لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

عزلة مهلكة: حياة الرعاة وعمال المزراع في السعودية

في 16 مايو 2018

لم يكن في حسبان بونيث ودامودار أنهما سيقادان لحظيرة أغنام فور وصولهما للسعودية. جاءا يعملان كصابغي سيارات براتب 1800 ريال سعودي، لكن كفيلهما استلب جوازات سفرهما وأجبرهما على العمل كرعاة لماشيته. لم تفد صرخات الاسترحام والاستجداء منهما، ولم تلق طلباتهما باسترداد أوراقهما الرسمية والعودة إلى الهند أي استجابة من صاحب العمل. أبقاهما حبيسي عمله لا يجدون مخرجا منه وحرمهما من أي مرتب مالي.

قصة بونيث ودامودار ليست استثناءا. حيثياتها وتفاصيلها هي نتاج نظام الكفالة الذي يعطي الكفلاء سيطرة مطلقة على مكفوليهم، ولا يوفر لهم آلية للشكوى أو استرداد الحقوق المسلوبة، بل يجعل من السهل على الكفلاء إجبار المكفولين على العمل في وظائف لا يقبلوا بها، أو هضم حقوقهم المالية أو عدم دفع رواتبهم بتاتا. كفيل بونيث ودامودار اكتفى بإعطائهم قليلا من الطعام يسد رمقهم مقابل إخضاعهم لعمل إجباري لم يكن بيدهم حيلة أن يفتكوا منه.

وبالرغم أن نظام العمل السعودي الصادر عام 2005 شمل العمال في المنشآت الزراعية والرعوية التي تشغّل عشرة عمال فأكثر، إلا أن نظام العمل الجديد الصادر عام 2015، يستثني رعاة الغنم والعمال الزراعيين من جميع الحمايات التي يمنحها النظام، الأمر الذي يجعلهم من أكثر العمالة عرضة للاستغلال. حتى لحظة كتابة هذا التقرير، لا يبدو أن هناك نية لدى الحكومة السعودية بتعديل نظام العمل ليغطي الرعاة والعمالة الزراعية ويحمي حقوقهم.

بالرغم من طبيعة البلاد القاسية، فقد عملت الحكومة السعودية على إنماء القطاع الزراعي منذ خمسينات القرن الماضي. تقدر مساحة الأراضي المزروعة في البلاد حوالي 30 ألف كيلو متر مربع، وتنتج السعودية 14% من الإنتاج العالمي للتمور وتحوي مزارعها على 25 مليون نخلة، تتركز معظهما في القطيف والقصيم والسواحل الغربية. كما تنتج المزارع السعودية 90% من احتياجات البلاد من الخضروات ونحو 60% من احتياجات البلاد من الفاكهة.

ويعد قطاع الماشية أحد أهم القطاعات في الاقتصاد السعودي والتصدير والاستيراد. وتربية المواشي كالغنم والماعز والجمال وغيرها جزء أساسي من تراث السعودية. تعد المملكة من أكثر الدول في العالم استهلاكا للحوم الأغنام والماعز، منها 2 مليون أضحية في موسم الحج، بينما تنتج السعودية نحو ثلث احتياجها  من لحوم الأغنام وتستورد الباقي.

أشارت الهيئة العامة للإحصاء السعودية عام 2015 إلى وجود 650 ألف عامل أجنبي في البلاد يعملون في القطاع الزراعي. ولكن هذا العدد يشمل، بالإضافة للعمالة الزراعية، التقنيين الزراعيين، البياطرة والعديد من المهن الأخرى. لا توجد إحصائيات تحدد عدد الرعاة في البلاد أو عدد العمالة غير النظامية في البلاد.

