تحمل فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها 15 عاماً جواز سفرها وتقف في طابور مكتب الهجرة. تشير بطاقة صعود الطائرة التي بحوزتها إلى أنها بصدد الذهاب إلى جدّة. وحالما حصلت على تصريح الهجرة، انتزع رجل وامرأة كانا يرافقانها الوثائق منها. لم تبدُ عليها علامات التعجّب. كان كتفاها قد انحنيا تحت ثقل الحقيبة التي تحمل ممتلكاتها الدنيوية. ينضمّ الثلاثة بعد ذلك إلى مجموعة من النساء أكبر قليلاً في منطقة الانتظار داخل صالة المغادرة.
إنها قصة بلا حدود؛ حيث تصبح الهجرة وسيلة لتحقيق غاية اقتصادية. وهناك من ينظر لها أيضًا على أنها ملاذ للهروب من العنف المنزلي وبراثن الفقر والرذيلة. إنه أمر متوقع في المجتمعات التي يكون فيها الأب هو المتحكم.
مرة تلو الأخرى، تتردد الأسطوانة نفسها في طول البلاد وعرضها. تذهب النساء إلى الخارج لمساعدة أسرهن ليعدن بعد ذلك من دون نيل نصيب مما كسبن. تصعد هذه الفتاة هزيلة البنية بصورةٍ مخالفةٍ على متن الرحلة المتجهة إلى السعودية، بينما تُرحّل عشرات الآلاف مثيلاتها من المملكة للسبب نفسه.
إن المخالفة لا تعرّض العاملات لخطر التجريم والحبس في بلدان المقصد فحسب؛ بل تُلصق بهنّ وصمة الهجرة الفاشلة.
يقول "دانييل ميليز"، العامل في مجال الهجرة الآمنة في "أديس" و"ديزي": "الهجرة الفاشلة هي أسوأ نتيجة محتملة. إذا أسعفك صبرك على تحمّل المشاقّ والإساءات واستطعت توفير جزءٍ يسيرٍ من المال والعودة بشروطٍ تضعها أنت، إذًا فقد سطرت قصّة نجاحٍ باهرة".
ويضيف "النساء يذهبن بعد معاناةٍ كبيرةٍ نظراً لمعارضتهن رغبة الأهل أو استدانتهنّ مبالغ هائلة. وحين يعدن قسرًا إلى إثيوبيا يتوارين عن الأنظار ولا يرجعن إلى بيت العائلة".
ويقول "ميليز": "لا يمكنك أيضًا إطلاق الأحكام على العائلة، فالعبء الذي تحمله ثقيل أيضًا"، وفق تعبيره.
ترى "عايدة أويل"، كبيرة المستشارين الفنيين في مشروع منظمة العمل الدولية بشأن العاملات المنزلية المهاجرات إلى دول مجلس التعاون الخليجي، بأن معظم المشاكل النفسية الاجتماعية التي تواجهها العاملات المهاجرات ترجع إلى عدم تحقيق توقّعاتهن.
"ليست لديهن أدنى فكرة عمّا سيواجهن وعن كيفية التصرف في المواقف الصعبة. كثير منهن لا يتحدّثن الأمهريّة حتى، فما بالك بالإنجليزية أو العربية. حيث يتحدث معظمهنّ لغات إثيوبيةً أخرى، مما يضعهن في مأزقٍ حقيقي".
وتضيف "إنهن يشعرن بأن عليهن التظاهر بكونهنّ مسلمات إن لم يكنّ مسلمات. ولذلك يغيّرن أسماءهنّ للتعبير عن شخصياتهنّ الجديدة".
تشير "أويل" إلى أنه قبل عام 2013 حين كنّ النساء يستعددْن للسفر، كانت تعقد لهن جلسة توجيهية مدتها ثلاث ساعاتٍ على المستوى الاتحادي. "في الحالة المثالية ينبغي إجراء تدريبٍ يسبق الوظيفة بحيث يتسنّى للعاملة الفرصة لتغيير رأيها أو اتخاذ القرار الصحيح".
ويؤكد الإعلان الجديد للتوظيف في الخارج الذي يرفع الحظر عن المواطنين الذين يهاجرون من أجل العمل المنزلي، يؤكد أيضاً على التدريب قبل المغادرة، لكنه لا يحسن توضيح الإرشادات حول الفترة الزمنية التي يجب أن تنعقد فيها هذه التدريبات قبل المغادرة مما يؤثر سلبا على مدى فاعليتها. يوضح الجدول الوارد في نهاية هذه المقالة مزيدًا من محتويات الإعلان.
