مع حلول الساعة العاشرة صباحًا يكون المرء قد نسى عدد أكواب القهوة التي احتساها. طقوس احتساء القهوة المعروفة بـ"البونا تيتو" هي عادة مقدّسة. ومن النادر أن تسمع كلمة "لا" مهذبةً من أولئك الذين يسعون لإبقاء مستوى الكافيين تحت السيطرة.
لا تكترث "هاليويا سعيد" ولا أمها بـ"لا" التي قلتها، وتدفعان في يدي فنجانًا من القهوة الساخنة وقطعةً من الكعك الإسفنجي بدلاً من القلم ودفتر الملاحظات.
لقد عادت إلى إثيوبيا بعد قضاء 10 سنوات في المملكة العربية السعودية. عادت بعد أن كسبت بعض مهارات العمل بالإضافة إلى رأس مالٍ بسيط. حاليا هي تدير مخبزًا يمدّ متاجر مختلفة بالكعك. أما المال الذي ادّخرته خلال العقد الذي قضته في الخارج فقد ذهب هباءً في أحد الاستثمارات غير الناجحة.
في عام 2005؛ حين كان عمرها بالكاد قد بلغ 17 عامًا، ذهبت إلى السعودية بتأشيرة عمرةٍ وبقيت بلا وثائق رسمية لمدة عقدٍ من الزمن.
تقول: "أشعر بامتنان شديدٍ كوني عدت لأرى والدتي بعد 10 سنوات، فقد كانت مريضةً جدًا". وتستدرك "لكنّي كنت مشوشةً للغاية، فقد تغيّرت ديزي كثيرًا، حتى أني لم أعرفها في البداية"، في إشارة إلى المكان الذي تصفه بأنه وطنها.
وتتابع: "كنت متحمسةً أيضًا. كل شيءٍ اختلف عمّا اعتدت عليه. الهواء، الأواني في المطبخ، و حتى طريقة طهونا الطعام".
" للإثيوبيين سمعة سيئة بسبب قلّة قليلةٍ من الأشخاص. يرى البعض اننا لصوص وقتلة...وأنا لست كذلك."
تقع "ديزي" على مسافة 10 كيلومتراتٍ من كومبلوشا، وهي لا تعتمد على صناعة رئيسة بعينها للحفاظ على استدامتها. ومع ذلك تنتشر فيها الأسواق ومكاتب الصرافة على نطاقٍ واسع. إنها مدينة تجتمع فيها آمال المهاجرين وأموالهم.
"في المرة الأولى ذهبت مع شقيقي. وقد بقي هناك ثلاث سنوات. وكان لدي شقيقات أخريات يعشن هناك منذ عام 1994 لغاية العام 2000. لقد ساعدنني في العثور على أرباب عملٍ، والانتقال من رب عمل إلى آخر، والحفاظ على سلامتي، والتملّص من الشرطة بسبب عدم حيازتي أوراقًا رسمية".
تروي "هاليويا" ما مرّت به من تجارب بواقعيةٍ تخلو من رثاء الذات أو إلقاء اللوم على الآخرين. في المنزل الأول الذي عملَت فيه، كان يُدفع لها 600 ريال سعودي، ولكن عندما انتقلت إلى رب العمل الخامس، صارت تجني 1500 ريال وتحصل على يوم إجازة كل أسبوعين.
"لم أخَفْ من وضعي قطّ. كوني لا أحمل أوراقًا رسميةً لم يثنني عن المطالبة بشروط عملٍ جيدة".
واصلت "هاليويا" المكْث في المملكة العربية السعودية كي تسدّد مصاريف علاج والدتها بالإضافة إلى الاعتناء بطفلتها. "وفي عام 2013 تم الاعلان عن عفوٍ عامٍ، وعندها حان الأوان للعودة إلى الوطن".
لذلك خلال فترة الترحيل الجماعي في ديسمبر 2013 عادت إلى ديزي، لتتخذ منها موطنًا على الرغم من أنها كانت تبدو فيها كالغريبة.
"كنت قد ادّخرت 5000 بير (أقل من 1800 دولار) وافتتحت متجرًا صغيرًا. لقد كان قرارًا خاطئًا وغير مدروس. الآن، وبمساعدة بعض الوكالات (التنموية)، أزاول عملاً جديدًا".