تشغيل العمالة بالطرق غير النظامية

لأن ظروف العمل في القطاع الزراعي والرعوي شاقة، والمقابل المادي ضئيل، لا نرى سوى النزر اليسير من السعوديين في هذين القطاعين. ولقد صرح مالك مزرعة سعودي في مقابلة تلفزيونية أنه من المستحيل أن يجد سعوديا يقبل أن يعمل في مزرعته. وعندما أبلغ مسؤول في وزارة العمل عن نية وزارته سعودة قطاع الرعي، تهكمت صحيفة سعودية عليه قائلة أن على الوزارة البحث عن عمل حقيقي للمواطنين بدلا من مهنة الرعي.

لشح العمالة الوطنية، فإن هناك حاجة ماسة للعمالة الوافدة التي غالبا ما توظف بطرق غير نظامية. وهذه الطرق غير النظامية قد تتم عبر تشغيل عمالة يومية تسكن في البلاد ممن لا يعرفون كفيلهم أو من ليس لهم كفيل من ضحايا تجار التأشيرات، أو استقدام عامل من بلاده لمهنة ما كسائق أو طباخ، ثم إجباره على العمل كمزارع أو راع لدى وصولهم للسعودية. واللجوء للطرق غير النظامية له عدة أسباب، أحدها أنه من الصعب على الكفيل الحفاظ على عماله لأنهم يضطرون للهرب من وظائفهم إما لأنهم خدعوا وأجبروا على عمل لم يوافقوا عليه، وإما لأن عزلتهم وظروف عملهم اللاإنسانية تدفعهم لذلك.

وتلعب الأنظمة السعودية غير الفعالة أحيانا أو المتشددة أحيانا أخرى دورا رئيسا في جعل عملية الاستقدام (أو التوظيف) غير نظامية لعدة عوامل. أولها أن تكلفة الاستقدام ورسوم التأشيرات كما تبينه لوائح وزارة الداخلية عالية الأمر الذي يشجع أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة على اللجوء لقنوات غير شرعية للحصول على العمالة.

ثانيها أن التعامل مع الجهات الحكومية في السعودية يستغرق وقتا طويلا ويتطلب جهدا واسعا. فبعكس العمالة في القطاعات الأخرى، يجب على صاحب المزرعة أو الماشية أن يحصل على وثيقة تأييد من وزارة البيئة والمياه والزراعة حتى يستقدم راعيا أو عاملا زراعيا. وللحصول على وثيقة التأييد، فإن على صاحب العمل أولا الحصول على بطاقة صحية بيطرية ماض على تاريخ إصدارها ستة أشهر على الأقل، وفترة الانتظار هذه قد تدفع عدد من أصحاب العمل على البحث عن طرق غير قانونية لتشغيل العمالة.

بالإضافة للبطاقة الصحية فإن على صاحب العمل إثبات أن عدد الحيوانات لديه أكثر من 150 رأسا للأغنام أو 25 للأبقار أو الجمال إن كان صاحب ماشية، أو إثبات أن مزرعته بها مئة نخلة على الأقل أو أن مساحتها 20 دونما على الأقل إن كان يشتغل في المجال الزراعي. لا تمنح أي تأشيرة لأي صاحب عمل لا يملك النصاب المطلوب وبالتالي يلجأ هؤلاء إلى طرق غير شرعية لتوظيف العمالة.

ثالثها هو ما صرح به صادق الرمضان، رئيس اللجنة الزراعية في غرفة الأحساء وعضو اللجنة الوطنية الزراعية في مجلس الغرف السعودية، أن عدد العمالة الموسمية المعروضة قليل جدا مقارنة بالطلب خصوصا في موسم حصاد التمر والطماطم والبطاطس، بل ويشكو بعض رجال الأعمال، كأصحاب مزارع الزيتون في القريات أو مزارع الزهور في الطائف أنه لا وجود للعمالة الموسمية على الإطلاق. وقلة أو عدم وجود العمالة الموسمية يؤدي وفقا للرمضان، إلى لجوء أصحاب المزارع للطرق غير القانونية لتشغيل العمالة الموسمية في فترة الحصاد، وهي فترة طويلة قد تمتد لستة أشهر لبعض المحاصيل. ويحمل الرمضان وزارة العمل مسؤولية لجوء المزارعين لتوظيف العمالة غير النظامية لأنها حسب رأيه لا توفر لأصحاب العمل مساعدات قانونية أو ملموسة لتعينهم على الحصول على العمالة الموسمية. وتصل تكلفة توظيف العمالة الموسمية النظامية، إن وجدت، لحوالي 3500 ريال سعودي شهريا، مما يشكل ضغطا اقتصاديا على صاحب العمل يجبره على اللجوء لقنوات غير قانونية لجلب وتشغيل العمالة.

