل إلى نهاية ما نمر به اليوم، كيف سيبدو نسيج المجتمعات في الخليج؟ كيف لكل هذه الشقوق الآخذة في التوسُّع أن تُرتق؟
إن الأشياء التي افتقدناها خلال فترة الحجر في غمرة محاولتنا للتعايش مع هذه الجائحة، لن تعود إلى سابق عهدها الذي نتذكرها عليه. سوف يستمر عادل، المصري، كعادته، في استلام مفتاح سيارتك وتسليمك بطاقة صف السيارات لدى وصولك مقهى ستار بكس لاحتساء قهوتك مع الأصدقاء. وستواصل ماريا، الفلبينية، المبتسمة بسرور، تقديم مقترحاتها وهي تسجل طلبك.
وسيظل روهان، البنغلاديشي، غير مرئيٍّ وفي الوقت نفسه لا يمكن الاستغناء عنه كما هو الوضع دائماً، بينما تستمتع أنت بالجلوس في مكان خارجي نظيف، تحتسي قهوتك وتدخّن سيجارتك. سوف تتحدث عن جميع الأفلام و المسلسلات التي شاهدتها في "نتفلكس"، وعن افتقادك لدجاج مطعم "كنتاكي" تحديداً، وعن حماسك للحصول على سطل الدجاج الكبير بكامله للعشاء في مساء "غش الحمية" في نهاية هذا الأسبوع، والذي تم إيصاله إلى باب منزلك بواسطة، المصري، أيمن، فيما يتولى جوي، الفلبيني، وبدون شكوى، رفع صينيتك وتنظيف المكان بعد أن أنهيت جلستك مع أصدقائك.
سوف تقود سيارتك إلى محطة البنزين، ليملأ صابر، البنغلاديشي، خزان السيارة متحملاً الحرارة الحارقة متأملاً الحصول على ما تجود به نفسك من مبلغ إضافي يبعثه إلى ذويه مع نهاية كل شهر. بسبب غياب هذا التفاعل اليومي خلال فترة الحظر، لابد أن صابر افتقد لطف وكرم الغرباء وحُرم من المبالغ الإضافية التي كانت تحدث الفرق في حياته قبل تفشي الوباء. بعدها سوف تتوجه إلى صالون الحلاقة الذي اعتدت الذهاب اليه، ليتولى رضا الإيراني تشذيب الشَعَث الناتج محاولاتك لتعديل شعرك ولحيتك في أثناء الإغلاق.
وسوف تكون مفعماً بالحيوية والتباهي، وأنت تستعد لتناول العشاء مع الأصدقاء الذي افتقدت صحبتهم. ستتلذذ معهم بطبق الأضلاع الذي أعده الطاهي الذي لا يضاهي، الهندي، راج، فيما يقدم الطبق، النادل النيبالي، أمير الذي يبتسم دائما ويتمنى أن يحوز الطبق اعجابك ويحقق لك المتعة. ويرتدي أمير قبعته الضخمة الظريفة التي تراها أنت جريمة في حق الموضة.
في ذلك المساء، سوف تأوي إلى فراشك مبتسماً، سعيداً بأن الحياة قد عادت إلى سابق عهدها الاعتيادي بشكل تام، سعيداً لأن الأشياء كما هي في السابق بالشكل الذي يجعلك مرتاحاً.
ولكن هناك شيئاً سيكون مختلفاً، ولن يكون بمقدورك رؤيته، وربما لا تلاحظ أي فرق فيه. فخلال فترة الإغلاق، بينما كنت تنعم في الراحة بمنزلك، ولا زلت تتسلم أجرك الشهري كاملاً، وتذهب إلى النوم كل مساء ممتلئ المعدة، كان هناك العديد من الناس الذين تعاملت معهم خلال اليوم قد أُجبروا على أخذ إجازة بدون أجر. كان على أمين أن يقنن الطعام الذي يتبقى من وجبته لأنه ليس متأكدا إن كان سيتمكن من التسوق من البقالة مرة أخرى. وكانت ماريا محظوظة لأنها مازالت تتسلم راتبها ولكن زميلتها في الغرفة، أنجلا الهندية العاملة في أحد الصالونات، لم تكن كذلك. فكان عليهما الاعتماد على راتب ماريا لإطعام شخصين ودفع الإيجار. وكان روهان، الذي يعيش في الجليب، محظوظاً لأن لديه أصدقاء لطفاء من بنغلادش تولوا أمر إطعامه، إلا أنه، وقبل أن يطأ كبريائه ويتوجه إلى أصدقاءه في طلب المساعدة، كان يتلوى جوعاً وهو ذاهب إلى فراشه للنوم كل مساء.