تقول هاليويا وهي تحاول حبس دموعها: "بسبب ديانتي، كان الناس يتخذون موقفًا إيجابيًا تجاهي. أما بعض (أصحاب العمل) فلم يكونوا كذلك بل كانوا أناسًا سيئين. حاولت إخبارهم، أي الناس هناك، أنه بالرغم من كوننا فقراء إلا أننا لدينا أسر. صحيح أننا لا نمتلك منازل عصرية، ولكن لدينا بيوت. لدينا الطعام الطازج والهواء النظيف. قد لا نكون أثرياء مثلكم، ولكن بالرغم من ذلك لدينا حياة".
"للإثيوبيين سمعة سيئة بسبب قلّة قليلةٍ من الأشخاص. يُنظَرُ إلى بعضهم كلصوص وقتلة… وأنا لست كذلك. أصدقائي وعائلتي ليسوا كذلك أيضًا. إننا أشخاص طيبون. ولكن كيف السبيل لجعل الآخرين يفهمون ذلك؟".
تزعجها القصص السلبية عن الإثيوبيين، وتتساءل عن كيفية تغيير ذلك.
تضرب جبهتها وتقول: "أنا امرأة ناجحة. تعلّمت الكثير من الأشياء التي أستفيد منها الآن. أتفهّم الحياة الاجتماعية. وحتى لو لم تكن حالتي الماديّة على ما يرام، فإني أتعلم من تجربتي".
"هاليويا" هي المثال الذي تودّ "بيزوي فنتاو" أن تحتذيه ابنتُها. امرأة واثقة تعيش في وطنها وتدير أعمالاً تجاريةً مزدهرة.
من الصعب تصديق أن "بيزوي" ذات القوام الممشوق والممتلئة شبابًا هي أمٌ لثمانية أبناء وبنات. "مؤمنة" التي تقيم في مدينة جيزان الساحلية السعودية، هي ابنتها السابعة.
منزل "بيزوي" هو مثال للبضائع التي يمكن أن تشتريها بأموال الخليج. فهناك تجد التلفاز وجهاز ستيريو وبرّاداً، كلّها مغطاة بأغلفة بلاستيكية لحمايتها من الغبار. تخفي واجهة المنزل المتواضعة الثراء النسبيّ في الداخل. إنه مكان نادر تجتمع فيه أفضل مقتنيات عائلةٍ شرق أوسطية. وهو المنزل الذي تصبو إليه فتيات المدارس اللاتي ينتمين إلى بيئات فقيرة، مثل "إيمان".
ذهبت "مؤمنة" إلى جيزان عام 2013 عندما كان عمرها 18 عامًا، ثم عادت إلى الوطن في العام الماضي لقضاء إجازةٍ مدّتها أربعة أشهرٍ.
تعيش شقيقة "بيزوي" هناك منذ 20 عامًا مع أسرتها وتدير صالونًا تشتغل "مؤمنة" فيه في الوقت الحالي. وهي تكسب 10 آلاف بير شهريًا وترسل الأموال إلى الوطن كل ثلاثة أشهر أو نحو ذلك.
تقول "بيزوي": "أبني منزلاً لها الآن. لقد تمت خطبتها في العام المنصرم لشاب يعمل في مأرب للسيارات. وحالما يكتمل بناء المنزل وتدّخر بعض المال، ستعود لتقيم هنا إلى الأبد".
إنها تعلم جيدا أنه لا يوجد ما يضمن أن الحظ سيحالف مؤمنة هنا أيضاً.
"من الصعب التحدّث عن حمل ابنتها أمام الجيران، وإلا فستنتشر الفضيحة في كل مكان".
ذنب الأم
"ذهبت ابنتي السادسة إلى دبي عام 2010. حيث عملت هناك لمدة عامين. في إحدى تلك السنوات لم يتم تسديد أجرها بتاتا، وكانت قد تعرضت الى الكثير من الإساءات. بالإضافة الى ذلك فإنها كانت تجني 2000 بير فقط في المدّة التي كانت تتقاضى فيها راتبها. وأخيرًا، ذهبت إلى الشرطة لتُعاد إلى البلاد خالية الوفاض".
