الهبوط على أرض قطر: المرة الأولى كانت رائعة، الثانية ....
في الجزء الثاني والختامي، نوح يتذكر تجربته في وضعين متباينين بالدوحة، قطر
من نافذتي، كان بإمكاني رؤية أضواء المدينة في طريقنا لدخول الدوحة في يناير 2016. ذُهلت لامتداها على مدى أميال. كانت تلك هي المرة الأولى التي أسافر فيها خارج بلادي. المرة الأولى التي أكون فيها بعيداً جدا. كنت قلقاً ومترقباً، وكان عقلي يعمل بسرعة، أفكر فيما ينتظرني خارج هذه الطائرة.
أتذكر شعوري بالبرد القارس عندما نزلنا إلى المدرج ودخلنا إلى حافلة الانتظار، حيث وقفنا على مسافات قريبة من بعضنا بينما كنا نمسك بالمقابض المتدلية من الأعلى، وبالقضبان الممدودة بين أرضية الحافلة وسقفها في طريقنا إلى قسم القادمين. كان السائق ثابتاً في قيادته. كان الجمود حولنا لطيفاً معنا.
أُعطي أحد افراد مجموعتنا رقم اتصال برئيس معسكر اقامتنا، من قبل وكيلنا. وبعد الحصول على خط Ooredoo، تم العلم بوصولنا وإرسال السائق. تم أخذنا إلى بروة البراحة، وهو عبارة عن معسكر ضخم إقامة العمال الذكور من مختلف الشركات، وكل واحدة منها تحتل مجمعات مختلفة، ومتكاملة بمرافق الترفيه الداخلية والخارجية، ومحل بقالة كبير (سوبرماركت)، ومطاعم، ومحلات التحويلات المالية، وعيادة، بالإضافة إلى مرافق أخرى. كان سكناً نموذجياً للعمال، كان يجب أن يكون هو المعيار لجميع مساكن الإقامة وليس الاستثناء.
وصلنا حوالي الساعة التاسعة مساءَ. ولكن العشاء كان معبأً من قبل. وبعد الأكل، انتظرنا بضع دقائق قبل أن يتم ارشادنا إلى غرفنا. كانت واسعة، لنستقر فيها بشكل جيد وننال قسطا ًمن الراحة. وفي الأيام التالية، كنا، بدلاَ من الحصول على ثلاث وجبات يومياً، نستلم 500 ريال قطري مقدماَ، ونحضر برامج للتهيئة والتدريب في المقر الرئيسي للشركة. كذلك نذهب لإجراء الفحص الطبي، وأخذ البصمات. وقد تم كل ذلك على مدى أقل من أسبوع واحد، تم نقلنا بعدها إلى سكن آخر للإقامة، وهذه المرة إلى فيلا في السخامة. وهنا أعطينا أطقما من الأواني إذ أننا سوف نقوم بالطبخ لأنفسنا. ماذا عن ترتيبات الإقامة؟ تتكون الفيلا من خمس غرف تتفاوت في مساحاتها. وكانت الأكبر من بينها من نصيبي، وتقع في الطابق الأرضي ويشاركني فيها سبعة آخرين. وكان يقيم في الغرفة الأصغر شخصين. وكان في كل غرفة من الأربع غرف، يوجد ثلاجة. أما في غرفتنا فيوجد ثلاجتان، بحسب رحابة المساحة وأيضا عدد الساكنين فيها.
كان التسوق لشراء الاحتياجات الحياتية يعد أمراً مريحاً، فقد كانت هناك رحلات مجدولة للذهاب إلى السوبرماركت بحافلة تابعة للشركة.
عرفت أن لا أحد يتمتع بامتياز استلام الراتب بشكل منتظم، أو كاملا. فقد كنا من المحظوظين القلائل
العمل
كان الموقع المخصص لنا هو "لؤلؤة قطر"، وهي منطقة شهيرة للغاية، تجمع بين المباني السكنية والمحال التجارية، كما يوجد فيها أعداداً وفيرة من المطاعم والمقاهي. واجهت بعض الصعوبة للتأقلم، إذ لم أعتد على وجود هذا العدد من الأشخاص حولي في جميع الأوقات. هذا عدا الوقوف المتواصل طوال فترة نوبتي في العمل (باستثناء في فترة الاستراحة ومدتها ساعة). كان الصيف هو الأسوأ، بالتناوب بين الأماكن المظللة وبين التعرض لأشعة الشمس المباشرة. أما أولئك المحظوظون منا الذين يعملوا في المنطقة التجارية، وفي الكبائن المكيفة، فقد كانوا موضع غبطة بين الآخرين. الشتاء أيضاً كان قاسياً، خصوصاً للعاملين في النوبات الليلية. فالبرد يتخلل طبقات ثيابك الدافئة وكذلك الأجزاء من الجسم التي تتركها مكشوفة. الشاء في قطر يسخر من جهودك للمحافظة على الدفء. وكل ما تقدم تقوله هو جزء من العمل. الأمن من الأعمال التي تستمر على مدار الساعة، وهذا يعتبر جزءاً مما جئنا إلى هنا من أجله.
