لقد وصلت إلى المقالات الرئيسية

في الاستعداد للتحليق

في 11 يونيو 2020

أصل الفكرة 

نظر إلى بنظرة شعرت أنها اخترقتني وسألني: " مالذي تفعله في حياتك؟".  كان ذلك في اللحظة التي طرح فيها سؤال يبحث في داخل النفس. 

في ذلك الوقت، لم أكن في المكان المثالي. كنت أساساً بلا مأوى- نصف مطرود من قبل خالاتي، ونصف هارب – وكنت أنام على أرائك وأرضيات الناس وأحياناً أحظى بسرير مشترك. وقد التحقت ببعض الأعمال وقمت بأشياء غريبة لأتجاوز الوضع. أشياء هي بالتأكيد لا أفخر بها. اعتبر اليوم جيداً إذا تمكنت من كسب ثلاثة دولارات فيه، لكن مثل هذا اليوم لا يأتي دائما. كنت أتناول الطعام متى ما تسنّى لي ذلك في المكان الذي أتواجد فيه في ذلك الوقت، ولكنني في الغالب كنت أعيش على ما أتلقاه من صدقات. لم أستطع العودة إلى المنزل، ولا يمكنني المضي قدما من حيث ما كنت. كنت عالقاً في وضع من اللاجدوى.  

ولذلك، فعندما طرح عليّ جاري، الذي كان قد عاد للتو من الإمارات لقضاء إجازته، السؤال، كُسرت من الداخل، لكنني حافظت على رسم صورة خارجية خالية من العاطفة. أو على الاقل تظاهرت بذلك. وكنت قد سئمت الوضع الذي كنت عليه، والشخص الذي أصبحته، وكنت أريد مهرباً من ذلك. ولذلك رحبت بفكرة السفر للخليج بعيداً عن عدم الاستقرار، وبعيداً عن الأحكام الاجتماعية وبعيداً عن الحاجة. 

قال لي:" أنت بحاجة للابتعاد عن عيون الناس، وأن تبدأ ببناء مستقبلك". هذه ترجمة حرفية لما قال لي جاري، وهذه الكلمات تصبح أعمق بلغتنا الأصلية. ولذلك كنت منفتحاً لاقتراحه لي بالذهاب إلى قطر أو دبي. فأي مكان سيكون أفضل من الوضع الذي كنت عليه. وذكر لي أن العمل كحارس أمن ليس صعباً وأنه ليس سوى مشي في المتنزه. وكان هو نفسه يعمل في دبي لعدد من السنوات كبوّاب في فندق.

وطلب مني متحدياً أن أكون جاهزاً في اليوم التالي للذهاب إلى وكالة توظيف. في اعتقادي، هي نفسها الوكالة التي توظّف هو من خلالها. وفي اليوم التالي، ذهبنا إلى الوكالة التي كانت تقع في الجزء الأفضل من المدينة، على بعد 45 من حركة المرور الذاهبة إلى مركز المدينة والخارجة منها. 

وهناك، تم تزوير سيرة ذاتية لي لتكون شاملة الخبرة العملية وحتى التوصيات ونسبوها إلى شركة أمن موجودة فعلاً في بلدي. 

وعندما دخلت إلى مكاتب الوكالة، شاهدت ملصقات على الجدار تصور عظمة دول الخليج، بعضها كان استراتيجيا، تجعلك تشعر أن هذا الوكالة هي الوكالة "الوحيدة" القادرة على تحقيق أحلامك. كذلك رأيت صوراً لأشخاص حقيقيين في مراحل مختلفة من حياتهم في الخليج. مثل الطائرة على المدرج، فتيات على السلم على وشك دخول الطائرة ممسكات بتذاكر السفر وجوازاتهن. الجميع مبتسم. عدد من الصور كان يضم شباب وشابات يرتدون أزياء العمل. كل ذلك، في اعتقادي ليرى الباحثون المرتقبون عن عمل، الفرص التي تنتظرهم على الجانب الآخر. 

كا-تشينغ

وسُلِّمت قائمة تشتمل على عدد من المهن لأختار منها. المهن المعتادة مثل حارس الأمن، سائق، منظف، عدة وظائف بقطاع الضيافة. واخترت وظيفة حارس وسائق. فأخبرني أحد الموظفين: “سنتصل بك لإجراء مقابلة لأي منهما يأتي أولاَ". 

