"لم نتعرّض للاستعمار قطّ" عبارة تسمعها في كل محادثةٍ تخوضها في إثيوبيا، من موظفي مكتب الاستقبال في الفندق إلى سائق سيارة الأجرة، ومن الناشطين الاجتماعيين إلى أصحاب المتاجر الصغيرة.
تتردّد أصداء عبارة الفخر هذه بينما تنتشر في طول البلاد وعرضها استثمارات صينية واسعة النطاق ومخططات تموّلها الجهات المانحة من كلّ بلدٍ تتخيّله، وفي نفس الوقت الذي تغرق فيه البلاد في مستنقعات الفقر المدقع وارتفاع معدّلات الفساد وتحوّل الطبقة الوسطى إلى أقليّة.
على بعد حوالي 370 كيلومترًا تقريبًا من أديس أبابا باتجاه جيبوتي، تقع مدينة صناعية ناشئة اسمها "كومبلوشا" التي تقع في جنوب إقليم "ولو". يبني الصينيون فيها مجمّعات صناعيةً ووحداتٍ للخياطة بالإضافة إلى أنهم مسؤولون عن أغلب البنى التحتية في هذه المنطقة وما حولها.
ثمّة جهود لتوليد فرص عمل من خلال بعث هذه المشاريع المختلفة.
ولكنّ "نجاة" ليست مقتنعة بذلك. ففؤادها معلق بوجهة واحدة هي دبي.
شقيق نجاة هو الذي يتحكم بالمنزل وبأحلامها أيضًا.
اتّخذت الأسرة من غرفة المنزل الأمامية متجرًا لبيع القهوة والمرطّبات.
ويقول ناشط اجتماعي: "يتّخذ الأب القرارات، ولذلك عليك أن تلتقي به أولاً ثم بالفتاة التي ترغب بالذهاب إلى جدّة".
"ليست لديّ أدنى فكرةٍ عمّن سيستقبلني في المطار وفي منزل من سأعمل".
أما "جدة" فهي مصطلح عام يُستخدم للإشارة إلى أيّ مكانٍ في منطقة الخليج.
يدخل الغرفةَ رجل هزيل البنية امتلأ محيط عينيه بالتجاعيد. وقد علمنا أن المرأة الكبيرة والفتاة الشابة اللتين كانتا تقفان عند درج النقود هما والدة الرجل وأخته الصغرى.
لم يجاوز "أراجي يمر" سن 28 من العمر، وهو "الأب". إنه لقب يطلق على المسؤول عن الأسرة من الذكور.
سمع "أراجي" لأول مرة عن الشرق الأوسط عام 2006، حين كان الكثير من شباب القرية يسعون إلى جمع ثرواتهم هناك.
"لم تكن لديّ خطط للذهاب شخصيًا. فأنا أتدبّر أمري بإدارة دكان الشّاي هذا. لكن الآن شقيقتي تريد الذهاب وتغيير حياتها. عمرها 22 سنة وترغب في الذهاب إلى هناك منذ عام 2014؛ حيث تشعر بوجود فرص أكبر. صديقاتها، حتى الأصغر منها، لطالما تحدثن عن هذا الموضوع." يتوقف "أراجي" عن الكلام لبرهةٍ كي يستجمع أفكاره.
هو يبدو مستاءً من قرار شقيقته؛ ولكنّه يعلم أنها سوف تجعله يرضخ لقرارها عاجلاً أم آجلاً. فلو أراد أحد أن يهاجر فسيهاجر مهما كانت العوائق التي تعترض سبيله. هذه الحقيقة لم تستوعبها السلطات بعد.
يتابع على مضض: "أحتجز جواز سفرها. فأنا قلق بشأن الحظر. ستذهب إلى السعودية إذا رفع الحظر، وإن لم يرفع فستتجه إلى دبي".
سبب إصرار "أراجي" على التأثير على قرار أخته وإثنائها عن فكرة الذهاب لا يكمن في أنه يريد ممارسة سلطته فحسب. "نسمع الكثير من القصص السلبية من تلك البلدان. ولا نريدها أن تذهب حتى لو رُفع الحظر. لقد تركت المدرسة في الصف الثامن. ألا تعتقد أنه بوسعها كسب المال هنا؟".