"آغار إثيوبيا"، هو مركز أنشئ منذ 12 عامًا في الجزء الثري من "أديس" لرعاية كبار السن، ولكنه الآن يستخدم كمركز لإعادة تأهيل ضحايا تهريب البشر العائدين إلى إثيوبيا. بإمكان الجناح الكبير من المركز أن يستوعب ما يصل إلى 100 شخص؛ إلا أنه حتى أواخر شهر سبتمبر فإن عدد الأشخاص المتواجدين فيه لا يتجاوز 35 عائدًا بمن فيهم الأطفال. غير أنّ المركز يتوقع قدوم المزيد من المهاجرين مع انتهاء قرار العفو السعودي.
يقول "أبيرا أديبا": "ستشهد المرحلة الأولى من العفو عودة أولئك الذين يتوفّر عندهم الموارد والدعم. وسيحدث الترحيل الجماعي في نهاية المطاف، وبسبب ذلك نحن نستعد".
لقد عاين "أديبا" كافة أنواع الإساءات التي تواجهها المهاجرات في دول الخليج العربي كالاغتصاب والأذى الجسدي والعاطفي، وما يترتّب علي ذلك من انهيار الصحة النفسية.
"آغار" هي ملاذ لمن يستعصي تأهيلهنّ على نحوٍ سريع أو فوري. إن جود كلب أليف، ومجموعة من الأطفال مع ألعابهم ـــ منهم حديثو الولادة ومنهم من لم يبلغوا سن المدرسة بعد ـــ، كل ذلك يساعد على وجود متنفس بسيط مقارنة مع البيئة القاتمة التي كنّ يعشن فيها.
أغلب العاملين في المركز هم من الذكور، ما عدا ممرضة واحدة فقط. وهو الأمر الذي يذكّرنا بالتركيبة الذكورية القوية للمجتمع.
تعاني الكثير من نزيلات المركز من مشاكل نفسية مستعصية. وحول ذلك يقول "أديبا": "الأسباب ليست معروفةً دئماً. قد تكون هناك عوامل مكرسة مسبقا ومتفاقمة. وهناك أيضًا العامل الاستفزازي الذي يواجهنه في دول الخليج".
ولدى "أديبا" شعور أيضًا بأن الافتقار إلى المهارات الحياتية، كمهارات التواصل مع الآخرين والمهارات المهنية؛ وخاصة بالنسبة إلى المهاجرات المتحدّرات من مناطق ريفية، قد يساهم في ذلك أيضًا. ناهيك عن افتقارهن إلى المجتمعات المترابطة التي ابتعدن عنها كي يعملن ويعشن في عزلةٍ شديدةٍ يعانين فيها من ضغطٍ هائلٍ في العمل.
...تعتقد [الأسرة] أنهن مجرمات أو "بغايا" أو أنهن منخرطات في علاقات مع الرجال، ولهذا ينبذونهن".
ويقول إن الكثير منهنّ يعانين أيضًا من أزمة هويةٍ حادّة. "يشعرن بأن عليهن التظاهر بأنهن مسلمات إن لم يكنّ كذلك، ولذلك يغيّرن أسماءهنّ بما يعبّر عن شخصياتهنّ الجديدة".
يلتقط الدكتور "دانيال كيفتاس" من جمعية هارمي للتعليم من أجل التنمية خيط الحديث: "ثمّة ميل للهجرة في أوساط المجتمعات المسلمة في المنطقة. ربما يُعزى السبب الأكبر في ذلك إلى كونهن أكثر ارتباطاً (عقيدياً) ببلدان الهجرة. قد تذهب المسيحيات أيضًا. لكن الكثير منهن يغيّرن أسماءهن ويحاولن العبور باعتبارهن مسلمات؛ ذلك لشعورهن بأنّهن سيتلقّين معاملةً مختلفة. ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى ارتدائهن الحجاب عندما يحصلن على جوازات السفر، حتى ولو لم يغيرن دينهنّ بشكل رسمي".
اضطرت سلام التي تعتنق المسيحية (رابط الجزء 1) إلى التظاهر بأنها مسلمة. "لا أعتقد أنهم كانوا يعارضون كوني مسيحية، ولكن قريبتي التي وجدت لي العمل أخبرتهم أني مسلمة؛ ولذلك كان علي أن أمثّل ذلك". تقول صديقتها "سابا" إنها لم تكن لديها مشكلة في إشهار دينها "لم تكن لديهم مشكلة في كوني أدين بالمسيحية".
من ناحية أخرى، كانت "هاليويا" تشعر أن دينها أعطاها شيئًا من الحماية ضد الروايات السلبية التي تعاني منها المهاجرات الإثيوبيات في الخليج.