ما سيكون مختلفاً هو الإحساس بأنك "رأسمال بشري" إذا ما استخدمنا كلمات المستشار الاقتصادي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، اي ذو قيمة (محدودة) عندما يكون السوق بحال جيدة، وعنصراً مزعجاً عندما لا يكون كذلك. ما سيكون مختلفاً هو ضرورة حمل ذكرى الشعور بالجوع، اتصالهم بأطفالهم في بلدانهم ليخبروهم بعدم علمهم متى سيتسلموا أجورهم مرة أخرى، والأسوأ من هذا كله أن تعتبر أنت اصل الضرّ وأن تُحمل اللوم لما يمر تمر به البلاد من مشاكل.
ما سيكون مختلفاً، هو الشعور المتزايد بالحذر، من عدم التأكد عما إذا كان هذا المواطن الخليجي الذي يعتمد نمط حياته عليهم لم يعد يتقبل وجودهم. أتمنى أن يتذكر هؤلاء، وهم يتعافون من هذا الشعور المؤلم، مجموعات التطوع المجتمعية التي تولت مسؤولية توصيل المواد الغذائية، وسلّمتها باليد لهم. أتمنى أن يتذكر هؤلاء أيضاً معارفهم الكويتيين الذين كانوا يسعون للاطمئنان على أنهم بخير ويقدمون لهم يد العون. أتمنى أن يتذكروا الأصوات العديدة التي أدانت العنصرية في وسائل التواصل الاجتماعي، وأتمنى أن يشاركونا جميعهم حلمنا بمجتمع ينبذ الكراهية ويقدّم عليها الكرامة الإنسانية.
منذ بدء جائحة كوفيد 19، طفت على السطح عدد من القضايا على مستوى العالم، سلّطت الضوء على مدى هشاشة العديد من الأنظمة الاجتماعية والسياسية والمؤسسية. وفي الوقت الذي تتساوى أهمية هذه القضايا، فإن العنصرية تفاقم الوضع الصعب وتجعله أكثر صعوبة وإيلاماً للكثيرين. ففي الصين كشفت تقارير عن وجود عنصرية ضد الأفارقة. أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد أدت العنصرية الممنهجة إلى تأثر المجتمعات السوداء والملونة بشكل أكبر بفيروس كورونا، بالإضافة إلى موجة التمييز ضد الأميركيين من أصول آسيوية. وفي غزة، ترك الحصار "الإسرائيلي" المفروض منذ 13 عاماً المزارعين يكافحون من أجل البقاء. وفي دول الخليج أصبح العمال المهاجرون هدفاً لخطابات كراهية الأجانب على وسائل التواصل الاجتماعي.
وحذر تقرير صدر مؤخراً عن "هيومن رايتس ووتش" من تصاعد خطاب الكراهية خلال هذه الجائحة على مستوى العالم، داعياً إلى اتخاذ خطوات فورية لتخفيف العواقب المترتبة عليه. وبينما يدعو التقرير الحكومات لـ “إدانة العنصرية بشكل متكرر وعلني" ففي الواقع، غالبا ما تتواطأ الحكومات في استمرارية العنصرية وخطابات الكراهية، وتساهم سياساتها في استمرارية العنصرية الممنهجة والكراهية. وتفشل الحكومات باستمرار، ليس فقط في إدانة العنصرية، وإنما في القيام بتغييرات حقيقية لتعزيز بناء علاقات مجتمعية أكثر قوة وتخفيف معاناة الناس. وبذلك تقع مسئولية خوض المعركة ضد العنصرية على عاتق الأفراد والحركات الشعبية.
يُعرِّف المؤرخ الأميركي المتخصص في الأعراق ومناهضة العنصرية، إبراهام إكس. كندي، العنصري بأنه "الشخص الذي يدعم السياسة العنصرية من خلال تصرفاته أو أفعاله او تعبيره عن فكرة عنصرية". ويقول:" الإنكار هو نبض العنصرية، ينبض عبر الأيديولوجيات، والأعراق والأمم". وفي حالة المجتمعات الخليجية، يبدو الإنكار وكأنه رد الفعل الانعكاسي كلما برز موضوع العنصرية، كإصرار على أنهم، كأفراد، مالم يتعرضوا للعنصرية فلا وجود لها. وبوعي أو بغير وعي، فإن التعامي عن الموضوع هو السائد متى ما تولّد جدل عن هذه الأمور. ذلك برغم أن الرفض، حتى وإن كان بنية حسنة، لواقع ضحايا العنصرية، كي لا يسيء ذلك لسمعة الوطن، يسهم في جعل هذا الواقع أسوأ. إن الاعتراف بمظالم الأصوات المهمشة وقصص المعاناة هو الواجب الأساسي الأهم الذي يمكن أن يسهم في محاربة العنصرية. ولا بد من بذل جهد أصيل لتعزيز العلاقات المجتمعية وإعطاؤها الأولوية على المحافظة على صورة وهمية وليست حقيقية إلا لمن يتربعون على قمة الهرم الاجتماعي وبالتالي فهم يعيشون في فقاعة محمية من الامتياز.