أخيرا، تزداد تكلفة العمالة الزراعية أو عمالة تربية الماشية كلما ازداد عدد العمالة المراد تشغيلها. فوفقا للوائح وزارة العمل، تشغيل أكثر من أربع عمال زراعيين أو أكثر من أربع رعاة، يستوجب استصدار سجل تجاري أو زراعي لديها (كلفته 800 ريال سعودي)، وبالتالي فإن على أصحاب العمل الخضوع لنظام نطاقات الذي يجبرهم على سعودة جزء من موظفيهم. وبما أنه بالكاد أن يجد صاحب عمل سعوديا يرضى بالعمل في هذا المجال، فإن العديد منهم يلجأ لتشغيل سعوديين على الورق، مما يزيد تكلفة إدراتهم لعملهم الزراعي أو الرعوي.

هكذا أنظمة من الحكومة تساهم في زيادة عدد العمالة غير النظامية في البلاد. أضف لذلك انعدام التفعيل لقوانين الاتجار بالأشخاص، وقلة حيلة العمالة في الوصول للعدالة أو القضاء، كل هذا يضع هؤلاء في أوضاع لاإنسانية صعبة.

الاتجار بالبشر:

يجد العديد من العمالة المتجهة إلى السعودية ممن جاؤوا يعملون كميكانيكيين،أو سائقين أو كهربائيين أو غيرها من الوظائف أنفسهم مجبرين من قبل كفلائهم على العمل في مزارع معزولة أو رعي الماشية في أقاصي الصحراء أو المناطق الجبلية بعيدا عن المدن والقرى، ويلجأ عدد من أصحاب العمل على تهريب العمالة من دول خليجية مجاورة.

يقول محمد عمر، وهو عامل هندي هربه كفيله من قطر إلى السعودية ليرعى الماشية وأجبره على العمل ليلا نهارا بلا راحة أسبوعية: "أدعو الله كل ليلة أن يكون هذا يومي الأخير هنا وأن أعود لوطني غدا. ستجدني أبكي يوميا." ويضيف محمد شارحا عزلته اليائسة "لا أستطيع أن أحصل على إرسال لاستخدام هاتفي النقال في الصحراء. أسابيع تمضي وبالكاد نحصل على أي إرسال."

تذكر جريدة عرب نيوز أن العديد من الكفلاء لا يصدرون وثائق إقامة لمكفوليهم الرعاة أو المزارعين في المناطق المعزولة رغبة من الكفلاء أن يمنعوا عمالتهم من الهرب من رأس العمل، مما يعزز من قلة حيلة العمالة. بدون وثيقة إقامة، تعد العمالة الوافدة، حتى وإن دخلت البلاد بتأشيرة سارية المفعول، مخالفة وتعاقب وفق الأنظمة السعودية. وضع العمالة المخالف هذا يجعلهم عرضة للاعتقال من قبل رجال الضبط الذين يستهدفون بشكل خاص أسواق الخضار والماشية. أي عامل وافد يقبض عليه بدون إقامة يكون عرضة للترحيل إلا إن أثبت وضعه القانوني.