يشعر "أراجي" أن بإمكان أخته مزاولة عدد من المهن هنا؛ كالتجارة على نطاقٍ ضيقٍ وتصفيف الشعر والخياطة.
مصففات الشعر، الحوانيت الصغيرة، الخياطات؛ لا يمكن أن تسير مسافة 500 متر دون أن تصادف ركنًا لتلك "المهن". ما زالت هذه الحرف تشكّل الأساس الهشّ الذي تقوم عليه الكثير من سياسات مناهضة الهجرة.
تستمع إيمان، الشقيقة الصغرى، باهتمام إلى النقاش. وقد توقفت الفتاة ذات الـ 15 عامًا عن كل ما تقوم به من مهام لمساعدة والدتها على طاولة الحساب.
فالقرار الذي سيتّخذه شقيقها بشأن نجاة سيؤثر على حياتها أيضًا.
وبحياءٍ ورقّة، تقول إيمان إن صديقاتها في المدرسة ـــ حتى الصف التاسع ـــ يتحدّثن دائما عن الذهاب إلى الشرق الأوسط. كلّهن مقتنعات بأن حياتهنّ لن تتغير إلا في ذلك الوقت. "وهذا الكلام يغريني أنا أيضا".
أي مكان عدا هذا المكان
تدخل نجاة بينما يسرد شقيقها خيارات المهن أمامها. وتبقى واقفة دون حراك، ثم تقول دون مواربة " سواء بقي الحظر أو رفع فأنا لا أريد أن أذهب إلي السعودية؛ بل إلى دبي".
هم لا يدركون أن الحظر مطبّق على الهجرة من إثيوبيا إلى أي مكان في العالم.
لم يسبق لنجاة أن ذهبت إلى أديس أبابا. "سأتّجه إلى هناك عندما يحين موعد رحلة الطائرة إلى دبي. ولا يخيفني ذلك. لكنّي لم أقنع أسرتي بعد".
مع ذلك؛ يبدو أن أمها وشقيقها قد سلّمتا بفكرة أنهما لم يعودا قادرين على إيقافها. شقيقتها تبدو سعيدة؛ لكن بحذر.
"لا أدري كم سأجني من المال، أو في أي مكان سأعمل. لكن سأبقى هناك ثلاث سنوات، وسأرسل المال إلى أسرتي في وطني وأبقي لنفسي نصيبًا منه".
أحلامها بسيطة، مهنة و حياة أفضل.
"في هذه اللحظة، أنا فقط أدرك أن حياتي يجب أن تتغير".
الحياة في الخليج هي طوق النجاة الذي سيعبر بها نحو حياة أفضل.
تقول "أثق بأن أبي فقط هو من سيجلب لي المعلومات كلّها. أنا لن أذهب عن طريق وكيلٍ عادي".
حتى الآن، هم لم يدفعوا سوى لقاء جواز السفر، ومن المتوقع أن يدفعوا مبلغ 9000 إلى 11000 بير أثيوبي (330 إلى 400 دولار أمريكي) إضافي كي تتمكّن من السفر.
تمرّ "أبيبا سيّد آدم" أيضًا بمنعطف مشابه. ولكن والدها هو من يحثّها على الهجرة، بالإضافة إلى ابنتها البالغة 7 سنواتٍ من العمر على ما تفيد.
جواز سفرها وتقاريرها الطبيّة قيد المعالجة حاليًا؛ حتى يتسنى لها الذهاب إلى دبي بصفة عاملة منزلية. هي تستهجن الحديث عندما تسمع عن الحظر. وحين يقال إن الجميع يذهب إلى دبي ترتسم ابتسامة على شفتيها.
تعمل "أبيبا" ذات السبعة والعشرين عامًا في نادٍ ليليٍ بمدينة "كومبلوشا". وهي صريحة بشأن حياتها وعملها في إثيوبيا، على الرغم من وجود طفلتها ذات الأعوام السبعة مستلقية على سريرٍ في إحدى زوايا الغرفة ومستمعة إلى كلام والدتها.
ما تزال أوراقها الرسمية بحوزة وسيطٍ منذ ما يقارب ثلاثة أشهر. وقد دفعت له حتى الآن 6000 بير كانت قد ادّخرتها من العمل في النادي الليلي. "أكسب مبلغًا جيدًا من المال هناك، حوالي 7000 بير (290 دولارًا). وإذا لم أستطع توفير المزيد من المال، فسأطلب من والدي أن يساعدني. يجب أن أذهب".