وليس مستغرباً إن قوبل الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع في وسائل الاعلام الإقليمية والدولية لسيدة كويتية تهاجم المصريين وتقول لهم بأنهم "هنا لخدمتنا"، بالسخط والغضب الشديدين. وتلك لم تكن المرة الأولى التي تستخدم شخصيات كويتية بارزة في وسائل التواصل الاجتماعي منصتها لنشر خطاب الحقد والكراهية. ففي 2018، ظهرت الكويتية المتخصصة في فن المكياج، سندس القطان على "السناب تشات" لتشتكي بغضب من أدنى المعايير التي تمكّن عاملات المنازل الفلبينيات من الحصول على إجازة ليوم واحد أسبوعيا، و حق الاحتفاظ بجواز سفرهن. ويواجه المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي في الخليج انتقاداً متكرراً لعدم استخدام منصاتهم للتطرق إلى قضايا تتجاوز الموضة والمكياج. إلا أن آسيا الشمري كسرت هذه القاعدة، وتستخدم منصتها باستمرار للتحدث عن قضايا الظلم، وخطابات الكراهية ضد الأجانب، والكرامة الإنسانية. وتتحدث مراراً عن سوء معاملة عاملات المنازل، وذكرت بوضوح على حسابها في تويتر أن الخطاب الحالي في الكويت ضد المصريين هو مهين للكرامة الإنسانية.
وقد يُعطي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واسع النطاق انطباعاً بأن هناك "طفرة تصاعد" في كراهية الأجانب في الكويت تحديداً، إلا أن هذا غير صحيح. والاختلاف الوحيد الجدير بالملاحظة، هو استقواء العنصريين وزيادة جرأتهم إلى درجة التعبير بشكل علني عن مشاعر الكراهية، وحتى دون محاولة إخفاء هويّتهم مما يعنى أنهم لا يخافون العواقب بل ربما يتوقعون أن تلاقي خطاباتهم، تلك، الترحيب. وقد ساهم في ذلك عدد من العوامل على سبيل المثال لا الحصر خطاب السياسيين المنتخبين. ومع ذلك فإن قضية العنصرية ليست جديدة على الكويت، كما أنها ليست محصورة في فئة العمال المهاجرين. فقد عانت مجتمعات البدون في الكويت من العنصرية الممنهجة على مدى عقود. كما أن في جميع دول الخليج، يعاني أبناء المرأة الخليجية المتزوجة من غير مواطن، من عنصرية ممنهجة، كذلك يواجه أبناء الكويتيين من أمهات غير كويتيات من العنصرية المجتمعية. الكويتيون المنتمون إلى خلفيات مختلفة يميزون، داخلياً، فيما بين بعضهم البعض، خاصة، وليس حصراً، عندما يتعلق الأمر بالزواج. كما يوجد الكثير من حالات العنصرية الداخلية والتمييز في المجتمعات الخليجية الأخرى.
إن حقيقة كون هذا الأمر ليس جديداً لا تجعله أقل إيلاماً عندما تشهده أو يكون عليك احتماله. فليس من السهل أن تتعرض للأذى من مكان تعتبره وطنك، إذ يتولّد لديك شعور من الصعب التخلص منه أو نسيانه، حتى بعد مرور زمن طويل على الانتهاك. خالتي، وهي فلسطينية ولدت وترعرعت في الكويت، تتابع بانتظام التطورات التي تشهدها الكويت من الأردن حيث تقيم. وخلال السنوات الماضية انزعجت لسماع ما قالته صفاء الهاشم وحياة الفهد وآخرون عن الأجانب في الكويت. وتقول أنها، لاتزال، وبرغم مرور ثلاثين عاماً على مغادرتها للكويت، يستغرقها لحظات عندما تستيقظ كل صباح لتتذكر أنها لم تعد في الكويت؛ وهذا يعكس مدى حبها للكويت وافتقادها لوجودها فيها. ولأنها تتذكر نسخة من الكويت التي ترحب وتزدهر باحتضانها التنوع الموجود على أرضها، فإن سماع مثل هذه الخطابات يصبح أكثر إيلاماً.
لا بد من استخدام منصاتنا وأصواتنا لتسليط الضوء على تجارب الذين تضرروا من العنصرية، وأن نشجب أولئك الذين ساهموا في التسبب بهذا الضرر. مرة أخرى نقتبس من إبراهام إكس. كيندي قوله "لا يوجد حياد في مكافحة العنصرية". فيتوجب على كل منا أن ينشط في مكافحة العنصرية وليس فقط أن يكون بالكاد "غير عنصري". ويعتقد العنصري أن المشاكل متجذرة في مجموعة من الأشخاص"، فيما المناهض للعنصرية "يرى جذور المشكلة في السلطة والسياسات". إن حياتنا بعد هذه الجائحة سوف لن تعود إلى طبيعتها. فتلك الطبيعة كانت مؤذية للكثيرين.
حقوق الصورة: ستيفان جيير https://flic.kr/p/5W36fR