هؤلاء الذين يثبتون وضعهم القانوني عليهم دفع غرامة لأنهم لا يحملون وثيقة إقامتهم، تتراوح بين 500 و3000 ريال سعودي. وحتى إن أفرج عنهم فهم لا يزالون عرضة للاعتقال مرة أخرى إن لم يصدر لهم كفلاؤهم وثيقة إقامة. إن اعتقلوا لثلاث مرات بسبب عدم حملهم الإقامة، فسيتم ترحيلهم وفقا للوائح وزارة الداخلية.

 

الكوارث الطبيعية والحماية المنعدمة:

يعمل معظم الرعاة والعمال الزراعيين في مناطق معزولة تفتقد أساسيات الحياة الطبيعية، فلا يصلهم ماء ولا كهرباء ولا يبيتون في بيوت آمنة. توجيتي أنانتاجيري، عامل هندي ذهب للسعودية ليعمل كسائق ثم أجبره كفيله على رعي الأغنام في مكان معزول في الصحراء، قال أن الحصول على ماء صالح للشرب كان حلما بعيد المنال طيلة سبع أشهر قضاها راعيا. وبسبب الماء الملوث الذي كان يشربه الذي يصلح فقط للحيوانات، فقد أصيب بمرض في كليته.

ويعمل معظم الرعاة في مناطق صحراوية أو جبلية بعيدة عن العمران، ويبيتون غالبا في خيم أو بيوت مؤقتة لا تتحمل العواصف الرملية، أو الصواعق الرعدية أو الأحوال الجوية القاسية. وتورد تقارير صحفية وحقوقية عديدة موت عدد كبير من الرعاة بسبب هذه الظروف الجوية.  ويروي كاتايادان سوبير لهيومان رايتس واتش أن كفيله السعودي أجبره أن يعمل راعيا في منطقة نائية في الصحراء بعد أن هاجر من الهند ليعمل بستانيا، ثم وضع في مسكن لا يصلح للاستخدام الإنساني، مضيفا "أن الحرارة كانت من الشدة بمكان أن حرقت الشعر من على رأسي، والبرودة في الشتاء كانت تحول الماء إلى جليد." سوبير حاول الهرب من ظروف عمله اللاإنسانية إلا أن الحظ لم يجانبه، فقد قبض عليه كفيله، وأوسعه ضربا ثم أعاده إلى بقعته المعزولة في الصحراء ليبقى يرعى أغنامه.

وتورد صحيفة الوئام أن عاصفة رملية قلبت مسكن راع متنقل مما أدى إلى سقوط المسكن عليه وقتله على الفور. وجاء في تقرير آخر أن راعيا غرق بعد أن غمرت المياه واديا كان يرعى فيه غنم كفيله، بينما تزخر التقارير الصحفية بقصص لرعاة ماتوا أو أصيبوا إصابات بالغة بسبب الحر الشديد والعطش، أو الأجواء الباردة  أو لتعرضهم لعواصف رعدية مباشرة.

تؤول الصحافة السعودية، لدى تغطيتها لهذه الأنباء، بأن هذه الوفيات وفيات طبيعية وفق قضاء الله وقدره. صياغة الحدث توحي للقارئ أن العامل إنما توفي فقط بسبب حرارة الجو أو البرد أو العاصفة الرعدية. لا تعزو هذه التقارير الصحفية أيا من هذه الوفيات إلى إهمال الكفلاء لعمالهم أو لاستغلالهم لهم استغلالا يعرضهم للخطر، ولا تذكّر هذه التقارير قارئيها أن هذه الوفيات كان من الممكن تجنبها إن أصدرت الحكومة نظاما يضمن حماية العمالة الزراعية والرعاة ويجبر كفلائهم على توفير وسائل العيش والسكن الإنسانيين لهم. وبهذه النبرة، تبريء الصحافة السعودية أصحاب العمل والحكومة السعودية من أي مسؤولية وفاة أو إصابة لأي من هؤلاء العمال.

