الفلاحون المنسيون في البحرين
فقر الوعي بالحقوق والتخوف من انعدام الخيارات يبقي عمال الزراعة المهاجرين في البحرين في اوضاعهم البائسة
يقال إن احتضان القرع العسلي من شأنه أن يمتص الطاقة السلبية ويحل طاقة إيجابية مكانها. لكن في المزرعة الواقعة في إحدى قرى البحرين الشمالية المعروفة بتربتها الزراعية، حيث تحدثنا مع حسن وقريبه شاجان لا يبدو أن هذا هو سبب اكتظاظ غرف إقامتهم، بالإضافة إلى 18 آخرين من زملائهما، بمئات من ثمار القرع العسلي بأحجام وأشكال مختلفة.
يقول حسن، 29 عاما، من بنغلادش. اعتدنا على منظر القرع العسلي، الذي نزرعه بكثره هنا، في غرف اقامتنا، فنحن نخزنه القرع هنا ونبيعه في المواسم التي تشهد طلباً عالياً عليه مثل شهر رمضان حيث يستخدم بكثرة في المرق. وأيضاً في موسم الاحتفال بالهالوين الذي يُحتفل به خصوصاً من الأجانب الغربيين في نهاية شهر أكتوبر.
ليس الغرف المليئة بالقرع العسلي هي كل ما يثير الانتباه في مكان إقامة عمال المزرعة، وإنما تدني الوضع المعيشي في الغرف الثلاثة المخصصة لنوم عمال المزرعة العشرين ( 4 هنود، 14 من بنغلادش واثنان من باكستان)، بالإضافة إلى معاناة هؤلاء العمال من غياب الكثير من الحقوق العمالية وأبرزها، انتظام دفع الأجر، ساعات العمل المحددة، والحصول على الإجازات الأسبوعية والسنوية المدفوعة، ذلك برغم من وقوعهم تحت مظلة قانون العمل البحريني.
في الغرفة الرئيسية في الواجهة حيث يحتل القرع العسلي نحو ربع الغرفة، يوجد 5 أسرة بطابقين تتناثر بإهمال فوقها الملاحف المهترئة فيما تتكدس تحتها حاجيات العمال في أكياس وعلب التي يتداخل معها القرع العسلي المتدحرج من الأكوام على الجانب.
أما الغرفتين الأخريين فهما صغيرتان وبالكاد تكفيان لحركة بسيطة حول سرير من الحجم الكبير وضع في إحداها فيما يوجد في الغرفة الأخرى فراشاً على الأرض يبدو أنه كان جزءا مكملا من سرير ضخم آخر، وامتلأت الجدران بالملابس المعلقة على حبال وعلى جوانب الأسرّة فيها. أما المطبخ فقد بدا بدائياً بموقد الغاز وأواني متناثرة وبقايا طعام، كل ذلك في شكل يفتقر لأدني معايير النظافة والسلامة.
يتكرر هذا المستوى المعيشي بشكل أو بآخر في 5 مزارع أخرى تمت زيارتها، كما تتشابه أوضاع العمل والشروط المعيشية.
وتشكل العمالة الأجنبية المهاجرة نحو 80% من إجمالي العمالة في القطاع الزراعي البالغ 9120 عامل.
وعمال الفلاحة المهاجرين في هذا المزارع يتعرضون لانتهاكات عدة لحقوقهم العمالية والإنسانية إلا أنهم اعتادوا الوضع، إما بسبب جهلهم لهذه الحقوق أصلاً وإما لسبب أن غالبيتهم هم من عمال الرخص الحرة "الفري فيزا" ممن يفدون إلى البلد عن طريق طبقات من السماسرة بين البلدين بعد أن يدفعون مبالغ طائلة غالباً ما تكبلهم بديون والتزامات مالية بناء على وعود بالعمل والمال الوفير، ثم يصدمون بالواقع عند وصولهم عندما تحجب وثائقهم عند كفيل في الغالب لا يعرفونه ويتركون للبحث عن مصدر لرزقهم في السوق، ويُصنفون كعمالة غير نظامية، وبالتالي فهم بالكاد يحصلون على العمل المنتظم، ولا يجازفون بالشكوى على رب العمل وأوضاعهم أملا في استمرار مورد رزقهم ولذلك فهم يتحملون كافة أنواع الانتهاكات العمالية والإنسانية التي يتعرضون لها من قبل أصحاب العمل الذين يستغلون أوضاعهم تلك.
