كان والدي يقف تحت شجرة أكاسيا أمام سيارته الأجرة في أبو ظبي، ويتحدث إلى والدتي في مكالمة فيديو، ويحاول اقناعها أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن والدتي لم تكن كذلك. كانت تبدو قلقة. تُعتبر والدتي أفضل مدبرة لعائلتنا على مدى الـ 25 سنة الماضية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم تتسلم فيها أية تحويلات. ففي مارس 2020، عندما ضرب كوفيد-19 العالم، أعلنت حكومة الإمارات إغلاقاً عاماً، وكان على والدي أن يحجر نفسه في مسكنه. وبين ليلة وضحاها، أصبح والدي عاطلاً عن العمل. عدم معرفتنا إن كنا سنرى والدي من جديد، وما إذا كان سينتصر في معركته مع عدوه غير المرئي، كان بداية العبء الاقتصادي والنفسي الذي ألقته الجائحة على عائلتنا.
وبالعودة إلى 2003، اجتمع العشرات من القرويين أمام منزلنا، ذات مساء، لاستقبال والدي. كان هذا الأمر شائعاً في القرية خلال تلك الأيام، ففي كل مرة يعود شخصاً من الخارج، يجتمع عدد كبير للترحيب به. كان الأمر شبيها بالمهرجان، برغم أنني لا أعرف حتى الآن، سبب سعادة الجميع. ربما كانوا يعلمون أنهم سيتلقون هدايا – شوكولاتة، صابون للجسم وأحياناً مصباح يدوي.
"كان والدي بالنسبة لي صوتاً يأتينا من خلال الهاتف الأرضي، وأيضا رسائل صوتية مسجلة على أشرطة؛ وكلمات في خطاباته لنا..."
نشأت في عائلة من الطبقة الوسطى الدنيا من العمال المهاجرين. وعندما بلغت 22 عاماً، كان والدي هو أول من يهاجر إلى الخليج من أفراد عائلتنا الممتدة. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الهجرة إلى الخارج جزءا من تكويننا. فحوالي 90% من أقاربي هم عمال مهاجرين، وغالبيتهم في دول الخليج. وقد نشأت مستمعاً إلى معاناتهم، ونجاحاتهم الاقتصادية، وأحيانا حياتهم المهنية المدمرة. كان هناك قصصاً عن تعرضهم لاحتيال الوسطاء، وعن الحصول على شهادات لياقة طبية مزورة، وكيف حولت "التأشيرة الحرة" عمي إلى مخلوق غريب في الصحراء. وقد رأيت كثيرين من جيراننا يذهبون إلى الخارج بتأشيرة زائر، وهم على علم بأنهم قريباً سيخسرون كل شيء ويتم احتجازهم، لكنها كانوا على استعداد للمقامرة. رأيت عمتي تبكي عندما أُلقي زوجها في سجون السعودية. ومن ثم كان هناك ابن عمي الذي لم يتسنَ له أبدا أن يرى والده وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة. وهناك والدي الذي تركنا ذاهباً إلى السعودية عندما كنت أبلغ من العمر أربعة شهور، وعاد إلى بنغلاديش عندما أصبح عمري خمسة أعوام. ربما كانت تلك رحلته الثالثة إلى السعودية.
لازلت أتذكر اليوم الذي التقيت فيه بوالدي للمرة الأولى. حتى تلك اللحظة كان والدي بالنسبة لي صوتاً يأتينا من خلال الهاتف الأرضي، وأيضا رسائل صوتية مسجلة على أشرطة؛ وكلمات في خطاباته لنا. شعرت بالخجل عندما احتضنني. ولأكون صادقاً، لم أشعر بأي علاقة عاطفية مع والدي. كانت عشرات الألعاب تسعدني أكثر من رؤيته للمرة الأولى.
كانت النشأة الأولى بدون اشرافه المباشر، صعبة، خصوصاً بالنسبة لوالدتي. لكن كانت تلك هي التضحية التي علينا بذلها. ذلك لأن هناك تسعة أفراد في عائلتنا الممتدة يعتمدون على دخل والدي. وخلال دورة الهجرة، كان بالكاد يستطيع الادخار للمستقبل أو لأي طارئ مثل هذه الجائحة.