وكان عليّ أن أتخلى عن 35 دولار للتسجيل، وإدراج اسمي في "قاعدة بياناتهم" فقط. وجاءني الاتصال بعد يومين ليُبلغوني بوجود فرصة عمل لحارس. وكان مطلوباً مني أن أجهز نفسي للمقابلة. وتتطلب المقابلة السيرة الذاتية شاملة للخبرات السابقة في قطاع الأمن وهي خبرة لا امتلكها. لكن ذلك لم يشكل مشكلة، فالوكالة ستتولى الأمر. فتم تزوير سيرة ذاتية لي لتكون شاملة الخبرة العملية وحتى التوصيات ونسبوها إلى شركة أمن موجودة فعلاً في بلدي. 

وقد تم تحضيرنا خلال الأيام التي سبقت المقابلة شخصياً، ومن خلال الهاتف، والمزيد في صباح يوم المقابلة قبل أن يصل فريق الموارد البشرية من الشركة. وذهبنا إلى الغرفة التي ستجرى فيها المقابلة، وتوزعنا على طاولتين، وعلى كل طاولة يتواجد موظف من الوكالة وآخر من مسئولي الموارد البشرية، غافلين عما كان ينتظرنا من أقدار لكننا كنا نتحلى بالأمل. كانت الأسئلة التي سُئلت لنا أساسية وسهلة مثل: عرّف نفسك، أين عملت، المهام التي كنت تؤديها، وكان سير الاستجواب يعتمد على الإجابات التي تقدمها. وتمكنت من اجتياز المقابلة بمساعدة تحضيرات الصباح وبعض الخيال الخصب. لكنني مع ذلك كنت متوتراً للدرجة التي عندما أخبروني أنني اجتزت المقابلة لم يستوعب ذهني ذلك، وبقيت متأهباً بانتظار السؤال التالي. 

كان الأمر واضحاَ جداً، فقد أخبرتني موظفة الوكالة " بإمكانك الاسترخاء الآن، لقد اجتزت المقابلة يا هذا؟" ولا بد أن يكون موظف الموارد البشرية قد مر بالكثير من هذا الوضع، فقد كان مشغولاً بوضع إشارات على بنود ورقة وبملء استمارة أمامه. 

وسألنا أحد مسئولي الشركة أن نسجل المبلغ الذي دفعناه بالدولار، فكانت هناك شائعة بأن الشركة سوف تقطع العلاقات مع الوكالة وأننا سنحصل على تعويضاً عن المبلغ. إلا أننا لم نسمع من هذا المسئول بعد ذلك. 

ثم جاء وقت العقود، التي لم يتسنى لنا حتى توقيعها أمام مسئول الموارد البشرية. وقد أُّخذ أولئك الذين اجتازوا المقابلة إلى غرفة أخرى حيث جاء موظف الوكالة مصحباً العقود. وفي العقود كتب أن الراتب 1300 ريال قطري (350 دولار أميركي) لفترة عمل مقدارها 8 ساعات يومياً، لمدة ستة أيام في الأسبوع، وكان هناك بند يذكر أنه إذا ما تطلب العمل في بعض المواقع 12 ساعة يومياً، سوف ينعكس ذلك في الراتب في شكل علاوة الوقت الإضافي. وفي ذلك الوقت لم أهتم كثيراً بتفاصيل العقد، فقد كنت سعيداً بفكرة الهرب من الوضع الذي كنت فيه، وكسب بعض المال، كصيد عصفورين بحجر، فقد وقعت العقد بلا تردد. 