هجوم حيوانات وألغام

لا يعاني الرعاة والعمالة الزراعية من مواجهة مخاطر الطبيعة الجوية فحسب، فهم عرضة للهجوم من حيوانات برية كالذئاب والكلاب والحيات وحشرات كالعقارب على مدار السنة. كما يتعرض بعضهم للهجوم من مواشيهم إن تعرضت لهيجان أو لم تستجب لهم وخاصة من طرف الإبل.

ويتعرض الرعاة العاملين في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد لخطر الألغام المزروعة في الصحراء الشاسعة التي تفصل بين الكويت والسعودية والعراق من مخلفات الغزو العراقي للكويت. وطالما أتت أخبار من هذه المناطق بموت أو إصابة عدد من الرعاة سنويا لأنهم مروا على ألغام أرضية.

صعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية

تفاقم عزلة الرعاة والمزارعين تبعات أوضاع عملهم الشاقة. فمناطقهم التي يعملون فيها ليس فيها شبكات للهاتف الجوال وإن وجدت فالإرسال سيكون ضعيفا لا يعتمد عليه. وهذه العزلة تؤدي لعدد من الوفيات التي من الممكن تجنبها إذ تؤدي لتأخير الوصول لأقرب مركز صحي. وما حالات الوفاة المعلن عنها في الإعلام لأسباب كان من الممكن تجنبها لو لم يكونوا منعزلين، كالوفاة بسكتات القلب، أو بسبب نفاذ الطعام والشراب إلا دليل على ذلك.

يروي أنانتاجيري أنه أثناء عمله في منطقة معزولة قرب الحدود السعودية الإماراتية كان يقضي معظم لياليه يقتل الثعابين والعقارب في حظيرة الأغنام وغرفته المجاورة. وذات ليلة، وبالرغم من جهوده لتنظيف المكان بحرص شديد، لدغته عقربة. أفاق من نومه وهاتف كفيله مرارا وتكرارا بلا استجابة، فقرر أن يطلق ساقيه للريح ويتجه نحو أي مكان عله يجد من يسعفه. بعد أن ركض لساعات وجد طريقا عاما للسيارات، وما إن وصله حتى خارت بقية قواه ورمى بنفسه على الأرض. ولحسن الطالع، رآه سائق شاحنات باكستاني، وأخذه إلى المستشفى حيث تلقى الإسعافات اللازمة.

وفي قصة مشابهة ظهرت على السطح في مواقع التواصل الاجتماعي في يوليو 2017، يظهر مقطعا مرئيا عددا من السعوديين ممن كانوا يجولون في الصحراء ولقوا في تجوالهم راعيا على وشك الموت من العطش. ويظهر الفيديو المصورعن طريق هاتف أحد هؤلاء فاعلي الخير أنهم أعطوه جرعة ماء وقليلا من الطعام أسهمت في رد قواه وعافيته.

وصحيح أن الراعيين في هذه القصتين قد نجيا لحسن حظهما، إلا أن العديد من أقرانهما لم يكونوا محظوظين. فقد أوردت جريدة عكاظ أن السلطات في محافظة رنية عثرت على 41 جثة راع في صحراء المحافظة فقط في الفترة بين أبريل 2005 ومايو 2006. وبينما لا توجد إحصائيات تذكر في المملكة عن عدد الرعاة المفقودين في الصحاري والوديان، إلا أن من الجدير ذكر أن صحراء رنية لا تشكل سوى مساحة صغيرة من بقية صحاري المملكة حيث يجول آلاف الرعاة مع آلاف من قطعان من الماشية.

[tweetable] معظم جثث الرعاة المتحللة في الصحراء يجدها رعاة آخرون مثلهم، وكأنهم يرسلون لهم رسالة تحذير أنهم سيشاركونهم مصيرهم قريبا.[/tweetable]

الانتحار

تزخر الصحف السعودية بتقارير عن انتحار رعاة وعمال زراعيين، وبينما تؤكد الصحف أن السلطات المحلية لا تزال تحقق في الحادث، لا نجد أيا منها تتبع نتائج التحقيق أو تعلنه. وكما أوضحت تحقيقات أخرى مستقلة، فإن العديد من العمالة الوافدة يقدمون على الانتحار نظرا لأوضاعهم المعيشية والعمالية القاسية. وكما هو حال العمالة المنزلية، فإن حياة الرعاة وعمال المزارع ملآى بالعزل الاجتماعي، وهو بحد ذاته عنصر له علاقة مباشرة بالإقدام على الانتحار.