يقول "أديبا": "إنهنّ يتعلّمن من الضحايا أنفسهن عندما يأتين إلى هنا. معظم النساء اللاتي يأتين إلى المأوى يُقمن فيه مدة تتراوح من ثلاثة إلى ستة أشهر في المتوسّط. بعضهن كنّ يعاملن [من قبل أسرهن] على أنهنّ استثمار أو (مشروع حياة). لكن حين يعدن خاليات الوفاض، وبحوزتهنّ طفل، تزداد وطأة التحريم ضعفين وثلاثة".
يتابع "وعندما ترفض أسرهن استقبالهن، تتعرض صحّتهن النفسية إلى صفعة إضافية. نقدّم الاستشارات إلى الأسر أيضًا. ولكنهم يعتقدون أنهن مجرمات أو (بغايا) أو أنهن منخرطات في علاقات مع الرجال، ولهذا ينبذونهن".
"فييس" فتاة في الـ 25 من العمر. توضح أوراق قبولها لدى مركز "آغار" أنها تقيم فيه منذ 25 يناير من هذا العام. بيد أنها تعاني من اضطرابات في الذاكرة، وتعتقد أنها عادت إلى البلاد منذ ثلاثة أشهر فقط. تنتمي "فييسا" إلى إقليم "أوروميا" في إثيوبيا الذي شهد سنوات من النزاع.
خلال الأشهر التسعة التي عملت فيها في بيروت، لم تتلقّ فلسًا واحدًا. أعيدت إلى الوسيط عندما أصيبت بمرض شديد بعد أن حُرمت من الطعام اللائق وعانت من ضغطٍ شديدٍ في العمل.
كان من الممكن أن تصبح "مشروع حياة" كما ذكر "أديبا".
"عزيزة عبدول" أكثر صراحةً عندما تروي التجارب المريعة التي عانت منها في اليمن، بيد أن صوتها خالٍ من أي مشاعر.
ذهبت عزيزة إلى اليمن قبل 15 عامًا وعملت عاملةً منزلية. وبعد خمس سنوات، تزوجت من يمنيٍ أساء إليها جسديًا ونفسيًا. "أنجبت حينها توأمين. وقد أرغمنا جميعًا على التسوّل. ادّخرت مالاً ودفعت لأحد المهرّبين واستطعت الفرار. ذهبت إلى أسرتي، وأردت إحضار أطفالي أيضًا. ولكنهم تركوني هنا (في آغار)".
لا تعرف عزيزة ما الذي حدث لطفليها وفقدت الأمل أيضًا في العودة إلى أسرتها. في كل يوم، تطاردها ذكريات التجربة التي مرت بها وطفليها اللذين هجرتهما. كانت عزيزة تتكلم ببرود وكأنها تتحدّث عن الوجبة التي تناولتها على الإفطار.
ثمّة حاجة ملحّة لتوسيع نطاق حوارات الجمعية لأنه خلال الأشهر المقبلة، يجب علي إثيوبيا أن تتعامل مع آلاف العائدين وأن تستعدّ للهجرة الشرعية أيضًا.
في "ديزي"، تجتمع الأمهات خلال طقوس احتساء القهوة التقليدية (البونا تيتو) للتحدّث عن الهجرة. وهي إستراتيجية استخدمت في ذروة انتشار وباء نقص المناعة المكتسب (الإيدز) لتعليم المجتمعات المحلية وإشراكها. وهي الآن تستخدم لغرض الهجرة الآمنة.
وكما في طقوس احتساء القهوة، تُختار مجموعات تقليدية أخرى للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية.
على سبيل المثال؛ هناك مجموعات الضمان المجتمعي غير الرسمية التي تعرف باسم "Iddir" والتي تحصل على تبرعات الأشخاص والعائلات المنتمية لها. لقد تم استخدم هذه المجموعات القائمة من قبل من أجل رفع الوعي بشأن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وهي تتناول الآن قضية الهجرة الآمنة من خلال مشاريع تجريبية مختارة في "أديس".
يأمل القائمون على هذه المبادرات أن تصل الرسالة التي لا تستطيع الحكومة نشرها على نحوٍ فعال بسبب انعدام الثقة، تصل إلى المجتمع من خلال هذه المجموعات. ما هي الرسالة؟ ليس فقط قبول النساء العائدات واللاتي يعانين من محنة؛ إنما أيضاً ضمان عدم ارتكابهن الأخطاء نفسها تحت الإكراه أو من خلال الوعود الكاذبة.