كان يجلس أبناؤها وأحفادها في الغرفة القابعة خلف ستارٍ خفيفٍ. وكانت أنظارها المشتّتة تتجه صوب مصدر أصوات المزاح المكتومة في الداخل.
وفي محاولةٍ للتبرير دون أن يُطلب منها ذلك، تقول الأم وهي تقودنا تجاه باب المنزل: "ما كنت لأرسلها لولا أنها لم تكن تعمل لدى خالتها".
كانت والدة "هاليويا" تصبّ القهوة بهدوء مرةً تلو الأخرى، لكنها قاطعت الكلام مرة واحدة فقط لتعبّر عن مخاوف مماثلة. "ساعدني أولادي في علاجي الطبي. تلك القصص كلّها كنت أسمعها، وكانت تشعرني بقلقٍ وذنبٍ شديدين".
يثقل كاهل فاطمة حسن عبءٌ مشابه؛ هو ذنب من تركته وراءها.
عمر فاطمة 55 عامًا فقط، وقد صارت بمثابة خبيرةٍ بموضوع أن يكون لديك فتيات شابات يعملن في بلدٍ غريب.
لقد سئمت المرأة القلق بشأن بناتها، ولكنّها لا ترى مخرجًا لذلك في أي وقتٍ في المستقبل القريب. من بين أبنائها السبعة، تعيش فتاتان في الخارج. عاشت "رحمة" في السعودية لمدة 12 عامًا وعادت وبرفقتها صبيّ عمره الآن ثمانية أعوام.
"منذ أكثر من عامين، ذهَبَت إلى دبيّ".
عندما كان الحظر قائمًا.
تضحك فاطمة بسخرية. "حظر؟ الشيء الوحيد الذي يحدث هو أن السعر يرتفع. لا يمنع الحظر أحدًا، بل يزيد فقط من أرباح السوق السوداء. دفعت رحمة إلى أحد الوكلاء 15 ألف بير ليوصلها إلى دبي".
هناك حركة بالقرب من مدخل منزلها حيث توجد نافذة صغيرة. وقد حشرت مقعدًا صغيرًا وآلة نسخ كبيرة وطابعة ضيقة في الركن المخصص للخزانة. تدير هذا المتجر امرأة شابة. ويضمن وجود مكتب حكومي محليٍّ في الجوار تدفّق الزبائن باستمرار.
تضم الغرفة الأمامية في المنزل، والتي يوجد المتجر فيها، مساحةً واسعةً تشرف عليها فاطمة مخصّصةً لطقوس شرب القهوة.
أطفال في الخارج
"أول مرة أرادت فيها (رحمة) العودة كانت بسبب طفلها. والآن بعد أن انتهى عقدها تودّ الرجوع، ولكنهم لا يسمحون لها بذلك".
عندما ينطق أحدهم اسم "زيبا" تتوتر فاطمة أكثر؛ إذ أنها لا تملك أدنى فكرةٍ عن ما إذا كانت ابنتها ستتمكّن من العودة من جدّة أم لا. وتخشى فاطمة من أن لا تستفيد ابنتها من العفو العام (والذي كان سارى المفعول وقت المقابلة).
كانت "زيبا" تبلغ 16 عامًا فقط عندما ذهبت إلى السعودية منذ خمس سنوات.
"لقد هربت وكانت حاملاً. وبأي حالٍ من الأحوال؛ لا يمكنها الآن التماس العفو. إنها متزوجة وتعيش في غرفتها الخاصة التي استأجرتها هناك. ولا ندري ما الذي يمكن أن يحدث لها أو لطفلها".
ليس من السهل على فاطمة أن ينتهي المطاف باثنتين من بناتها بالحمل وهما في الخارج، على الرغم من أن حال أسرتها في وسط المجتمع لا يختلف كثيرًا عن الأسر الأخرى.
"عادةً ما ترسل الفتيات أولادهنّ مع العائدين ويبقين هناك مدةً أطول لجمع المزيد من الأموال. ونعتني نحن الجدّات بهم فهم أطفالنا. ولكن الناس لا يدعوننا و شأننا".