كنا محظوظين بما يكفي لنحصل على رواتبنا بشكل شهري وفي تاريخ استحقاقها تقريباً. كذلك استفادت شركتنا من المنصة المالية لـ Ooredoo، مما جعل عملية إرسالنا للأموال إلى أوطاننا فعالة وبإمكاننا اتمامها ونحن مرتاحين في السرير أو على الكرسي ومن أي مكان نكون فيه عندما يتم إيداعها في حساباتنا. وإذا لم تكن الأسعار تناسبك، فبإمكانك الذهاب إلى أيٍ من المنافذ العديدة تحويل العملة.
وفي الوقت الذي كنا نلتقي بنظرائنا من شركات الامن الأخرى، وشركات أخرى تتراوح ما بين المقاولات والضيافة، عرفت أن لا أحد يتمتع بامتياز استلام الراتب بشكل منتظم، أو كاملا. فقد كنا من المحظوظين القلائل.
وإلى جانب ساعات العمل الطويلة، والتعرض لمخاطر المواد والمخاطر العضلية التي يسببها الوقوف لفترات طويلة، والتي تعتبر جزءّ من عملي، فقد كانت مهمتي في هذا الشركة الأولى التي عملت بها جيدة. فقد تعرفت على طريقة تفكير جديدة – واحدة من الفرص.
كان جزءً مما ساهم في ذلك، هو ضمان الحصول على دخل ثابت، ففي أكثر الأماكن أماناً التي عشت فيها والتي تمكنت فيها من الحصول على أشياء -الضرورية وغير الضرورية على السواء- لم تكن في متناول يدي في السابق. ما فعله ذلك هو تعزيز طريقة التفكير. فلازلت أقلق بشأن الطعام، ولكن بدلاً من أن أقلق بشأن الحصول على كفايتي من الطعام، فأنا أقلق الآن على ما سوف أحضّره لوجبتي. كان هذا أحد أكبر القرارات التي كان عليّ دائما اتخاذها. "هممم، يا ترى ما الوجبة التي سوف أتناولها...". في فترات معينة عندما كنت في بلدي، كان يحدث أن أذهب إلى النوم وأنا جائع، وذلك، بشكل أساسي، لأنني لم أكن أملك كفايتي من الطعام، أو لأنني أختار التنازل عن الطعام في سبيل شيء آخر، ولكن في قطر، قد اذهب إلى النوم جائعاً، فقط، لأنني لم أقرر ماذا أتناول من طعام أو، أن لأنني كنت كسولاً للدرجة التي لم أحضر لنفسي طعاماً. هذه هي الحقيقة.
ساعدني التواجد والتفاعل بين أشخاص آتين من خلفيات متنوعة، ممن يكسبون أكثر مني، للتعرف على وجهات نظر بشان الوظائف والحياة بشكل عام. كذلك فهمت كيف يفتح التواصل عبر الشبكات الاجتماعية، الأبواب لك.
إلا أن المساهم الأكبر في طريقة تفكيري هذه، هو الوصول إلى الانترنت السريع واللامحدود. فحتى مع العمل بنظام نوبات الـ 12 ساعة، يجد الشخص متسعاً من الوقت لنفسه/نفسها. وكان الانترنت هو المكان الذي أقضي فيه معظم وقتي، كما يفعل الجميع هنا. (حقيقة ممتعة: عندما تنظر إلى نسبة مستخدمي الانترنت في مقابل إجمالي عدد السكان، تجد قطر عند نسبة 95% ، وتفوق في ذلك الصين، والهند، والولايات المتحدة الأميركية و10 دول أخرى حتى وقت كتابة هذا المقال).