تأطير الإعلام السعودي

كما نوه المقال سابقا، لا يترك الإعلام السعودي جهدا من تبرئة الكفيل السعودي أو الحكومة السعودية من مقتل أو معاناة الرعاة أو العمالة الزراعية فمشيئة الله أو حاجة العامل الماسة للقمة العيش هي من قتلتهم. ولكن بالإضافة لذلك، يجهد الإعلام السعودي في نشر صورة مثالية للرعاة متى ما كانوا معزولين عن العمران بينما يتهجم على تصرفاتهم في الأسواق والمزارع حيث يتعاملون وجها لوجه مع المواطنين ويتجولون بين ظهرانيهم.

يمنح الإعلام السعودي آيات من الثناء لحياة الرعاة المعزولة في قلب الصحراء فهي تعكس نقاء الروح، والحفاظ على تراث الأجداد، وأهم من ذلك كله تقتدى بحياة النبي محمد الذي عمل كراع وقضى كثيرا من حياته متبتلا منقطعا عن الآخرين، يتأمل الطبيعة ويرجو أن يفهم معانيها.

في تقرير لجريدة الوطن عن الرعاة، يطري الصحفي بدر نايف عمل الرعاة بدون أي محاولة منه للتحقيق حول ظروف عملهم القاسية، فلا نجده يسأل الرعاة عن صعوبة حصولهم على الماء أو أساسيات الحياة الأخرى، ولا نراه يصف للقارئ أيا من مصاعب الرعاة اليومية، سواء كانت ألغاما مختبئة تحت الرمال، أو كانت ظروفا جوية قاسية أو هجمات من حيوانات برية ضارية.

يسأل بدر نايف أحد الرعاة قائلا: "كيف حالك يا سليم؟ فيجيب سليم "لا بأس، تعودت على كل شيء هنا إلا الغبار ليس له حل أبدا … جئت هنا لأكسب لقمة العيش وعلى ذلك فأنا متقبل كل مصاعب الغربة." بينما يجيب راع آخر اسمه أبو الحسن أنه رغم الحرارة القاسية فإن أحاديث النبي عن فضل الصيام وجزاءه يعطيه دفعا معنويا لمواجهة الحياة القاسية التي يعيشها يوميا. هكذا تأطير يجعل القارئ ينظر لحياة الرعاة بإيجابية، ويحفزه على مدح عزيمة الرعاة القوية دون أن يلقي بالا للظلم الذي يسير حياة الراعي وظروف عمله المجحفة.

وبينما تتسم بعض هذه التقارير بإيجابية ما، فإن هذا يتغير متى ما اقترب هؤلاء الرعاة من المدن والقرى ليبيعوا مواشي كفلائهم. فما إن يحط الرعاة رحالهم في أسواق البلاد المختلفة تتوالى حملات شيطنتهم في الصحف السعودية، فنراها تتهمهم بالتحزب والتكتل ليكونوا حلفا يسهل عليهم رفع الأسعار على المستهلك. الرعاة، كغيرهم من مجموعات العمالة الوافدة المختلفة، يصورون كأنهم أعضاء مافيا متحدة ضد أي رجل أعمال سعودي ينافسهم في السوق ويبيع ماشيته فيه. وهذا التأطير غاية في انعدام الدقة بل والخداع، فهؤلاء الرعاة الذين يبيعون ماشية في السوق ماهم إلا مكفولين يبيعون ماشية لحساب كفلائهم السعوديين، أغلبهم إن لم يكونوا كلهم لا يملكون الماشية التي يبيعونها.