مع اختصار السنوات، في 2019، كنت مع والدي في المطار، المهاجر لأكثر من 32 عام، تاركاً عائلته مرة أخرى إلى أبو ظبي. لم نتبادل كثيرا من الكلمات، وإنما الدموع. وعدت والدي أن تكون هذه هي رحلته الأخيرة. ولأنني بدأت عملاً بدوام جزئي، أكدت لوالدي أنه بإمكاننا الآن أن ندفع ديوننا. وقلت له أن الأمر سيستغرق عامين، وبعد ذلك، لن يكون عليه العمل بعد ذلك. لوّح والدي لي مودعاً. شاهدت رجلا متعباً يغادر بدون أية أحلام متبقية لنفسه، رجلا ضحى بسنوات عمره الذهبية من أجل عائلته، كان دائما يجد السعادة بيننا.
لكن كوفيد-19، غيّر كل شيء. أظهرت لنا الجائحة مدى هشاشة العمال المهاجرين ونحن، أسرهم. هناك فكرة عامة في مجتمعنا بأن المهاجرين هم في حال أفضل، وكعائلة لمهاجر، تعرضنا لضغوطات اجتماعية كي نظهر بتلك الصورة. وفاقمت الجائحة ذلك. لم يشاهد أحد الدموع الصامتة في عيون والدتي، لن يفهم أحد أبداً لماذا لم يتمكن والدي من الادخار لمثل هذا الظرف الطارئ، برغم أنه كان يكسب الكثير. لن يعرف أحد لماذا كان على طالب جامعي متفوق مثلي إيقاف دراستي.
لم أشاهد والدي بهذا التعاسة قط. كان محبوساً مع الإغلاق لشهور، وأحيانا كانت أيامه تمر وهو بمعدة فارغة. كان الطعام الذي تزوده به الشركة سيئاً. ولأنه كان يعاني من مرض السكر وأمراض مزمنة أخرى، كنت أبعث له أدوية من بنغلاديش. ولكن مع الإغلاق للرحلات الجوية، لم يعد ذلك ممكناً. اضطر والدي لشراء أدويته محلياً بأسعار عالية. وسرعان ما تبدد ما ادخره من مال. وفي السكن الذين كان يقيم فيه، كان هناك مكانا صغيرا لممارسة الرياضة، وبدأت صحته في التدهور. في كل مرة يرن الهاتف، كنا نستعد لسماع الخبر الأسوأ، أعرف تماما أن والدي في مثل هذا العمر لن يحتمل آلام الإصابة بفيروس كورونا.
ذات مرة، أرسل والدي لنا صورة طعامه، لم أتمكن من إيقاف دموعي. وفور رفع الاغلاق جزئياً، بدأ والدي، دون أمل، يتجول بسيارته الأجرة آملاً أن يكسب بعض المال. لكن لم يكن هناك سوى قليل من الركاب. ومنذ تخفيف الإغلاق، يقضي والده نحو 16 ساعة في مقعد السيارة وراء المقود. وإذا لم يتمكن من كسب 6000 درهم للشركة، لا يتسلم أي شيء. ونتيجة لذلك، كان على أن أوقف دراستي العليا والعمل بدوام كلي.
وفي خضم هذه الفوضى، بدأت الشركة انهاء عقود الموظفين. وكان أولهم من كانوا يحققون إيرادات منخفضة، ومن يعانون من مشكلات صحية. وكان المعياران ينطبقان على والدي. كنت أسمع يوميا أن أحد زملاء والدي قد استُدعي من قبل الموارد البشرية بالشركة. تساءل والدي: "لماذا يفعلون ذلك بنا؟ لا يوجد أحد بالشوارع. الناس تتجنب المواصلات العامة. نحن نتحمل كل المخاطرة"، ولكن إذا لم يكن هناك ركاب، فأين ذنبنا في ذلك؟ ولم يكن لديّ إجابه على ذلك.