لم تكن "أبيبا" تخطّط للهجرة حقًا. "أبي يعيش في ووشولو (على بعد 90 كيلومترًا من كومبلوشا)، وقد سمع عن وجود وسيطٍ في قريته يرسل النساء إلى الشرق الأوسط، وأقنعني بمقابلته".
لا يعرف والدها بأنها تعمل في نادٍ ليليٍ وتكسب مبلغًا جيدًا من المال.
"أثق بأن أبي فقط هو من سيجلب لي المعلومات كلّها. أعرف أنّي لن أذهب عن طريق وكيلٍ عادي".
لقد نبّهتها السيّدة التي استقبلتها عندما هربت من منزل والديها منذ سنوات لتعمل في النادي الليلي إلى ضرورة توخّي الحذر في الخليج. "كانت تحكي لي قصصًا عن أشخاص يسرقون الأعضاء"، وهي تهمة تلقى جزافًا وقلّما تؤخذ على محمل الجدّ.
بعد أن اتّخذت "أبيبا" قرارها بالذهاب إلى الخارج، لا يمكنها أن تدع في رأسها أي مجالٍ للشك.
تقول وهي تلوّح بذراعيها باستخفافٍ تجاه الجدران الزرقاء في منزلها المكوّن من غرفة واحدة: "ستعيش ابنتي مع جدّها وجدّتها. تريدني أن أذهب، فهي ترى الأطفال الصغار وهم يتلقّون الهدايا من أمّهاتهن اللاتي يعشن في الخارج. وتريد شراء منزلٍ أيضًا، فنحن نعيش في هذا المنزل مقابل مال ندفعه للمؤجر".
في إحدى زوايا الغرفة القريبة من المدخل، يوجد موقد يعمل بالفحم وبعض الأواني، بينما تشكّل نافذة غير مغطاة المصدر الوحيد للضوء في الغرفة. ولا تزال بقايا زينة حفل عيد ميلادٍ على الحائط.
"تلك" التي تريد منزلاً وهدايا بسيطة أصبحت في عامها السابع من عمرها منذ أسبوع. تسحب الصغيرة مجموعة من الصور من تحت الوسادة وتعطيها لأمها.
ومثل نجمةٍ متألقة، كانت الطفلة في الصور ترتدي ملابس مزركشةً وتضع قوسًا على رأسها، وقد أحاطت بها صديقاتها وأم رؤومٌ وكعكة بيضاء غنية وهدايا.
تخرج "أبيبا" صورةً لنفسها بالماكياج الكامل والملابس المزخرفة. "استخدم هذه. لا أبدو على ما يرام اليوم. لا تلتقط صورةً لي. وخذني لو أردت"، تضحك دون أن تبدو عليها معالم الهزل.
تمرّ لحظة عابرة من القلق والشكّ قبل أن تعود إلى طبيعتها الواثقة والمرحة.
"سأبقى (في دبي) إلى الأبد، فأنا أحبها. لقد عكفت على التحدّث إلى أشخاص عادوا من الخليج. أفهم طبيعة المكان. وأستطيع في شهرين تعلّم اللغة".
هل تخططين للتحدّث إلى ربّ العمل قبل أن تسافري؟
يظهر عليها التشوّش والقلق. "ليست لديّ أدنى فكرةٍ عمّن سيوصلني من المطار وفي أي منزلٍ سأعمل".
رغم ذلك فإن الأمر يستحقّ الغموض المخاطرة بالنسبة لـ"أبيبا". "أريد أن أهرب".
وبينما كنا نعبر الطريق من منزلها إلى السيارة التي كانت تنتظرنا، استوقفتنا سيّدة من الجوار. كانت لديها قصة أيضًا. إحداهنّ ضائعة، وهي بحاجة إلى تعقّب أثرها في دبي.
يحدث أن يصادف المرء حوادث من هذا القبيل، كأن يتم فقدان أحدهم، أو أن تجد في طريقك من يبحث عن شخص مفقود. وقد يعترض سبيلك شخص تائه مثل طفل صغير قد ضل الطريق إلى منزل عائلته.