كان لدي أحلام أن أعمل لحسابي الخاص. وبالرغم أنه استغرقني بعض الوقت لمعرفة ما أريده تحديداً. فقد كنت أدخر المال لمدة عام ونصف، وكنت أبحث على الانترنت عن الأعمال التي يمكنني تأسيسها. أو عن الدورات التدريبية التي أستطيع الالتحاق بها لأرفع من قيمتي، ومن قيمة أجري، ولأدخر أكثر ومن ثم يمكنني أن أؤسس شركة أكبر. وخلال هذا البحث، الذي ضم قراءة مقالات ومشاهدة مقاطع فيديو، صادفت عدداً من TED Talks، ومحتوى مماثل، عرّفتني على ديناميكيات الجهود الإنسانية. مثل قضية الجوع بالتحديد التي جذبت اهتمامي. وكان كل فيديو يقودني إلى آخر، ووجدت نفسي منغمساً في الزراعة المستدامة، بهدف إنشاء منظمة لتخفيف الجوع في منطقتي.
واستقر تفكيري على الزراعة في البيوت المحمية (الخضراء)، وهذا ما قمت به في نهاية الامر بعد أن أتممت آخر شهرين متبقيين في عقد عملي، كانا مليئين بالمحادثات الهاتفية المكثفة، وأفلام الفيديو المحفزة لي لأترك عملي وألحق بأحلامي.
قمت بتخطيط كل شيء. الشيء الوحيد الذي لم أحسب حسابه هو الطبيعة الإنسانية. باختصار، تم اغتيال حلمي بجشع شخص واحد. وكلما حاولت إعادة الحياة إليه للجزء الأفضل من العام، كان الفشل هو نصيبي في كل مرة.
وأصبح علينا أن نقبل بأن نبدأ براتب قدره 1250 ريال قطري لـ 12 ساعة في اليوم، لـ 26 يوم في الشهر. ولم يكن العمل الإضافي مضموناً، ولكن سيُدفع لك 75 ريال قطري عن كل يوم عمل خلال الإجازة مما يرفع الإجمالي إلى 1550 ريال قطري
القرار
بعد مرور عام، وبعد تآكل مدخراتي، لم يعد لدي رأس مال لإحياء حلمي. وبسبب الديون كانت خياراتي تضيق إلا من ملاذ أخير، وهو الخليج مرة أخرى. وفي الأصل لم أكن راغباً في العودة للعمل في الخليج، إلا أنني لم أعرف طريقة أخرى لكسب المال سوى الأمان الوظيفي.
بدأت أتصفح الفيس بوك للبحث عن وكالات التوظيف المعروفة.
كنت، في الأصل، راغباً في العمل في الإمارات، لأنني سمعت أن الأمور هناك أفضل. من الأجر إلى الظروف المعيشية وفرص التقدم الوظيفي. إلا أن الوظائف في الإمارات لم تكون وفيرة مثلها في قطر والسعودية. ومع وضعي الحالي، لم يكن ترف انتظار الفرصة الأفضل ممكناً، ولذلك فقد أخذت أوّل فرصة توفّرت لي. 1500 ريال قطري لـ12 ساعة عمل في اليوم، لـ6 أيام في الأسبوع. ويعتبر ذلك معيار غير رسمي لحراس الأمن. وهناك بعض الشركات تدفع رواتب أعلى، إلا أن هناك شركات أكثر بكثير تدفع أقل من ذلك.
خلال جلسة التعريف بالعمل، علمنا من الموارد البشرية، أنه بدلاً عن الـ 1500 ريال قطري التي كان معلناً عنها، سحبت الشركة علينا، وأصبح علينا أن نقبل بأن نبدأ براتب قدره 1250 ريال قطري لـ 12 ساعة في اليوم، لـ 26 يوم في الشهر. ولم يكن العمل الإضافي مضموناً، ولكن سيُدفع لك 75 ريال قطري عن كل يوم عمل خلال الإجازة مما يرفع الإجمالي إلى 1550 ريال قطري، في حالة العمل لـ 30 يوم في الشهر. أي الشهر بأكمله دون الحصول على يوم إجازة. وقالوا لنا أنهم سوف يقومون بـ “مراجعة الأداء" مرة كل ستة شهور مع تعديل الرواتب بناء على ذلك، مع ضمان الترقيات لهؤلاء الذين يُظهرون إمكانيات للتقدم. وإذا، لأي سبب من الأسباب، لم تتمكن من الحصول على ترقية أو دفعة لراتبك خلال فترة السنتين، فسوف تستلم 250 ريال قطري “علاوة حارس أول" عند تجديد عقدك. كما أن تحديد موقع عملك سيعتمد على أدائك خلال التدريب والتقييمات المترتبة عليه. فعلى سبيل المثال، إذا ما كان أداؤك جيداً خلال هذه التقييمات، سوف تحصل على عمل في فندق، أو في مباني سكنية وفي المطار وهذه الأعمال تأتي مع علاوات إضافية مقدارها 150 ريال قطري.