هذا الامر ليس متعلقاً فقد بوالدي أو بعائلتنا، ففي خلال الجائحة، فقد، تقريباً، أغلب أقاربي المهاجرين وظائفهم. لازلت أتذكر الرسالة النصية من ابن عمي الذي كان يعمل في قطر: "كيف سأتمكن من دفع الدين؟ أتمنى لو أستطيع أن أضع حدا لهذا الألم. لا أستطيع تحمل المزيد من الضغط". تسلمت رسالة مشابهة على الفيس بوك، من عامل مهاجر آخر لم يتمكن من العودة إلى السعودية بسبب تعليق الرحلات. في قريتي، تعرض العديد من المتاجر المحلية لضربة شديدة بسبب تراجع تدفق التحويلات. والعديد من المتاجر مملوكة من قبل عمال مهاجرين عائدين، كما أن عملائهم الرئيسيين من عائلات المهاجرين. ولم يتمكن كثيرون من أقاربي من السفر للعودة إلى البلدان التي يعملون بها بسبب انتهاء صلاحية تأشيرتهم. وجميعهم أصبحوا يواجهون مستقبلا مجهولا. فبعد فقدانهم وظائفهم في الخارج، هاهم يعانون الآن من أجل البقاء في بنغلاديش.
"وأدركت أن والدي الغائب قد لا يستطيع أن يخبرني كيف أعيش، لكنه عاش حياة وعلمني ما هي الحياة."
منحني عملي في Ovibashi Karmi Unnayan Program (OKUP)، وهي منظمة مجتمعية للمهاجرين في بنغلاديش، الفرصة لمقابلة مئات العمال المهاجرين من جميع مناطق بنغلاديش. وقد رأيت في أعينهم ذات الخواء والوحدة اللذين كنت أراهما في عيني والدي.
يضحّي هؤلاء العمال بكل شيء من أجل عائلاتهم. وتصبح تحويلاتهم حجز الزاوية للاقتصاد. ونواصل توقعاتنا بالحصول على المزيد منهم دون أن نقدم لهم الدعم الحقيقي. قمت بتوثيق ما يزيد عن 500 حالة من العمال المهاجرين العائدين ممن انتهكت حقوقهم. وكنت شاهدا على رحلة الجحيم التي يتعرضون لها خلال دورة الهجرة. فهم يعملون في أوضاع سيئة للغاية لا تصلح للبشر، ويتعرضون لسرقة الأجور، والاحتيال على يد أصحاب العمل، ووكالات التوظيف والوسطاء.
ويتم قبول ذلك كأمر اعتيادي، فالمشروعات تُطبق واحدا تلو الآخر، والأوراق تنشر واحدة تلو الأخرى وكذلك الندوات تتوالى، لكن الوضع يبقى هو نفسه. رجائي المتواضع من أصحاب الشأن قبل تصميم أي برنامج للعمال المهاجرين في المرة المقبلة، التحدث معهم، ليس من خلال المسوحات، و FGD، و KII وإنما حديث من القلب للقلب.
لست خبيراً في هذا الشأن، ولكن يبدو أن العمال المهاجرين، مثل والدي، يقاسون فقط بمقدار المال الذي يحولونه. أتمنى لو لم يكن الأمر كذلك. أتمنى لو قام أصحاب الشأن بعمل أفضل من أجل حماية حقوق وكرامة ملايين العمال المهاجرين حول العالم. أستطيع القول أن هؤلاء العمال لا يريدون الكثير، هم فقط يريدون العمل في بيئة كريمة، تُحترم فيها حقوقهم.
وبرغم كل السلبيات، فقد جلب كوفيد-19 والدي قريبا إلى قلبي. وأدركت أن والدي الغائب قد لا يستطيع أن يخبرني كيف أعيش، لكنه عاش حياة وعلمني ما هي الحياة. عندما يسأل أحدهم ما هو خوفي الأعظم، أقول: "أرجو ألا يتحول والدي إلى رقم."