يقول حسن: " نعمل على مدار العام، لا إجازة أسبوعية أو سنوية، يومي الإجازة التي نحصل عليها بشكل رسمي هما أول أيام عيدي الفطر والأضحى وهما أعياد دينية إسلامية تعطل فيها جميع المؤسسات الحكومية والخاصة. ويضيف حسن: "أنا السائق الوحيد في هذا المزرعة، وعليّ الاستيقاظ منذ الخامسة فجراً كي أذهب لتوزيع الإنتاج على محلات البقالة الكبرى وعلى بائعي الخضروات في الأسواق المركزية. لابد أن أكمل هذه المهمة حتى لو كنت مريضا لأنني السائق الوحيد، وبإمكاني أن أعود وأنام فقط بعد استكمال التوزيع. "
في مزرعة أخرى لزراعة الخضروات، يعمل 30 شخص من بنغلادش لفترات تتراوح بين 20 سنة وعامين، ولم يوقع أي منهما على عقد للعمل في هذه المزرعة، وجميعهم جاءوا بعد دفع رسوم لوسطاء في البلدين بترتيب من أقاربهم أو أصدقائهم في البحرين. هذه الرسوم دفعت لمرة واحدة وتتراوح ما بين 1000 دينار (2660 دولار أميركي) و1500 دينار بحريني (4000 دولار أميركي).
يقول عبد الكلام م. ويبدو كبيراً في السن وله موقع قيادي بين الفلاحين في هذه المزرعة: "لصعوبة ترك المحاصيل، يحصل الفلاحين على يوم إجازة في الشهر فقط، ويعمل الجميع حوالي 10 ساعات يومياً، على فترتين صباحية ومسائية يتخللهما فترة راحة لمدة ثلاث ساعات في منتصف اليوم."
وتتراوح أجور الفلاحين المهاجرين في هذه المزارع ما بين 120 دينار و180 دينار، ويقدم صاحب العمل لهم الإقامة في غرف في المزارع نفسها ويحصلون على بعض المواد الغذائية من المحاصيل التي يحصدونها فيما يوفرون الحبوب والمواد الأخرى والاحتياجات الحياتية الأخرى من رواتبهم.
ولا يلتزم أصحاب المزارع بقانون العمل الذي ينص على تحمل كلفة الإجازات السنوية مدفوعة الرتب فبعض أصحاب العمل يتحملون كلفة الإجازات كاملة والبعض يتحمل جزءاً منها بدفع تذاكر السفر دون راتب الإجازة فيما يعتبر البعض إجازة العمال وتكليف سفرهم إلى مواطنهم مسئوليتهم الخاصة خصوصاً من العاملين بنظام الرخص الحرة ممن تم توظيفهم من السوق المحلية والذين تكون كفالتهم تحت شخص آخر ولذلك يوجد من بين الفلاحين من لا يعود لوطنه إلا بعد مرور سنوات قبل أن يستطيع التوفيق بين التزاماته المالية وتوفير تكاليف السفر، كما أن غالبية العمال في الفلاحة ممن تمت مقابلتهم لا يحصلون على إجازة أسبوعية بشكل منتظم، والعذر الوحيد الذي يطلبون إذن صاحب العمل للخروج من المزرعة هو ارسال المال لعائلاتهم أو الذهاب إلى المستشفى.