أما عمالة المزارع فلهم نصيب من التغطية الصحفية السلبية. عنوان مقالة رئيسي في جريدة عكاظ يقول "عمال يسممون الثمار و يغتالون تربة المزارع بالكيماوي" يقصد العمالة الوافدة التي تستخدم الكيماويات لمحاربة الطفيليات وأمراض النباتات. عنوان آخر في سبق يتهم العمالة بأنها "تغمس الخضراوات بمياه المجاري قبل بيعها بالرياض." وكما هو حال الصحف في وصف الرعاة، فإن الصحف السعودية تغفل ذكر أن هذه العمالة الزراعية لا تملك مزارع أو محاصيل زراعية، وأنها تعمل لدى كفيل سعودي. فالكيماويات، والمياه ومياه المجاري ما هي إلا أدوات قدمت للعمالة من قبل كفيلها السعودي أو على الأقل تستعمل تحت علمه ومرآه.

Screenshot 2018-05-16 11.22.06

حقوق الصورة: زياد الجهني

 

وبالرغم من هذه النظرة السلبية إلا أن الرأي العام السعودي والمجتمع المدني (أيا كان مظهره) على علم باستغلال الكفلاء أو الظروف الصعبة التي يعاني منها العامل. فبعض المكاتب التعاونية المحلية للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية تنشر الوعي حول معاناة الرعاة في الشتاء، وتدعو المواطنين للتبرع لهم لشراء ملابس شتوية وملاءات. وبالإضافة لجهود الوزارة، نرى عددا من المدارس الثانوية، والكليات الجامعية، والكشافة وجمعيات خيرية تقود الجهود في أماكن مختلفة من المملكة لتوفير المستلزمات اللازمة للعمالة في فصل الشتاء. ومما لا شك أن جهود هذه الجهات محمودة، إلا أنها لا توفر سوى حلا مؤقتا لمشاكل مستفحلة.

بالإضافة لذلك، يشارك العديد من السعوديين في مواقع التواصل الاجتماعي لمناقشة قضايا  العمالة الوافدة، فنراهم يوبخون أو ينصحون الكفلاء المسيئي معاملة الرعاة. زياد الجهني، باحث في الظواهر المناخية غرد قائلا: "فصل #الشتاء على  الأبواب وما زال بعض ملاّك الإبل والأغنام لا يهتم بالراعي أو العامل ويجعله يعيش معاناة البرد في الصحراء بدون مكان يحميه من البرد والصقيع. أين ذهبت #الرحمة من قلوب هؤلاء؟ نتمنى أن يتم النظر لهؤلاء و الاهتمام بهم، فهم بشر أجبرتهم الظروف على هذا العمل."

وينتقد آخرون التغطية الصحفية المنحازة. مغردة باسم aishaowardi  تتسآءل معلقة على خبر مفاده أن راعيا توفي متجمدا في صحاري المدينة: "من المسؤل عن وفاة الراعي[؟] ... المفروض حماية الراعي من البرد باللبس والتدفئة في المكان ... فالرحمة الرحمة فيمن تحت أايديكم …" بينما يعلق مغرد تحت اسم د. نايف الشريف حول خبر آخر مشابه عن وفاة راع متجمدا في الطائف "الراعي الذي مات متجمدا من البرد في الصحراء من يتحمل إثمه؟؟؟؟ كفيله الذي لم يؤمن له المسكن الملائم أم الأنظمة العوجاء ؟؟؟"

بالرغم من المساحة المحدودة المتاحة للمجتمع المدني السعودي ممثلا بالجمعيات الخيرية ومواقع التواصل الاجتماعي، فإنه لا شك يشكل واجهة للمساعدة على رفع الوعي حول حقوق العمالة ومناصرتها وتأييدها. ولو خففت قيود المجتمع المدني، فسيكونن أداة قوية لحماية العمالة الوافدة ومساعدتها للحفاظ على حقوقها.