عندما أخبرونا بهذه التفاصيل، كان سهلاً علينا تقبل ذلك. فقد بدا تخفيض الأجر المعلن مبرراً. ومع ذلك فقد كنت واثقاً جداً في أثناء المقابلة، مستفيداً من خبرتي العملية السابقة. وكنت واثقاً جداَ من أنني تمكنت من التفاوض معهم لمنحي توصية للحصول على ترقية الإشراف عند ظهور فرصة شاغرة.
ومع انتهاء المقابلات، وتوقيع العقود ودفع رسوم التوظيف، كنا نعد الأيام المتبقية على الرحلة أملا في الاستقرار المالي والوعد بمستقبل مشرق.
... وصلنا إلى هذا السكن البشع. وكانت الشاحنات، والباصات وعدد من المركبات التي تبدو غير جديرة بالسير في الشوارع متوقفة على جانبي الطريق المغبرة القذرة.
أتحب السحر؟
كانت الأشياء جميعها تتدحرج إلى الأدنى منذ لحظة هبوطنا حوالي الساعة 11:30 مساءً. وكان ذلك في سبتمبر 2018. قيل لنا أن نبحث عن شخص يحمل يافطة عليها اسم شركتنا في منطقة القادمين. ولم نرَ شيئاً من هذا. فكنت أنا من لاحظ اسم شركتنا وعلامتها التجارية على حارس أمن ومن ثم توجهت إليه وأخبرته أننا سننضم للشركة وأننا لم نجد أحد في استقبالنا. فطلب منا أن نجلس ريثما يبحث عن رئيسه، الذي قال لنا بدوره أن نبقى في مكاننا. وكما اتضح بأنه لم يكن هناك مواصلات مخصصة لنا، وكان علينا أن نستقل الحافلة التي ستنقل العمال المنتهية نوبتهم، والتي وصلت بعد عدة ساعات من وصولنا. وبالباص، أو ما أعنيه الباصات البيضاء الضخمة، كان يُنقل العمال بوحشية من وإلى مواقع أعمال المقاولات. بصعوبة بالغة تمكنا من نقل أمتعتنا إلى الحافلة، ومضينا.
عندما غادرنا المطار وأصبحنا على الطريق السريعة (الهايواي)، لم أكن قادراً على الانتظار للحصول على قسط من النوم، وبدا من الأشياء أننا متوجهين إلى بروة البراحة. تخيل حيرتي عندما تجاوز الباص سريعاً المخرج الذي كان عليه أن يسلكه. وبينما كنت أحاول فهم ذلك، توقف الباص المسخ لفترة ثم أخذ مخرجاً كان يؤدي إلى المنطقة الصناعية. وبعد بضعة استدارات وصلنا إلى هذا السكن البشع. وكانت الشاحنات، والباصات وعدد من المركبات التي تبدو غير جديرة بالسير في الشوارع متوقفة على جانبي الطريق المغبرة القذرة. جئت إلى هنا في السابق. ولكنني في المرة السابقة، خلال فترة عملي مع الشركة الأخرى، كنت على الجانب الآخر من المشهد، في حالة من عدم التصديق، بينما كنت اشاهد وسائل الإعلام الدولية توثق هذه الأوضاع. ولم يُضِع الخوف وقته ليداهمني.
في غرفة سيئة الإضاءة مجاورة لمكتبه، خاطبنا رئيس المعسكر، وبعدها أراحنا من جوازات سفرنا وأخذها بهدف "الحفاظ" عليها، كما كتب أسمائنا، وتم نقلنا إلى معسكر آخر يبعد مدة 10 دقائق يشبه في بشاعته المعسكر الأول. لا أستطيع تذكر الوقت. بالتأكيد كان متأخراً، في حوالي الساعة الثالثة صباحاً. بدون أن يُقدم لنا الكثير، ككأس من الماء، تم ارشادنا إلى غرفنا. وعلى غير استعداد صعدت إلى السرير العلوي في السرير ذي الطابقين بشكل تلقائي. وقيما كنت استلقي على السرير، عطِشاَ، ومرهقاً، وبمعدة خالية، كنت أتساءل: “ما هذا الذي ورطت نفسي فيه".