وكان علينا بعد ذلك أن نودع رسوم الوكالة، هي الرسوم ذاتها المفروض في كل وكالة تقريباً، بأسرع وقت ممكن. ذلك برغم أنني أتذكر رؤية بعض الأعمال المحددة لا تتطلب رسوماً، مثل عمال التنظيف، عاملات المنازل. أما الآخرين فيجب عليهم الدفع. وفي حالتنا، كان علينا أن ندفع مبلغاً إجمالياً قدره 1200 دولار أميركي، إلا أننا دفعنا نصف المبلغ في البداية لمعالجة بياناتنا، وهي التذاكر وتأشيرة الإقامة تحديداً. وبعد ذلك كان علينا أن نخضع للفحص الطبي في عيادة محددة أوصت بها وكالة الوظيف. ويكلف الفحص 100 دولار. وكنت أيضا متوتراً فيما كنت أنتظر نتائج الفحص. بسبب نمط الحياة السيء الذي كنت أعيشه على مدى سنوات. إلا أن النتائج جاءت سليمة. ويعتبر ذلك بمثابة الضوء الأخضر لدفع النصف المتبقي من رسوم الوكالة. 

وبلغ اجمالي ما يتوجب دفعه شاملاً سوم الوكالة، ولقاح الحمى الصفراء، والمواصلات إلى ومن الوكالة، بالإضافة إلى تكاليف أخرى، نحو 1400 دولار أميركي. وكان لدي جواز للسفر، أما إذا كان عليّ استصدار جواز جديد فعلي أن أدفع 45 دولار، وأضيف عليه بعض المال لموظفي الهجرة لتسريع الإجراءات. كان عليّ أن أتحمل مبالغ الإكراميات التي تدفع لهذا التسريع. 

ولم أعلم، حتى وصلت إلى قطرن أنه لم يكن علينا دفع أية مبالغ للتوظيف. وسألنا أحد مسئولي الشركة أن نسجل المبلغ الذي دفعناه بالدولار، فكانت هناك شائعة بأن الشركة سوف تقطع العلاقات مع الوكالة وأننا سنحصل على تعويضاً عن المبلغ. إلا أننا لم نسمع من هذا المسئول بعد ذلك.

أتذكر انني كنت قلقاً خلال هذه العملية، لأنني لم أكد متأكداً أن كان بإمكان والدتي أن توفّر هذا المبلغ من المال. وخصوصاً في مثل هذه الفترة القصيرة. فهي نفسها كانت قد هاجرت إلى أوروبا عندما كنت في الخامسة من عمري، ولم نتكلم، في الحقيقة، عن هذا الأمر كثيرا. كانت مطلقة ولديها طفلين ترعاهما. تمكنت من اجتياز ذلك، لا أعرف كيف تمكنت من ذلك، لم اسألها قط، ولا أظن أنني سأفعل أبداً. 

الاستعداد للانطلاق

قبل السفر بيوم أو يومين، حضرنا محاضرة نظمتها وكالة التوظيف – لم يحضر أي مسئول حكومي. قيل لنا أن نرسل دائما المال إلى بلدنا فور استلامنا رواتبنا، فلربما يحدث أمراً يستدعى الحاجة لها. وتم تعريفنا بطقس قطر – كنا نعرف أنه حار، وليس باردا ولذلك تم نصحنا بحزم بعض الملابس الدافئة أيضاً. 

أما أكثر الأشياء التي لا تنسى، فهي عندما قيل لنا أن نتجنب أي نوع من التواصل مع النساء، حتى أولئك اللاتي ينتمين إلى بلدنا، ويشمل هذا التواصل حتى المحادثات العادية أنها قد تؤدي إلى ترحيلنا. كنا ذاهبين إلى هناك للعمل، ادخار المال ومن ثم العودة، ولا شيء سوى ذلك. كما قالوا لنا، أيضا، ألا ننظر مباشرة إلى النساء "العربيات"، فإذا وجدتموهن يأتون من هذا الطريق عليكم أن تنظروا في الاتجاه الآخر. كان الموضوع العام لمحاضرتنا الحذر في جزءٍ منه، والجزء الآخر هو الخوف. 

ولم يكن فيه أي إشارة إلى كيفية التواصل مع السفارة في حال كان لنا حاجة لذلك. وكان الشي ء الجيد الذي أتذكره جيدا ًوهو يعاد على مسامعنا، أن رواتبنا سوف لن تكون خاضعة للضرائب. 

وفي المطار، بينما كنت أستعد لرحلتي، أمسك بجواز سفري وتذكرتي في يدي، أحسست أخيراً بالسلام...

تصوير: مدام فيوري https://flic.kr/p/5xcpr7