في مزرعة أخرى، لم يجد العمال ضيراً في أخذنا إلى غرفتين تقعان على أطرافها، يقتسمهما ثلاثون عامل وتتزاحم فيها أسرة بطبقتين لعشرة أشخاص بينما ينام الخمسة المتبقين على فرشٍ اسفنجية على المساحة المتبقية في أرض الغرفة ويتم طيها خلال النهار.
ويشكّل هذا الازدحام البشري في سكن العمال مخالفة صريحة لقرار مجلس الوزراء لعام 2015، والذي ينص على تخصيص مساحة لا تقل عن 40 قدم م2 لكل فرد، شرط ألا يقل ارتفاع الغرفة عن 10 أقدام، وألا تستخدم الغرفة الواحدة في السكن لنوم أكثر من 8 أشخاص.
وبحسب معلومات الشئون الزراعية بوزارة الأشغال وشئون البلديات والتخطيط العمراني فإن الزراعة في البحرين تمارس في حقول صغيرة نسبياً، و84% من الحقول لا يزيد حجمها عن 5 هيكتارات وتشكل جميعها نحو 50% من المساحة الزراعية في البحرين. وتُشغَّل 60% من هذه الحقول تحت نظام المتضمن والقائم على تأجير الأرض لمتضمن بإيجار سنوي محدد يُدفع لصاحب الأرض، فيما يتولى المستأجر تشغيل عمال لفلاحة الأرض والاستفادة من تسويق وبيع حصادها لصالحه.
والمعروف أن قطاع الزراعة يعتبر من القطاعات الهامشية من حيث مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إذ لا تزيد عن 26,3 مليون دينار بحريني (70 مليون دولار أميركي) بنسبة 0,2% في الناتج المحلي الإجمالي. وشهد القطاع الزراعي تراجعاً كبيرا خلال السنوات الماضية فانخفض عدد المزارعين البحرينيين (أصحاب المزارع) من 15 ألف مزارع في 2002 إلى 650 مزارع في 2016.
وبرغم الانتهاكات الكبيرة التي يتعرض لها العمال في القطاع الزراعي والتي تصل لممارسات الاتجار بالبشر، إلا أن من تمت مقابلتهم من العمال لم يظهروا عدم رضا قوي تجاه أوضاعهم المعيشية. وفي حين لا يوجد أمام عمال التأشيرة الحرة "الفري فيزا" خيارات تتجاوز قبول أوضاعهم في العمل بسبب اعتبارهم غير نظاميين وقد يتعرضون للترحيل إذا ما تقدموا بشكوى لدى السلطات، فإن الفلاحين الذين يتمتعون بسلامة وضعهم القانوني، نادراً ما يشتكون من أوضاعهم، فالكثير منهم يعون حقوقهم كاملة، وغالبيتهم ليس لديهم خيارات أخرى في أوطانهم. ومثل الكثير من العمال المهاجرين، فهم يقنعون أنفسهم للتجاوز عن أوضاعهم السيئة بسبب حاجتهم للكسب لتلبية احتياجاتهم الحياتية.
شاجان البنغالي، الذي يعمل في مزرعة القرع العسلي نفسها منذ 15 عاماً ولم يتجاوز راتبه 180 دينار (480 دولار أميركي) بدا سعيداً وهو يقول إنه يسافر مرة كل أربع أو خمس سنوات لزيارة أهله بسبب عدم قدرته على توفير تذاكر السفر. ولا يرى أي انتهاك في امتناع صاحب العمل عن دفع راتبه خلال شهور الصيف عندما يتدني إيراد المزرعة بسبب الحر الشديد. وقال: “صاحب المزرعة يخفض رواتبنا إلى 30 دينار (80 دولار) لتسيير أمورنا حتى يعتدل الجو ويعود موسم الزراعة من جديد، ليس أمامنا ما نفعله فالحصول على عمل آخر صعب كما أن الوضع في مكان آخر لن يكون أفضل من هذا الذي اعتدنا عليه!"