استيقظت في صباح اليوم التالي بصداع فظيع، وبفم أكثر جفافاً من الصحراء، لكنني لم أكن جائعاً. لقد جربت هذا الموقف مرات عديدة في السابق – الذهاب إلى الفراش جائعاً – كنا أبني نوعاً من المقاومة إذا ما قلت ذلك لنفسي. وكان من المفترض أن نُعطَى 200 ريال قطري عند الوصول، ولكن هذا لم يحدث إلا بعد مرور عدة أيام تالية. وتمكنا من النجاة بسبب كرم زملائنا الذين أقلقهم وضعنا، والذين شاركونا طعامهم أحياناَ، أو أعارونا أوانيهم والمواد الغذائية بما يمكننا من الطبخ في الوقت الذي يكونون فيه في العمل. واستمر ذلك عدة أيام، وعنما استلمنا، أخيراً علاوة الطعام، كما أُخبرنا بأن علينا أن نتدبر أمورنا بـ 200 ريال قطري للشهر المقبل بأكمله، إذ أن يوم دفع الرواتب كان وشيكاً، ولأنه لم يتم توزيعنا على مواقع العمل، ولم نكن لنتسلم أي أجر. ولم نكن أصلا نتسلم اية أجور في ذلك الوقت. أوه، بالإضافة إلى ذلك، تم خصم الـ 200 ريال من الرواتب التي تسلمناها الشهر التالي.
وفي وسط كل هذا، حضرنا ورشة عمل مبدئية في اساسيات الأمن، مدتها خمسة أيام وعملنا تقييمات كثيرة متنوعة. هل تتذكر هؤلاء الذين يفترض منهم تحديد مكان عملك؟ نعم، تلك كانت قصة طويلة. فمنذ ذلك الوقت عملت في مواقع متعددة ضمن خمس صناعات مختلفة وتم نقلي ست مرات. الانتقال كان هو الأسوأ. فلم يكن هناك مواصلات مخصصة للانتقال. كان مطلوب منا أن نحشر كل شيء في الباص نفسه أو الحافلة الصغيرة التي ننتقل بها: المراتب، الحقائب، الفرش والوسائد، وأدوات المطبخ وأكياس بلاستيكية تحتوي على أشياء لا أحد يعرف ماهي بالضبط. كانت فوضى. ومن موقعي القريب من الخلف حيث المنظر شاملا، يبدو الوضع دائما وكأننا في طريقنا إلى مكان الردم بالقمامة.
لم يكن النقل إلى ومن العمل أكثر كفاءة من ذلك، ففي بعض الحالات تسير حافلة واحدة على مسار معيّن، لتقوم بتحميل وتنزيل الركاب إلى مواقع مختلفة، الأمر الذي يفاقم عملية التوصيل والوقت المستغرق ويؤدي إلى الإرهاق عند إضافته إلى الـ12 ساعة التي يتم قضائها في العمل.
بشكل عام،لم يكن مكان الإقامة هو الأفضل. وقد تطرقت إلى ذلك في مقالاتي السابقة. وكان بروة البراحة هو أفضل مكان سكنّا فيه برغم أنه كان مؤقتاً عندما تم التعاقد على عملنا في مشروع سكة قطر للقطار. ولو تُرك الأمر لشركتنا لكنا 10 اشخاص نقيم في الغرفة الواحدة بدلا من 4 حسب طلب العميل.
ومع ذلك، تبدو كل هذه المضايقات غير مهمة في يوم دفع الرواتب. فشركتنا هذه، مثل شركتي السابقة، تدفع الرواتب شهرياً. نحن محظوظون لأننا نتمتع بذلك، فالكثيرين محرومين من ذلك.
ومر شهر آخر تم احتماله، لتؤكد رسالة نصية من البنك أن الأجر قد دُفع. البعض يقترب أكثر الأشياء التي يسعى لها، فيما البعض الآخر يبتعد أكثر من الأشياء التي يهرب منها.
وجميعنا نحاول تحقيق أفضل الممكن مما وضعنا أنفسنا فيه.
تصوير: ديفيد ماكيلفي