ولدت "هاليويا" أيضًا طفلةً في السعودية، حيث أعادتها شقيقتها إلى ديزي لتعتني بها الجدّة.
"كنت مخطوبةً لأحدهم قبل أن أغادر. وقد أتى إلى السعودية أيضًا دون وثائق رسمية. أنجبنا طفلاً. وبعد الحمل، بقينا معًا".
إنها قصة نسمعها كثيرًا، وهي مليئة بالكلمات المنمّقة. الخطيب أو الزوج في السعودية، يولد المولود سرًا، يعاد إلى الوطن كي تعتني به الجدّة. وللسامع أن يقرأ ما بين السطور أو أن يقبل بالقصة على ما هي.
منذ سبع سنوات، ذهبت "إيمان" التي لم تكن تجاوز 16 عامًا إلى السعودية من خلال وسيط. ولكن والدتها "أشالا" لم تسمع عنها أي أخبار منذ خمسة أشهر حيث انقطع الاتصال بينهما تماما. تقول "أشالا" بفتورٍ وهي تشير إلى تلفازٍ كان يشتغل وقت دخولنا ومن المرجّح أن يبقى كذلك طوال اليوم: "أتت إلى هنا مرةً واحدةً، واشترت لنا هذا. إنها لا ترسل الأموال بانتظامٍ".
تقريبا ثلاثون في المائة ممن أتين إلى آغار قد تعرّضن للاعتداء الجنسي".
منزلهن مكون من جزء بسيط من غرفةٍ بائسةٍ تقع في حيٍّ فقير. وتفصله طبقة من الصفيح عن المنزل المجاور.
يعلّق الوالد بينما كانت نظراته تتفرس في المسلسل المعروض على التلفاز قائلاً: "إيمان تعيش بلا وثائق وتعمل على نحوٍ غير قانونيٍ في السعودية".
وأخيرًا تشرع "أشالا" في الحديث قائلةً: "لقد اتصلت بنا مرةً واحدةً منذ خمسة أشهر، عندما رزقت بطفل. ولكننا لم نسمع منها قطّ منذ ذلك الحين".
تدخل جارة المنزل وتتّخذ متّكأً ثم تحجب نفسها عبر الانخراط في محادثةٍ خاصة.
تحجم "أشالا" عن الحديث، ويزداد الغموض رويدًا رويدًا في إجاباتها.
"لا، لم نحاول الاتصال بها. سوف تتصل هي عندما تريد".
همس العامل الاجتماعي: "من الصعب التحدّث عن حمل ابنتها أمام الجيران، وإلا ستنتشر الفضيحة في كل مكان".
يأوي مركز "آغار" إثيوبيا لإعادة التأهيل الكثير من النساء العائدات برفقة أطفالهن.
وتقول "أبيرا أديبا"، المديرة التنفيذية للمركز، إن قلّة الوعي الثقافي لدى الجانبين تؤدي إلى القوالب النمطية الضارة أيضًا، مثل اتّهام العاملات المنزليات الإثيوبيات بممارسة السحر الأسود. "وأقدّر أن نسبةً لا تقلّ عن ثلاثين في المائة ممن أتين إلى آغار قد تعرّضن للاعتداء الجنسي".
والدليل موجودٌ في الأطفال ذوي الأعراق المختلطة في المركز. وهذا سبب لعدم قبول العديد من هؤلاء النساء في مجتمعاتهن المحلية، وبالتالي فإن هذه الفئة تواصل العيش في طيّ النسيان في الملجأ.
إنها ليست قضية اغتصابٍ فحسب. بل إن الكثير من النساء ينخرطن في علاقاتٍ خارج إطار الزواج. وتعدّ هذه العلاقات غير قانونيةٍ في بلدان الخليج العربي. وبغياب إمكانية تلقّي الرعاية الصحية السليمة للإنجاب في تلك البلدان وعدم الوعي بما يكفي من قوانينها قبل مغادرة البلاد، تجد النساء، نتيجة لذلك، أنفسهن في وضعيات تؤدي في الكثير من الأحيان إلى إدانتهن.